(نظرة داخلية للمخ بعد تعرضه للصدمة النفسية وكيفية البدء في التعافي)
يتعرض نصف سكان الكوكب تقريبًا لحادث مؤذٍ نفسيًا في مرحلة ما من حياتهم. وبينما تتسم ردود الأفعال تجاه الصدمة النفسية بالتباين والتنوع الكبير، حيث لا يصاب الجميع مثلاً باضطراب كرب ما بعد الصدمة، إلا أن الصدمة النفسية يمكن أن تُحدِث في الدماغ بعض التغييرات التي يمكن توقعها والتي ينبغي على الجميع أن يكونوا على دراية بها، خاصةً إذا كنتَ تسعى جاهدًا نحو التعايش مع صدمة نفسية، أنت أو أحد المقربين منك.
مع نمو الوعي حول هذه المسألة أصبح بإمكانك البحث عن علاج للأعراض التي تنتابك كما يمكنك أيضًا تعلُّم بعض المهارات التي من شأنها تجديد ذهنك للشفاء. بالإضافة إلى ذلك، فإن معرفة ما يدور داخل عقلك يمكن أن يكون أمرًا مفيدًا للغاية، فربما يساعدك أن تدرك أنك لست مجنونًا أو سيئًا أو خائب الرجاء. وعِوضًا عن التفكير في الأمر بهذا الشكل، يمكنك اعتبار أن الصدمات النفسية تجعل المخ يؤدي وظائفه بطريقة مختلفة. وكما حدث التغيير في مخك نتيجة خبراتك السابقة، يمكن أن يحدث أيضًا نتيجة خبراتك المستقبلية. بعبارة أخرى، العقل طيّع مَرن، بإمكانك أن تُحِدث فيه تغييرًا.
ثلاث مناطق عليك أن تعرفها
يمكن للصدمة النفسية أن تغير في طريقة أداء المخ لوظائفه بعدة طرق، لكن ثلاثة من أهم التغييرات تحدث في المناطق المخية التالية:
١- القشرة الأمام-جبهية The prefrontal cortex، والمعروفة بـ "مركز التفكير."
٢- القشرة الحزامية الأمامية The anterior cingulate cortex، والمعروفة بـ "مركز تنظيم المشاعر."
٣- الجسم اللوزي The amygdala، والمعروف بـ "مركز الخوف."
تقع القشرة الأمام جبهية، أو مركز التفكير، في مقدمة رأسك، خلف جبهتك مباشرةً. وهي مسؤولة عن عدة قدرات مثل التفكير المنطقي وحل المشكلات وسمات الشخصية والتخطيط والمواجدة الشعورية والوعي بالذات والآخرين. حين تنشط هذه المنطقة نتمكن من التفكير بوضوح واتخاذ قرارات جيدة والانتباه لأنفسنا ومن حولنا.
القشرة الحزامية الأمامية، أو منظم المشاعر، موجودة بجوار القشرة الأمام جبهية ولكن بعمق أكبر داخل المخ. هذه المنطقة مسؤولة جزئيًا عن تنظيم المشاعر، وحين تعمل بشكل مثالي فإنها تكون على علاقة وثيقة بمركز التفكير. حين تنشط هذه المنطقة تُمكننا من التعامل مع الأفكار والعواطف الصعبة بدون أن نتركها تستحوذ علينا. فعندما نشعر مثلاً برغبة عارمة في إرسال رسالة إلكترونية محملة بالنقد اللاذع إلى أحد زملاء العمل، يذكرنا "مركز تنظيم المشاعر" أن هذه ليست فكرة جيدة، ويساعدنا على إدارة وترويض مشاعرنا حتى لا نقترف ما نندم عليه.
وأخيرًا الجسم اللوزي، وهو جسيم صغير بداخل المخ، ويعمل كمركز للخوف. هذه المنطقة التحت قشرية تقع خارج نطاق إدراكنا الواعي أو سيطرتنا، ووظيفتها الأساسية هي استقبال كل المعلومات الواردة - كل ما تراه وتسمعه وتلمسه وتشمه وتتذوقه - ثم الإجابة على سؤال واحد: "هل يمثل هذا الشيء تهديدًا؟" فإذا التقطت تهديدًا بالخطر، تبث الخوف داخلنا. حين تنشط هذه المنطقة ينتابنا الخوف وندخل في حالة من التأهب والحذر.
ماذا يحدث داخل المخ الذي تعرض لصدمة/المصدوم؟
المخ الذي تعرض لصدمة نفسية يختلف عن المخ الذي لم يتعرض لصدمة في ثلاثة محاور يمكن توقعها:
١- يتم تثبيط مركز التفكير.
٢- يتم تثبيط مركز تنظيم المشاعر أيضًا.
٣- تحدث استثارة بمركز الخوف.
ما تشير إليه هذه التغيُّرات هو أن مركز ثِقَل المخ المصاب بصدمة نفسية يصبح في الأسفل، بمعنى أن المراكز المخية الأدنى والأكثر بدائية يتم تنشيطها (بما فيها مركز الخوف) بينما المراكز العليا (قشرة المخ) يتم تثبيطها. بعبارة أخرى، إذا تعرضت لصدمة نفسية فقد يصيبك الضغط العصبي بشكل مزمن أو يتملكك الخوف أو الحذر الشديد أو التوتر. وقد تواجه صعوبة في الشعور بالأمان أو الاسترخاء أو النوم. تنتج كل هذه الأعراض من النشاط الزائد للجسم اللوزي.
في الوقت ذاته يعاني الأفراد الذين تعرضوا لصدمة نفسية من صعوبات في التركيز والانتباه، وعادة ما تكون شكواهم من عدم القدرة على التفكير بذهن صافٍ. يحدث هذا، ولا عجب، نتيجة تثبيط مركز التفكير بالمخ.
وأخيرًا، يشتكي الناجون من الصدمات أنهم يشعرون بعجزهم عن السيطرة على مشاعرهم. كمثال، إذا قام أحد ما بإفزاعهم على سبيل المزاح فإن دقات قلوبهم تظل متسارعة لفترة طويلة بعد انتهاء المزحة، أو ربما يجدون صعوبة في أن يصرفوا عن أذهانهم الأمور المزعجة الضئيلة. حتى حين يرغبون في الاسترخاء والشعور بالتحسن يعجزون عن فعل ذلك. يرجع السبب في هذا بشكل كبير إلى ضعف مركز تنظيم المشاعر في المخ.
ماذا بوسعك أن تفعل؟
إحداث تغيير في المخ يتطلب المجهود والوقت والمثابرة. وأفضل هدية يمكن أن تمنحها لنفسك بغرض تحقيق هذا الهدف هي الخضوع للعلاج النفسي. فإذا كنت مستعدًا لخوض تلك التجربة، ابحث عن أخصائي نفسي متخصص في علاج الصدمات النفسية واضطراب كرب ما بعد الصدمة، يكون معروفًا باستخدام أساليب مبنية على أساس علمي لإحداث التغيير في المخ عن طريق التعامل مع الجسد والذهن كليهما.
أيضًا فكر في أن تضيف لروتينك اليومي تدريبات بدنية أو ذهنية تساعدك على تهدئة مركز الخوف في المخ. هذه خطوة حيوية أولى نحو التعافي، فما أن نتمكن من تهدئة مركز الخوف سيكون باستطاعتنا العمل على تنشيط وتقوية مراكز التفكير وتنظيم المشاعر. من الأمثلة على هذه التدريبات تمرين التنفس البطني العميق وتدريب التحفيز الذاتي. ويُفَضَّل ممارسة هذه التمارين، أو ما شابهها، لفترات زمنية قصيرة عدة مرات على مدار اليوم. وتذكر، الممارسة المستمرة تقود إلى إحراز التقدم.
د. جينيفر سويتون
من مجلة "سيكولوجي توداي"
ترجمة: د. ريمون يوسف
(ترجمة خاصة لمكتب الخدمة)