في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي نشأنا بها في دولة نامية لديها الكثير من الأعباء الأولية والعاجلة التي يجب التعامل معها أولاً وقبل كل شئ، نشأنا لا نحظى بالقدر الكافي من التوعية والتعليم في مجالات الحياة غير الأكاديمية. فنحن قد درسنا لسنوات طوال عن العلوم والهندسة والطب والتاريخ والزراعة ....الخ ، أما مثلاً عن كيف نكون أزواج وزوجات جيدين أو كيف نربى أولادنا .. فإن هذا أمر لم نتلق فيه أية فصول ولا مجموعات تقوية!!
فكثير منا يعتقدون أن التربية هي مجرد تعليم الطفل السلوك المنضبط والمبادئ الأخلاقية المختلفة. ورغم إن ذلك صحيح بدرجة كبيرة إلا أنه ليس كل شيء عن التربية بل أن هناك ما هو أعمق وأخطر من ذلك بكثير. إننا في تربيتنا لأطفالنا نبني بالدرجة الأولى هويتهم، إدراكهم لذواتهم ولقيمتهم كأفراد متميزين في المجتمع البشري. ونحن نصنع ذلك من خلال الحب والقبول الكافي وغير المشروط؛ أي الذي بلا مقابل. إن دورنا كآباء وأمهات هو أخطر بكثير من مجرد توفير المال أو غرس القواعد والقوانين أو حتى إسداء النصح والتوجيه. إن دورنا أن نعطيهم من وقتنا قبل أموالنا، أن نعطيهم من اهتمامنا... من مشاعرنا وأفكارنا قبل أي شيء آخر. ولكن كيف يتسنى لنا ذلك ونحن كآباء منشغلون في عملنا وأنشطتنا الخارجية حتى ساعة متأخرة من الليل تاركين المسئولية لزوجاتنا اللائى بدورهن رزحن تحت عبء مسئوليتهن كنساء عاملات ومربيات بالمنزل في ذات الوقت. وفي النهاية نجدنا نستبدل تواجدنا المعنوي مع أبنائنا بما نستطيع تقديمه من أشياء وإمكانات مادية لهم في محاولة لإرضاء ضمائرنا تجاه هذه المسئولية. بينما قد يتوق الطفل لكلمة مديح وتشجيع أو إلى حضن دافئ يُعطى له مجاناً دون أن يفعل شي في المقابل، قد يتوق الطفل إلى ذلك أكثر من شراء حذاء جديد له أو بعض الألعاب الإلكترونية. لا شئ يغني عن تأكيد محبتنا المطلقة لأطفالنا دون أسباب سوى أنهم أبناءنا.
عزيزي .. عزيزتي .. إن مسئولياتنا كثيرة في هذا العالم الصعب، لكن تربيتنا لأبنائنا هي المسئولية الأساسية التي تُبنى عليها كثير من تلك المسئوليات الأخرى الواقعة علينا. أفلا يجدر بنا أن نعطي هذه المسئولية بعض الوقت؟
ترى متى كان آخر وقت حر ومرح قضيناه مع أبنائنا؟ متى كان آخر حديث صافي دار بيننا وبين أحد الأبناء حول أمر يخصه دون أن يكون الحوار بهدف العقاب أو التوجيه أو التوبيخ؟ هل بَنينا علاقة شخصية أم وظيفية بيننا وبين أبنائنا؟!
عزيزي .. عزيزتي .. هل تستطيع أن تعطي بعض الوقت لقراءة كتاب جديد عن تربية الأطفال؟ إني أرشح لك الكتاب الشهير لدكتور سبوك بعد أن تم ترجمته ونشره مؤخراً لدى مطبوعات أخبار اليوم – قطاع الثقافة، في خمسة أجزاء منفصلة، تعريب وصياغة د. منير عامر وهو متوافر لدى باعة الصحف.
*****
هل تعلمت النحت بعد؟!
هناك نظريات عديدة ومتنوعة حول تكوين الشخصية. واحدة من أقواها هي نظرية السنوات الخمس الأولى في حياة الإنسان (أي الطفولة المبكرة). حيث يخبرنا الأخصائيون بأن 80% من أسس شخصية الإنسان تتكون تحت سن الخمس سنوات، إذ يقول إريك إريكسون (أحد رواد علم النفس الارتقائي) أن الطفل في سنواته الخمس الأولى يتعلم الثقة والإستقلال والمبادرة، بطريقة أساسية غالباً ما تبقى معه طوال العمر. كما أنه قد يفقدهم فيتعلم عدم الثقة والإعتمادية والشك في قدراته بطريقة أساسية قد تظل أيضاً معه طوال العمر. ولكن كيف يحدث هذا؟!
إن أطفالنا يولدون كالعجينة اللينة ، قابلين للتشكيل بدرجة كبيرة حسبما تشاء أصابعنا سواء قمنا بذلك عن قصد أو عن دون قصد. فيقول د. ماكبرايد في كتابه بعنوان "الخوف":
"يولد الطفل فى عالم يتطلب منه -وفق طبيعة الميلاد والنمو- الخضوع لإرداة الآخرين ويظل الطفل لفترة أكثر بكثير مما هي عليه عند صغار المخلوقات الأخرى، سلبيا ومستقبلا للتأثيرات والخبرات التي لا يقوى علي التحكم فيها. وحتى يبلغ المستوى الذي يستطيع فيه ممارسة قدرته على الإختيار والتمييز والتحكم الذاتي تكون أسس بنائه العقلي والنفسي المستقبلية قد تكونت."
مما لاشك فيه أن سنوات العمر التالية في حياة الطفل وإنما تضيف الكثير ، كما تمنح أيضاً العديد من الفرص المغايرة. إلا أن ذلك لا ينفي الحقيقة القائلة بأن "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر" إذ تلعب السنوات الخمس الأولى تلك دور حجر الأساس في بناء المستقبل. فماذا ترانا ننقش على حياة أبنائنا دون أن ندري؟
إن طفلك كالطينة الطرية بين يديك ، فهل تعلمت النحت بعد ؟!
إذا حصل الطفل على التشجيع تعلم الثقة
إذا حصل الطفل على المـدح تعلم الإقدام
إذا حصل الطفل على التهذيب تعلم الإنضباط
إذا حصل الطفل على القبول تعلم أن يكون مقبولاً
إذا حصل الطفل على الحب تعلم أن يكون محبوباً
والعكس صحيحاً
*****
أبنائنا أذكياء بالفطرة .. ونحن نحبهم ونعجب بذكائهم الفطري هذا
أبنائنا أذكياء بالفطرة .. ولكن ما هو هذا الذكاء الفطري ؟!
إن الذكاء الفطري يختلف عن الذكاء العقلي الذي يقاس بمعامل الذكاء المتعارف عليه بإسم I.Q. . فالذكاء الفطري يرتبط بما يسمى بالعقل الوجداني Emotional Brain والذي يكون أكثر نمواً لدى الطفل من القشرة المخية المسئولة عن الذكاء العقلي بكل قدراته العليا، والتي تأخذ سنوات أطول في النمو.
وهذا العقل الوجداني هو ما يجعل الطفل يقوم بتلك التصرفات التي نسمها بالذكاء الفطري الشديد والذي يصيبنا أحياناً كثيرة بالدهشة.
وهنا نحتاج كمربيين أن ننتبه إلى أن الأطفال بذكائهم الفطري هذا قد يناوروننا ويستغلوننا بطريقة بارعة تخيل علينا كأشخاص بالغين إذ لا نتصور أن يفكر الأطفال بمثل هذا الدهاء. فهم يقومون بالمناورات الذكية في أحيان كثيرة للحصول على ما يريدون عكس مشيئتنا ولكن بطريقة غير مباشرة دون التصريح بذلك.
ففي أحيان كثيرة (وليس كل الأحيان) يكون الصراخ والبكاء والشغب والتمرد غير المفهوم الأسباب مجرد مناورة ذكية للحصول على الإنتباه ، وهي الحيلة القديمة الأزل والتي لازال يستخدمها الأطفال حتى الآن بنجاح شديد مع ذويهم. (انظر الكاريكاتير التوضيحي المتسلسل من اليسار إلى اليمين)
إني أنصح بأن يُعطى الطفل كل الإنتباه الذي يحتاجه وكل الحب والإهتمام ولكن عن قصد وعن وعي وعن رغبة صادقة بدلاً من السماح له بأن يسرق هذا الإهتمام منا دون أن ندري بتصرفات سلبية وغير محببة قد تنمو معه كما قد تصل إلى حد التدمير في بعض الأحيان. ونحن إذ نسحب البساط من تحت قدميه عن طريق كشفنا لمثل هذه الحيل والمناورات وإبطالها ؛ فلابد لنا من التأكد من أنه يقف على أرضية صلبة من الحب والقبول بدلاً من هذا البساط الزائف.