دفعتني متابعتي اليومية للإنترنت وزيارتي الحالية للولايات المتحدة الأمريكية لكتابة هذا المقال السريع.
وغرضي من هذا المقال هو أولاً التعريف بما يدور حاليًا في هذا المجال؛ موضوع المقال،
وثانيًا هو طرح الأسئلة، دون تقديم الإجابات بالضرورة، في هذا الشأن.
من خلال مدرسته الرائدة "التحليل النفسي Psychoanalysis"، أسس سيجموند فرويد[1] في مطلع القرن العشرين (بالتحديد عام ١٨٩٦) ما تم التعارف على تسميته "العلاج النفسي بالكلام Talk Therapy"، والذي شمل في رداءه جميع المدارس والحركات التصحيحية اللاحقة في العلاج النفسي، وذلك في مقابل محاولات العلاجات النفسية السابقة عن طريق العقاقير الأولية، وإجراء الجراحات النفسية (بالمخ) والإيداع للأبد بالمستشفيات.
منذ ذلك الحين ظل العلاج عن طريق الكلام هو كل ما يُمكن أن نعرفه في العلاجات النفسية، حتى وإن استدعى الأمر التدخل الدوائي أو أي تدريبات سلوكية فكان ذلك يحدث في إطار من العلاج المعتمد أساسًا على الحوار مع المريض (العميل/المستشير). وكما جاهد فرويد في نهايات القرن التاسع عشر لترسيخ هذا الاكتشاف الفذ، قاوم خلفائه محاولات السلوكيين[2] الأوائل Behaviorists للتعامل مع الاضطرابات النفسية للأفراد بطريقة آلية ميكانيكية، كما الروبوت، مثلما كانت تجاربهم تجري بنجاح على الفئران والكلاب، ونجحوا في تقويضها وضمها لعباءة العلاج بالكلام من خلال التزاوج الذي عرفناه منذ عام ١٩٦٠ باسم "العلاج السلوكي المعرفي[3] Cognitive Behavioral Therapy".
وبعد قرن كامل من الزمان تأسس وتوطد فيه العلاج النفسي على الحوار الشخصي مع العميل/المستشير (والذي لم يعد مجرد مريض) كعمودٍ فقريّ، بلا نزاع في ذلك، لعملية العلاج النفسي، حتى أتت تسعينيات القرن العشرين حين تم تطوير جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي Functional Magnetic Resonance Imaging, fMRI!!
ماذا فعل جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI؟
باختصار شديد جدًا، ولَّد تصوير المخ بهذا الجهاز الجديد ثورة في فهم المخ في عدّة مناحي، واحدة من هذه المناحي هو علم النفس المتعلق بالجهاز العصبي[4] Neuropsychology. ومنذ ذلك الوقت في بدايات القرن الحادي والعشرين بدأت مئات بل آلاف الدراسات تُكتب حول ما تم رصده لأول مرة من تأثير للصدمات النفسية (والتي صارت مصطلح يُطلق على أغلب مسببات الاضطرابات النفسية)[5] على المخ وتأثير ذلك على الجهاز المعرفي والجهاز الحركي وارتباطهم بالسلوك الإنساني!!
دفع ذلك الدارسين إلى تحويل جهودهم لمسارٍ مختلف في العمل على تطوير اتجاه علاجي جديد يقوم على وسائل وتقنيات مختلفة أيسر وأسرع لتعديل هذا التأثير الضار طالما أن ذلك ممكنًا، وهو ما يبدو أنه بالفعل ممكنًا، فصارت هذه التقنيات تستهدف تعديل ما أحدثته الصدمات في المخ والجهاز العصبي بطريقة مباشرة، دون حتى الاحتياج إلى الحديث عن الصدمة نفسها على الإطلاق.
على سبيل المثال نجد أولاً الظهور المبكر لتقنية تُدعى تقليل الحساسية النفسية بواسطة استثارة حركة العين الترددية[6] وإعادة معالجة البيانات والذكريات المتعلقة بالصدمة[7] في المخ Eye Movement desensitization and Reprocessing, EMDR، والتي طورتها د. فرانسين شابيرو Francine Shapiro عام ١٩٩٥ للعمل مع ضحايا الصدمات وبالأخص الجنود العائدين من الحروب، كذلك استخدام الأدوات المتعددة، حتى الرقمية منها، التي تستند على بيولوجيا الإنسان وتقوم، من ضمن ما تقوم، بالعمل على تعليم الشخص التحكم في التوتر بدنيًا بما يؤثر على المشاعر ومن ثم الأفكار فيما يُسمى بالارتجاع الحيوي/البيولوجي [8]Biofeedback (رجاء قراءة المزيد عبر الإنترنت). كذلك نرى توظيف تقنيات التأمل الشرقية القديمة المعروفة باسم "اليقظة/الوعي [9]Mindfulness" وفنيات العلاج بالفن للتحكم في التوتر وتعزيز مهارات العيش "هنا والآن" المعروفة في المدارس العلاجية التقليدية. وهو من أشهر الفنيات التي تبنتها علاجات سابقة مثل السيكودراما[10] Psychodrama، والعلاج الجدلي السلوكي Dialectical Behavioral Therapy, DBT[11].
وأخيرًا تأتي الأعمال المعاصرة اللافتة للانتباه لكل من د. بيسيل فان ديركولك Bessel van der Kolk[12] صاحب الكتاب الشهير "الجسم يحتفظ بالتأثير The Body Keeps the Score" والذي طرح فيه المقاربة approach المبتكرة الخاصة به والمستندة على العلاقة المتبادلة بين التأثيرات النفسية والبدن والمعالجات المقترحة منه في هذا المجال، وأيضًا أعمال د. بيتر ليفين Dr. Peter Levine[13] المميزة عن التأثير الجسماني للصدمات النفسية ومعالجاته غير التقليدية لضحايا صدمات الحرب لبعض الجنود العائدين من حرب الخليج ذات النجاحات المُسجّلة (رجاء قراءة المزيد عبر الإنترنت)!
وهنا نأتي للأسئلة التي يطرحها هذا التطور السريع علينا...
هل نحن فعلاً بصدد انحسار لتيار العلاج الكلامي الذي ساد لمائة عام، بما قد يؤدي لاندثاره في المستقبل القريب؟ هل تقودنا نجاحات تقنيات العلاجات البيولوجية والعصبية إلى التنازل عن إقامة علاقة وحوار شخصي مع العميل، بما يوفر الكثير من الوقت والمال والمعاناة للعميل نفسه كما للمعالج أيضًا؟ هل ستتطور قريبًا العلاجات والمقاربات الحديثة السريعة تلك لتشمل جميع أنواع الاضطرابات النفسية المختلفة؟ هل سيؤثر ذلك على تقليل احتياج الشخص للعقاقير النفسية وبالتالي تلافي التأثيرات الجانبية الضارة لتلك المواد الكيميائية؟
وأخيرًا، هل نجاحات تقنيات العلاجات البيولوجية والعصبية تجعلنا نتنكر للعلاج الكلامي ونلقي عليه باللائمة ونتهمه بتضليل العميل وإرهاقه دون جدوى؟ هل كل التقنيات والتطبيقات التي بُنيت على مكتشفات ودراسات المخ بعد دخول جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI للساحة العلمية، هي تطبيقات علمية إمبريقية[14]، أم ربما العديد منها لا يزيد عن كونه تقليعة أمريكية جديدة؟!
في اعتقادي الشخصي أننا سنشهد تزاوج سريع بين العلاج الكلامي وبين المقاربة البيولوجية تلك في العلاج النفسي، كما شهدنا في القرن الماضي التزاوج بين مدارس العلاج المعرفي وبين المدرسة السلوكية التي لم يمكن السماح لها بالاستمرار كما هي، كما لم يمكن التغاضي عنها وعدم التعلم منها والاستفادة بها. على كل الأحوال، أنه من المبكر جدًا أن نضع إجابات حاسمة لمثل تلك الأسئلة الآن. علينا أن ننتظر ونرقب، مع كل الاستعداد للانفتاح والمتابعة لكل جديد. إني أرى هذا يدعونا، بالأخص في بلداننا العربية لأمرين هامين، أولاً ألا نتوقف عن الدراسة ومتابعة تطورات العلم دون الجمود الفكري الذي نشأنا وتأصلنا عليه، وثانيًا أن نتمهل في التجريب واصدار التقييمات غير العلمية المتعجلة.
وإلى مزيد من التفاصيل لاحقًا.
مشير سمير
أغسطس 2018
[1] سيجموند فرويد Sigmund Freud (١٨٥٦- ١٩٣٩): طبيب أعصاب ومحلل نفسي من النمسا، وهو مؤسس مدرسة التحليل النفسي، ويعتبر هو مؤسس علم النفس الحديث. أشتهر فرويد بنظريته عن العقل الباطن.
[2] أي أتباع المدرسة السلوكية.
[3] مدرسة من مدارس العلاج النفسي، تم الدمج فيها بين العلاج السلوكي والعلاج المعرفي، وقد أثبتت نجاحها في علاج العديد من الاضطرابات النفسية.
[4] اتجاه مدرسي في العلاج النفسي يتناول الاضطرابات النفسية من جهة تأثرها بوظائف المخ والجهاز العصبي، وقد تطور كثيرًا مع نهايات القرن العشرين من أجل التعامل مع الضحايا العائدين من الحروب، تحديدًا للتعامل مع ما تم تشخيصه باضطراب كرب ما بعد الصدمة Post Trauma Stress Disorder.
[5] مع نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين صار مفهوم الصدمة النفسية Trauma يُطلق على تأثير جميع أشكال الإيذاء النفسي للطفل تحت عنوان Childhood Traumas، والتي تلعب دورًا كبيرًا في نشأة الاضطرابات النفسية، ذلك بالإضافة بالطبع لجميع الحوادث الحياتية critical incidents المسببة للصدمات النفسية لدى الفرد البالغ. وكأننا نتحدث عن نشأة منظور جديد لتفسير الاضطراب النفسي في هذا القرن.
[6] المشابهة لما يحدث قبيل النوم.
[7] لإعادة ترميز البيانات والمعلومات المتعلقة بالصدمة في المخ.
[8] هو تقنية يمكن استخدامها لمعرفة كيفية التحكم بالوظائف الجسدية، مثل سرعة القلب. عند استخدام الارتجاع البيولوجي، يوصل الشخص إلى حساسات كهربائية (أو لزقات مغناطيسية صغيرة) تساعده في تلقي معلومات عن الجسم. يساعد هذا الارتجاع في التركيز على إحداث تغييرات دقيقة في الجسم، مثل إرخاء عضلات معينة بهدف الوصول لنتائج يُرغب بها، مثل تسكين الألم، وتخفيض القلق والتوتر. يُعطي هذا الارتجاع البيولوجي في الأساس المقدرة على الاستفادة من الأفكار للتحكم بالجسم، وفي أحوال كثيرة بهدف المساعدة في التغلب على مشكلة صحية أو في المساعدة على أداء جسدي ما. يستخدم الارتجاع البيولوجي غالبًا على هيئة تقنية إسترخاء.
[9] نهج فكري ونفسي يهدف إلى التركيز على الأحداث الداخلية والخارجية التي تحدث في اللحظة الراهنة، ويمكن تطويره من خلال ممارسة التأمل وبعض التدريبات الأخرى.
[10] مصطلح يُطلق على نوع من أنواع العلاج النفسي الذي يجمع بين الدراما كنوع من أنواع الفنون وعلم النفس. تكمن فاعلية هذا العلاج في مساعدة الشخص على تفريغ مشاعره وانفعالاته من خلال أدوار تمثيلية لها علاقة بالمواقف الماضية أو الحاضرة أو حتى التي من الممكن أن يعايشها في المستقبل. وتعد السيكودراما جزء من العلاج الجماعي، وتستخدم في علاج الصدمات، فهي تهدف إلى مساعدة الشخص على فهم مشاعره عبر تجسيد الأحداث في مواقف تمثيلية. يعتبر ليفي مورينو Jacob L. Moreno هو مؤسس السيكودراما، وهو قد كان مناهضًا لأفكار فرويد.
[11] نوع من أنواع العلاجات النفسية الحديثة، طور بواسطة مارشا لينهن Marsha M. Linehan من العلاج المعرفي، وهو قد أبتكر خصيصًا للتعامل مع من يعانون من اضطراب الشخصية الحدية والأفكار الانتحارية، كما أنه استخدم فيما بعد في التعامل مع سلوكيات إيذاء النفس والإدمان.
[12] بيسيل فان ديركولك Bessel van der Kolk (١٩٤٣- ): طبيب نفسي هولندي، معروف بأبحاثه في مجال الصدمات النفسية والأعراض المصاحبة لها.
[13] بيتر ليفين Peter A. Levine (١٩٤٢- ): أخصائي نفسي أمريكي، عمل كاستشاري نفسي في وكالة ناسا للفضاء، معروف عنه إهتمامه بتأثير الصدمات، وقد أسس نهجًا أسماه بالخبرة البدنيةSomatic Experiencing, SE .
[14] مُقاسة ومُثبتة معمليًا.