سلسلة تحقيقات نُشِرت في مجلة "ناشيونال جيوجرافيك" النسخة العربية
01 - يناير - 2016
بقلم: فلورانس ويليامز
عندما تكون منطلقاً بالسيارة في ربوع الصحـراء، فـإن "ديفيـد ستـرايـر" هو مثال الرجل الذي سترغب في أن يتولّى قيادة السيارة . فهو يتحاشى تمامًا إجراء مكالمات هاتفية أو كتابة رسائل قصيرة على هاتفه النقال أثناء القيادة. بل إن من المثالية بمكان أنه لا يوافق إطلاقًا على الأكل في السيارة. وعالِم النفس المعرفيّ هذا العامل لدى "جامعة يوتاه "الأميركية، متخصّص في الانتباه. يَعلم ستراير أننا عندما نُنجز عدّة مهامّ في آن فإن أدمغتنا تميل إلى ارتكاب الأخطاء، نظرًا لأنها تكون في حالة من مقاومة التشتت. وقد أظهرت دراسته - في ما أظهرت -أن استعمال هاتف نقال يُوهن أداء جل السائقين بقدر ما يفعله تناول المشروبات الكحولية .وتخصُّص ستراير النادر هذا يجعله ينفرد بالقدرة على فهم تأثير الحياة العصرية فينا؛ وبصفته يمارس بشغف هواية السفر على القدمين وهو يحمل حقيبة ظهر فقط، فهو يعتقد أنه يعرف الترياق لسموم هذه الحياة..ألاّ وهي الطبيعة.
إنه اليوم الثالث من رحلة التخييم في أودية البراري الواقعة على مقربّة من التجمّع البشري الذي يحمل اسم" بلاف" في ولاية يوتاه؛ وها هو ستراير يخلط مكوّنات فطيرة" إنتشيلادا "مكسيكية بالدجاج في قِدْر حديدية ضخمة وهو يشرح للطلاّب الـ22 الدارسين لعلم النفس ما يدعوه "تأثير الأيام الثلاثة ."إذ يقول إن أدمغتنا ليست آلات حاسبة لا تعرف الكلل؛ بل إنها معرّضة للإصابة بالإعياء بسهولة .لكننا عندما نتمهّل، وننتهي عمّا يشغلنا، ونغمر أنفسنا في أجواء الطبيعة الجميلة التي تحيط بنا، فإننا لا نشعر بأننا قد استعدنا عافيتنا ونشاطنا فحسب، بل نكون قد حسّنا أداءنا الذهني كذلك. وهذا ما عرضه ستراير عمليًّا مع مجموعة الطلبة المخيّمين الذين تطوّعوا للمشاركة في التجربة؛ إذ إن أداءهم تحسّن بمقدار 50 بالمئة في مهام متعلقة بحل المشاكل بطريقة إبداعية بعد ثلاثة أيام من الترحال على الأقدام وهم يحملون متاعهم في حقائب الظهر. ويضيف ستراير أن تأثير الأيام الثلاثة هو بمنزلة عملية تنظيف لشاشتنا الذهنية المتّسخة، تحدث عندما يغمر المرء نفسه في أجواء الطبيعة مدةً كافية. ويأمل الرجل أن يُسجّل هذه العملية وهي تجري مباشرة في رحلة التخييم هذه، وذلك بوَصل طلاّبه –ووصلي أنا كذلك- بجهاز محمول لتخطيط أمواج الدماغ.
يقول ستراير: "في اليوم الثالث تشهد حواسّي عملية إعادة تنظيم وتقويم، فأبدأ بشم روائح لم أشمّها من قبل وبسماع أصوات لم أسمعها من قبل". ها قد أضحت جدران الوادي العمودية مشبعةً باللون الأحمر في ضوء أول المساء؛ وقد أصاب المجموعة الارتخاء والجوع بالطريقة المحببة عند التخييم. أما ستراير، بقميصه القصير الكمّين المتجعد وبشرته التي سفعتها الشمس، فالاسترخاء بادٍ عليه بجلاء. يستأنف عالم النفس هذا حديثه فيقول: "أنا الآن أكثر انسجامًا مع الطبيعة. وإذا خاض المرء تجربة أن يعيش اللحظة يومين أو ثلاثة أيام من دون شيء يصرف انتباهه، فهذا يحقق اختلافًا (إيجابيًا) في التفكير النوعي.. على ما يبدو".
في وقت تُطهي فيه فطائر "إنتشيلادا" يتولى طلاب ستراير حشر رأسي في ما يشبه قلنسوة سباحة مزودة باثني عشر قطبًا كهربائيًّا. ثم يثبتون ستة أقطاب أخررى على وجهي، والتي سترسل الأسلاك الخارجة منها إشارات دماغي الكهربائية إلى مُسجل كي يجري تحليلها فيما بعد. والآن وقد شعرت كأني قنفذ بحر رمته الأمواج على الشاطئ. فإني أمشي بحذر إلى ضفة معشوشية على طول نهر "سان خوان" مدة عشر دقائق وأنا في حالة تأمل مريح. ويُفترض بي ألا أفكر بأي شيء محدد، بل أن أكتفي بمشاهدة النهر الواسع الرقراق وهو يجري برفق عابرًا من أمامي. وقد مضت أيام منذ نظرت إلى شاشة حاسوب أو هاتف نقال؛ وفي موقفٍ كهذا، من السهل أن ينسى المرء للحظات أنه امتلك يومًا أشياءً من ذلك القبيل.
في عام 1865، نظر مهندس المناظر الطبيعية العظيم، "فريدريك لو أومستد"، من فوق "وادي يوسيميتي" فرأى مكانًا جديرًا بأن يُحافظ عليه؛ فحث المجلس التشريعي لولاية كاليفورنيا على حمايته من التوسع العمراني المستفحل. وكان أومستد قد صمم سلفًا الحديقة المركزية (سنترال بارك) في مدينة نيويورك؛ وكان على قناعة بضرورة وجود طبيعة خضراء جميلة كي يستمتع بها الناس، فكتب في ذلك يقول "‘إنها لحقيقةٌ علمية أنّ تأمل المناظر الطبيعية الخلابة بين حين وآخر.. مستحسنٌ لصحة الرجال ونشاطهم، وبخاصة لصحة أذهانهم وتحسن وظيفتها".
الطبيعة تتعهدنا
كما أنها ترفع معنوياتنا وتُحسن مزاجنا. وتقضي نظرية استعادة الانتباه بأن قضاء بعض الوقت في أحضان الطبيعة يُريحنا من التوتر والإجهاد الذهني الناتجين عن "الانتباه الموجه" الذي يتطلبه العمل وحياة المدن.
الانتباه الموجّه
إن القدرة على تركيز الانتباه بصفة إرادية وتجاهل عوامل التشتت وصرف النظر مسألة حاسمة لحل المشاكل وإتمام المهام. لكن الحياة العصرية تتطلب أحيانًا من هذه القدرة أكثر مما تمتلك. وما إن تُستنزف حتى يؤدي المجهود المطوّل والمركّز إلى إرهاق الذهن، وفقدان الفعّالية، والإجهاد.
كان أومستد يُبالغ حينها، فما زعمه لم يكن مرتكزًا على العلم بقدر ما كان مستندًا إلى حدسه الشخصي. لكن حدسه ذاك كان له تاريخ طويل؛ إذ إنه يعود لأول ملوك فارس، قورش الكبير، الذي ينى حدائق للاستجمام قبل نحو 2500 سنة في عاصمة فارس القديمة المزدحمة. وقد عبّر "باراسيلسوس"، الجراح السويسري الألماني في القرن السادس عشر، عن ذلك الحدس نفسه عندما كتب: "إن فن الشفاء هو من الطبيعة، لا الطبيب". وفي عام 1798، تعجب الشاعر الإنجليزي، ويليام وردسميث، وهو يجلس على ضفاف نهر "واي" كيف أن "العين التي تقر بتأثير الانسجام (الموجود في الطبيعة)" توفر الخلاص من "حمىّ العالم". كما ورث كتاب أميركيون، مثل "رالف والدو إميرسون" و"جون موير"، وجهة النظر تلك. وجنبًا إلى جنب (مهندس المناظر الطبيعية) أومستد، فقد أوجد هؤلاء الأساس الروحاني والعاطفي للمطالبة بإنشاء المتنزهات الوطنية الأولى في العالم، زاعمين أن للطبيعة قوى شافية.
لم تكن هنالك أدلة دامغة حينها.. أما اليوم فالأدلة موجودة. فمشاكل الحصة العامة المستشرية مثل البدانة والكآبة وظاهرة قصر النظر الواسعة الانتشار –وهي جمعيًا مرتبطة بوضوح بالأوقات التي يمضيها الناس في الأماكن المغلقة- قد حفزت ستراير وغيره من العلماء على البحث باهتمام متجدد في موضوع تأثير الطبيعة في أدمغتنا وأجسامنا. وتأسيسًا على بعض التطورات في مجالي العلوم العصبية وعلم النفس. فقد بدأوا بقياس ما كان سابقًا مقدسًا وغامضًا. وهذه المقاسات، التي تشمل كل شيء ابتداءً من هرمونات الإجهاد مرورًا بمعدل نبض القلب فالأمواج الدماغية وانتهاءً بعلامات البروتين، تُشير إلى أننا عندما نمضي بعض الوقت في الطبيعة فإن "شيئًا عظيمًا ينتج عن ذلك" على حد قول ستراير.
وقد حلل باحثون من "كلية الطب في جامعة إكسيتر" بإنجلترا مؤخرًا بيانات الصحة النفسية لـ10 آلاف شخص من سكان المدن، واستعملوا خرائط شديدة الدقة لتتبع المناطق التي سكنها هؤلاء الذين شملتهم الدراسة على مدى 18 سنة. وقد توصلوا إلى أن الأشخاص الذين يعيشون في مناطق أقرب للمساحات الخضراء كانوا أقل شكوى من الغم، وذلك حتى بعد تعديل النتائج للأخذ في الاعتبار مستويات الدخل والثقافة والوظيفة (وكل منها عاملٌ مؤثر في الصحة). وفي عام 2009، وجد فريق من الباحثين الهولنديين معدلات أقل لظهور 15 مرضًا –تشمل الاكتئاب والقلق ومرض القلب والسكري والربو والصداع النصفي- لدى الناس الذين لا تبعد منازلهم أكثر من كيلومتر واحد من المساحات الخضراء. وفي عام 2015، جمع فريق بحث دولي الإجابات الواردة في استبيان صحي شمل 31 ألف شخص من سكان مدينة تورونتو الكندية، فربطوا تلك الإجابات مع خريطة المدينة، مربعًا سكنيًّا تضم عددًا أكبر من الأشجار كانوا يُظهرون ارتفاعًا في مستوى صحتهم القلبية والأيضية تعادل ما يشهده المرء عندما يحصل على زيادة دخل بواقع 20 ألف دولار. كما وُجدت علاقة بين معدلات أدنى للوفيات وهرمونات إجهاد أقل في الدم وبين العيش إلى جنب المساحات الخضراء.
ويصعب على المرء أن يستخلص من هذه الأنواع من الدراسات ما ذاك الشيء الذي يجعل الناش يشعرون بمزيد من السعادة. أتراه الهواء النقي؟ أم أن بعض الألوان والأشكال المتشعبة تحفز على تشكل مواد كيميائية عصبية محددة في القشرة البصرية لأدمغتنا؟ أم أن الموضوع ببساطة هو أن الناس الذين يعيشون في أحياء أكثر خضرة يستعملون الحدائق العامة لممارسة الرياضة أكثر مما يستعملها غيرهم؟ وكان هذا ما يعتقده "ريتشارد ميتشيل"، وهو اختصاصي وبائيات لدى "جامعة غلاسكو" في اسكتلندا، أول الأمر. يقول: "لقد كنت أشك بوجود أسباب أخرى". ولكنه بعد ذلك أجرى دراسة كبيرة أظهرت معدلات أقل للوفيات والأمراض لدى الناس الذين يعيشون على مقربة من الحدائق العامة والمساحات الخضراء الأخرى.. حتى إن لم يكونوا يستعملونها. ويضيف ميتشيل: "تُظهر دراساتنا، فضلاً عن دراسات غيرنا، وجود هذه التأثيرات المجدّدة للصحة سواء أكان هؤلاء الناس يمارسون المشي في الطبيعة أم لا يمارسونه". علاوةً على ذلك، فقد بدا أن أكبر المنافع كانت لدى الناس الأدنى دخلاً؛ إذ اكتشف ميتشيل أن وجود المرء إلى جنب الطبيعة في المدن يرفعه درجات في السلم الاجتماعي.
ما يظنّه ميتشيل وباحثون آخرون هو أن الطبيعة تؤثر فينا بالدرجة الأوى بخفض مستويات الإجهاد لدينا. وقد أظهر الناس الذين يستطيعون رؤية الشجر والعشب من نوافذهم –مقارنةً بمن لديهم مشاهد رديئة- سرعةً أكبر في استعادة عافيتهم في المستشفيات وأداءً أفضل في المدارس، بل وسلوكًا أقل عدوانية في الأحياء التي يكثر فيها العنف. وتنسجم هذه النتائج مع محصّلات الدراسات التجريبية للجهاز العصبي المركزي؛ إذ تشير قياسات كلِّ من هرمونات الإجهاد والتنفس ونبض القلب والتعرق إلى أن "جرعات" قليلة من الطبيعة –بل وحتى صورًا من عالم الطبيعة- لديها القدرة على تهدئة نفوس الناس وتحسين أدائهم.
وقد قامت الطبيبة "ماتيلدا فان دن بوش" في السويد، بدراسة مجموعة من الأشخاص كانت قد كلفتهم بحل مسألة رياضية مُجهدة، فاكتشفت أن تفاوت معدل خفقات قلوبهم (الذي ينقص عادة عند الإجهاد) كان يعود إلى طبيعته بسرعة، عندما كانت تُجلسهم خمس عشرة دقيقة في غرفة للواقع الافتراضي، تعرض فيها صورًا ثلاثية الأبعاد لمشاهد طبيعية مصحوبة بتغريد الطيور بدلاً من الجلوس في غرفة عادية. وهناك تجربة تجري على أرض الواقع حاليًا لدى مؤسسة "سنيك ريفر" الإصلاحية في شرق ولاية أوريغون الأميركية. فقد أفاد رجال الشرطة هناك أن سلوك سجناء الحبس الانفرادي الذين يتدربون مدة 40 دقيقة عدة مرات في الأسبوع، ضمن ما اصطلح على تسميتها "غرفة زرقاء" تعرض فيديوهات لمشاهد من الطبيعة، كان أهدأ من سلوك الذين يتدربون في غرفة للتدريبات الرياضية لا تعرض مشاهد من هذا النوع. يقول شرطي المؤسسة الإصلاحية، مايكل ليا، تعليقًا على التجربة: "في البداية عددت الفكرة ضربًا من الجنون". ولكنه لمس التأثير بنفسه، إذ يقول: "هناك الكثير من الصراخ العالي الذي يتردد صداه على نحو مزعج (في غرفة التدريبات الرياضية العادية). أما الذين يتدربون في الغرفة الزرقاء فهم أقل ميلاً للصراخ، بل يكررون قول: "لحظة، أريد أن أشاهد هذا الفيديو".
وينتج عن المشي 15 دقيقة في الغابة تغيرات لدى الأشخاص تكون قابلة للقياس من الناحية الفسيولوجية. فلقد قام باحثون يابانيون، يرأسهم "يوشيفومي ميازاكي" في "جامعة تشيبا"، بإرسال 84 شخصًا متطوعًا إلى سبع غابات مختلفة ليتمشوا فيها، على حين جعلوا عددًا مماثلاً من المتطوعين يتمشون في مراكز المدن. وقد كان مكسب الذين استرخوا نتيجة التمشي في الغابة هائلاً: إذ حدث عندهم هبوطٌ إجمالي في مستوى هرمون الإجهاد "الكورتيسول بواقع 16 بالمئة، وهبوطٌ بواقع 2 بالمئة في ضغط الدم، وهبوطٌ بواقع 14 بالمئة في نبض القلب. ويعتقد ميازاكي أن أجسامنا تسترخي في الأجواء الطبيعية اللطيفة لأننا كنا قد نشأنا فيها في الأصل بصفتنا بشرًا؛ ولذلك فإن حواسنا مهيأة لتفسير المعلومات ذات الصلة بالنباتات والجداول المائية، لا الحركة المرورية وناطحات السحاب على حد قوله.
وتقول "ليزا نيسبيت"، البروفيسورة في علم النفس لدى "جامعة ترينت" الكندية، إن كل الأدلة على فوائد الطبيعة صارت تنهمر علينا في زمن تفشى فيه الانقطاع عنها. فنحن نعشق محمياتنا الطبيعية –الوطنية منها والمحلية- لكن معدل زياراتنا لها على مستوى الأفراد قد أخذ يتدنى منذ فجر البريد الإلكتروني. كما تدنت معدلات زياراتنا للفناءات الخلفية لمنازلنا. وقد أظهر استطلاع للرأي خاص بالمحميات الطبيعية أُجرى مؤخرًا، أن نسبة المراهقين الأميركيين الذين يمضون بعض وقتهم في الهواء الطلق كل يوم لا تتجاوز 10 بالمئة تقريبًا. ويفيد بحث أجرته "كلية الصحة العامة في جامعة هارفارد" أن الأميركيين البالغين يمضون وقتًا أقل خارج بيوتهم (والمباني عمومًا) مما يمضونه داخل سياراتهم.. أي أقل من 5 بالمئة من يومهم.
وتستطرد نيسبيت بالقول "إن الناس لا يقدرون تأثير وجودهم بالخارج في مستوى سعادتهم. فنحن إجمالاً لا نفكر بوجودنا خارج المنازل والمباني على أنه وسيلة لزيادة سعادتنا، بل نفكر أن السعادة تتأتى من أشياء أخرى مثل التسوق أو مشاهدة التلفاز. لكننا كنا قد نشأنا أصلاً في الطبيعة؛ لذا فمن المستغرب أن نغدو منقطعين عنها إلى هذا الحد". إلا أن بعضنا قد بدأ بمعالجة هذه القطيعة.. كما سنقرأ.
من جملة الأطباء الذين تنبهوا إلى البيانات عن العلاقة الناشئة بين الطبيعة والصحة، نذكر الدكتورة "نوشين رازاني" من مستشفى بيني أوف للأطفال" في "جامعة كاليفورنيا، سان فرانسيسكو". فهي تقوم ضمن مشروع ريادي بتدريب أطباء الأطفال على كتابة وصفات للمرضى الصغار وعوائلهم تحثهم على زيارة الحدائق العامة القريبة. لكن تلك المسألة ليست بسهولة تناول حبة دواء؛ فلكي نشجع الأطباء والمرضى على تبني طريقة جديدة في التفكير "فقد حولنا كامل مساحة العيادة لجعل الطبيعة حاضرة فيها أينما نظر المرء. فهناك خرائط على الحيطان، مما يسهل الحديث عن الوجهة التي ينوي المرء قصدها؛ كما توجد صور للبراري المحلية، والتي تحفز رؤيتها على شفاء كل من الأطباء والمرضى" على حد قولها. وقد تعاون المستشفى مع "ضاحية منتزهات شرق الخليج العامة الإقليمية" لتوفير وسائل النقل لعوائل بأكملها إلى المتنزهات العامة الإقليمية وتوفير البرامج الخاصة بها.
وفي بعض الدول، تُشجع الجهات الحكومية على الارتماء في أحضان الطبيعة بوصفها سياسة للصحة العامة. ففي فنلندا مثلاً، وهي بلاد تعاني معدلات مرتفعة للاكتئاب وإدمان الخمور والانتحار، طلب باحثون تمولهم الحكومة إلى الآف الأشخاص تقييم مشاعرهم ومستويات الإجهاد لديهم بعد زيارة مناطق طبيعية وأخرى حضرية. وبناءً على نتائج تلك الدارسة –ودراسات أخرى- فإن البروفيسورة "ليسا تيرفينين" وفريقها لدى "معهد فنلندا للمصادر الطبيعية" يوصون بقضاء وقت في الطبيعة لا يقل عن خمس ساعات في الشهر –أي ما يعادل عدّة زيارات قصيرة كل أسبوع- لدرء خطر الاكتئاب. أما "كاليفي كوربيلا"، بروفيسور علم النفس لدى "جامعة تامبيري" الفنلندية، فيقول كذلك "إن المشى مدة تتراوح بين 40 و50 دقيقة يبدو كافيًا لإحداث تغيرات نفسية وتغيرات في المزاج وعلى الأرجح تغيرات في التركيز أيضًا". وقد ساعد هذا البروفيسور في تصميم نحو ستة دروب للطبيعة – يسميها "دروب التقوية"- تُشجع على المشي والانتباه والتفكّر. وتوجد على هذه الدروب لافتات تحمل رسائل مثل: "اجلس القرفصاء والمس نباتًا".
ربما لا يوجد أحدٌ أكثر شغفًا بالتطبيب بالطبيعة من الكوريّين الجنوبيّتين. فكثير منهم يُعاني إجهاد العمل وإدمان الأجهزة الرقيمة والضغوطات الدراسية الشديدة. ووفق استطلاع أجرته شركة "سامسونج"، فإن أكثر من 70 بالمئة من هؤلاء يقولون إن وظائفهم تصيبهم بالاكتئاب؛ إذ تشتهر بكونها تتطلب ساعات طويلة من العمل. ولكن، لهذه الأمة القوية اقتصاديًّا تاريخ طويل من تمجيد أرواح الطبيعة؛ ولا أدل على ذلك من أن المثل الكوري العريق: "شين توبول إي" (الجسم والتراب واحد) مازال رائجًا في البلد.
ولدى "غابة سانيوم للاستشفاء" الواقعة شرق العاصمة سؤول، التقيت "حارس الغابة الصحّي" (المتخصص في تعريف زوّار الغابة إلى بعض النشاطات الصحيّة) فناولني كوبًا من شاي لحاء شجر الدردار، ثم اصطحبني معه في جولة على طول جدول مائي يجري خلال أشجار قيقب حمراء متلألئة وبلّوط وصنوبر. لفقد حلّ فصل الخريف، وحجّت إلى داخل الغابات ههنا أفواج من اللاجئين الحضريّين الذين اجتذبتهم الأشجار المكتسية برداء زاهٍ من الأوراق المتغيّرة الألوان وكذلك الهواء المنعش. ولم يمض وقت طويل حتى بلغنا مجموعة مترابطة من المنضات الخشبية في فسحة وسط الأحراج.
وقد قُسم 40 رجل إطفاء متوسّطي العمر يعانون "اضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية" إلى أزواج فوق المنصّات، وذلك ضمن برنامج مجاني مدته ثلاثة أيام، برعاية من الحكومة المحليّة. في أميركا الشمالية، تجد مجموعات من الرجال يمارسون القنص وصيد السمك معًا في الأحراج؛ أما هنا فإن أمثالهم يمضون الصباح في المشي الاستجمامي، ثم يمارسون اليوغا ويدهنون سواعد بعضهم بعضًا ويدلكونها بزيت الخُزامي، ويصنعون لوحات فنية من الأزهار الجافة. من بين هذه الفئة الأخيرة هناك "كانغ بيونغ ووك" القادم من سيؤول، وهو رجل يبلغ من العمر 46 سنة. بدا عليه الإعياء بعد عودته مؤخرًا من مهمّة لإطفاء حريق ضخم في الفلبين. يقول: "إنها حياة مُجهدة؛ لذا فإني أودّ أو أعيش هنا شهرًا كاملاً".
وتُعد "سانيوم" واحدة من ثلاث غابات مخصّصة رسيمًا للاستشفاء في كوريا الجنوبية، ولكن من المزمع تخصيص 34 غابة أخرى للغرض نفسه في أفق عام 2017؛ مما يعني أن جل المدن الكبرى ستكون على مقربة من إحداها. وتقدم "جامعة تشونغبوك" برنامجًا دراسيًّا ينال فيه الطلاب شهادة "علاج بالغابات"، وتبدو فرص العمل للخريجين جيدة؛ إذ تتوقع "دائرة الغابات الكورية" أن توظّف 500 حارس غابة صحّي في السنتين المقبلتين. إنها خدمة شاملة..من المهد إلى اللحد: فالبرامج تشمل كل شيء، من مساعدة النساء الحوامل على التأمل في الغابات قبل موعد وضعهن، إلى ممارسة النشاطات الغابوية لمصلحة مرضى السرطان، وحتى دفن الموتى في الغابات. ويتولى "قطارٌ سعيدٌ" تديره الحكومة تقل أطفال تعرضوا للاعتداء من قبل أقرانهم إلى الأحراج لإمضاء يومين من التخييم. كما يجري حاليًا تشييد مجمّع للاستشفاء بقيمة مئة مليون دولار بمحاذاة "منتزه سوبايكسان الوطني".
في ما مضى كان علماء "دائرة الغابات الكورية" يجرون بحوثًا على محصول غاباتهم من الخشب؛ أما اليوم فهم أيضًا يقطّرون الزيوت العطرية من بعض أشجارها –مثل سرو هينوكي- ويدرسونها ليكتشفوا قدرتها على خفض معدلات هرمونات الإجهاد وأعراض الربو. وفي مدينة "دياجون" الصناعية الجديدة، زرت "شين وون سوب"، وزير الغابات وعالم اجتماعي كان قد درس آثار العلاج بالغابات على مدمني الخمر. وأخبرنى أن عافية البشر قد أصبحت الآن هدفًا رسميًا لخطة الدولة الخاصة بالغابات. وبفضل السياسات الجديدة، فقد ازداد عدد زوار غابات كوريا من 9.4 مليون زائر عام 2010 إلى 12.8 مليون عام 2013.
يقول شين: "بالطبع مازلنا نحتطب من الغابات؛ لكني أعتقد أن الناحية الصحّية هي الثمرة الحالية للغابات". وتُشير البيانات التي جمعتها دائرة الغابات الكورية إلى أن الاستشفاء بالغابات يُقلّص من النفقات الطبية ويُفيد الاقتصادات المحلية. ويُضيف شين قائلاً إن الشيء الضروري الذي لم يتوفر بعد هي بيانات أكثر تفصيلاً عن أمراض بعينها وعن المواصفات الطبيعية التي تُحدث فارقًا ويختم كلامه متسائلاً "ما هي العوامل الرئيسة في الغابات المسؤولة في المقام الأول عن هذه الفوائد الفسيولوجية، وأي نوع من الغابات أكثر تأثيرًا؟".
أعود الآن إلى رحلتنا.. فالظاهر أن دماغي الحضري –الذي يُمضي قسطًا طويلاً من العام في العاصمة واشنطن- قد راقت له طبيعة يوتاه إلى حد كبير. ففي النهار نمشي خلال رحلة التخييم بقيادة ديفيد ستراير بين نباتات صبّار مزهرة؛ وفي الليل نجلس حو نار المخيم. ويقول ستراير إن طلابه يبدون أكثر استرخاءً وألفة مما يكونون عليه في قاعة الدرس، كما أنهم يقدمون عروضًا أفضل بكثير.. فما الذي يجري داخل أدمغتهم ودماغي؟
استنادًا إلى نتائج البحوث في مجال العلوم العصبية التي بدأت بالظهور، فإن أشياء كثيرة تجري داخل أدمغتنا. فقد استعمل باحثون كوريون التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لمراقبة نشاط أدمغة أشخاص يعاينون صورًا مختلفة. وقد وجد هؤلاء الباحثون أنه عندما كان المتطوعون ينظرون إلى صور من مناطق حضرية، فقد أظهرت أدمغتهم مزيدًا من الدم يتدفق في اللوزة الدماغية التي تُعالج مشاعر الخوف والقلق. بالمقابل، فإن مشاهد الطبيعة أثارت كلاً من القشرة الدماغية الأمامية وفص الجزيرة (القشرة الانعزالية)، وهما موضعان مرتبطان بالتعاطف والإيثار.. لعل الطبيعة لا تجعلنا أكثر هدوءًا واسترخاءً فحسب، بل وأكثر لطفًا كذلك.
لا بل وقد تجعلنا أكثر لطفًا بحق أنفسنا. فقد أجرى "غريغ براتمان"، الباحث لدى "جامعة ستانفورد"، وزملاؤه مسحًا لأدمغة 38 متطوعًا قبل انطلاقهم في جولة على القدمين استغرقت 90 دقيقة، إما في حديقة عامة كبيرة أو في شارع مزدحم وسط مدينة "بالو آلتو". ثم أُجرى مسح لأدمغتهم بعد عودتهم من رحلتهم؛ فوجدوا التالي: لقد أظهر الذين مشوا في الطبيعة، وليس من مشوا في المدينة، انخفاضًا في نشاط القشرة الجبهية الحزامية، وهو جزء من الدماغ مرتبط بإثارة مشاعر الاكتئاب.
ووفقًا للإفادات الشخصية للذين مشوا في الطبيعة، فقد كانت أفكارهم ألطف بحق أنفسهم. ويعتقد براتمان أن وجود المرء في الهواء الطلق بحق أنفسهم. ويعتقد براتمان أن وجود المرء في الهواء الطلق ضمن بيئة لطيفة (وبالتأكيد لا نعني هنا بيئة يتعرض المرء فيها للأكل حيًّا من البعوض والحشرات الطفيلية أو حيث يسقط عليه وابل من حبات البَرَد) تريحنا من وساوسنا وتحرّرنا من أنماط التفكير السلبي التي تأسرنا. ويقول الباحث إن الطبيعة قد تؤثر "في كيفية توجيه المرء لانتباهه وهل سيركّز على المشاعر السلبية أم لا".
وأكثر ما يُثير اهتمام ستراير هو كيف تؤثر الطبيعة في مهاراتنا في حل المشاكل المعقدة. فبحثه مبني على نظرية استعادة الانتباه التي طرحها الزوجان "ستيفن كابلان" و"ريتشل كابلان"، المتخصصان في علم النفس البيئي لدى "جامعة ميشيغان". فهما يقيمان الحجة على أن العناصر المشاهدة من البيئات الطبيعية (مثل مشاهد غروب الشمس، والجداول والفراشات) هي التي تخفف التوتر والإجهاد الذهني. فهذه المنتبهات الفاتنة والتي لا تتطلب مجهودًا ذهنيًّا لمعالجتها، تُحفّز تركيزًا خفيفًا لأذهاننا أن تسرح وتستعيد عافيتها بعد معاناتها ما أسماه أومستد "التهييج العصبي" لحياة المدن. فقد كت الزوجان كابلان: "إن الافتتان اللطيف.. يُتيح نمطًا من النشاط الذهني أكثر ميلاً للتفكر والتأمل"؛ ويبدو أن فوائد ذلك تظهر لاحقًا عندما نعود إلى بيوتنا وغيرها من الأماكن المغلقة.
على سبيل المثال، اكتشف ستيفن كابلان وزملاؤه، خلال تجربة مشابهة للتجربة التي أجراها براتمان، أن المشي مدة 50 دقيقة في مشجر (حديقة فيها الأشجار لأغراض علمية) يُحسّن مهارات الانتباه المطلوبة من المديرين التنفيذيين، مثل الذاكرة القصيرة الأمد؛ على حين أن المشي على طول شارع في مدينة لا يفعل ذلك. وقد كتب الباحثون في دراستهم السطور التالية: "تخيل علاجًا لا يحمل أي آثار جانبية، ومتاحًا بسهولة، ويمكنه تحسين وظائفك الإدراكية بلا أي تكاليف مادية على الإطلاق". وتابعوا كلامهم مؤكدين أن هذا العلاج موجود بالفعل وأنه يُدعى: "التفاعل مع الطبيعة".
بعد بضعة شهور على رحلتنا في يوتاه، أُرسل إلى فريق ستراير نتائج اختبار تخطيط الأمواج الخاص بدماغي. تتبع الرسم البياني الغني بالألوان قوة أمواج دماغي عند نطاق متنوع من الترددات وقابلها بعينات من مجموعتي المتطوعين الذين ظلوا في المدنية آنذاك. كانت "أمواج ثيتا" الخاصة بي أدنى من أمواجهم؛ إذ يبدو أن الافتتان اللطيف بنهر "سان خوان" قد هدّأ القشرة الأمامية الجبهية لدماغي.. وإن كان ذلك لبعض الوقت.
ويقول ستراير إن النتائج التي ظهرت تنسجم –حتى الآن- مع فرضيته القائلة بأن قضاء الوقت في الطبيعة يُحسِّن أداء الدماغ. ولكن حتى إن أثبتتها تلك النتائج، فإنها لن تقدم شرحًا كاملاً وافيًا لتجربة الدماغ المتفاعل مع الطبيعة؛ بل سيظل هناك عنصر غامض –على حد قول ستراير- وربما هكذا ينبغي أن يكون الحال. ويضيف: "في المحصلة، إننا نخرج إلى الطبيعة لا لأن العلم يخبرنا بأن لها تأثيرًا معينًا فينا، بل بسبب ما تثيره فينا من أحاسيس ومشاعر".