كونوا حاضرين في حياتكم
ماهو "التأمل بكل الوعي، واليقظة"؟
هو عبارة عن ممارسة بالغة القدم. فهناك من مارس التأمل سواء في بلاد المشرق أو بلاد الغرب منذ أكثر من ألفين وخمسمئة سنة. وحالياً هناك شغف ينصب التأمل وسببه عوامل عدة: نحن نتمتع بمناهج علمانية في التأمل، فليس هناك حاجة لاعتناق دين لكي نتأمل. كما أنه من السهل الوصول إليه حيث يمكننا تعلم التأمل خلال ثمانية أسابيع تقريباً من دون التعرض لمتاعب، إضافة إلى أن الكثير من الدراسات العلمية أكدت فوائد التأمل.
إضافةً إلى هذه الميزات الثلاث من علمانية وسهولة وتوثيق علمي، هناك ميزة أن التأمل يساعدنا على مقاومة حالات التلوث النفسية الكبرى في عصرنا الحالي كميول الناس نحو المادية والاستهلاك والتشتت الرقمي. يسمح التأمل لنا بالالتفات من جديد إلى ماهو جوهري، فهو بذلك يستحق تسميته بتدريب الروح.
كيف اكتشفت "التأمل بكل الوعي، واليقظة"؟
أنا طبيب نفسي مختص بالاضطرابات العاطفية، أي الأمراض المتعلقة بالشدة النفسية والقلق والاكتئاب. لجأت في بادئ الأمر إلى المعالجة من خلال الأدوية خاصة تلك المؤثرة على الإدراك وعلى التصرفات. يقوم هذا النوع من الأدوية على ربط مواقف إدراك ملموسة بالمناقشات التي تدور مع المعالج. ثم بدأ اهتمامي يزداد شيئاً فشيئاً بالوقاية من انتكاسات المرضى، ذلك لأن هذه الانتكاسات يمكن أن تحدث كثيراً في أثناء الاضطرابات العاطفية. لهذا يتعين على المرضى التحكم بمشاعرهم طوال حياتهم وذلك بإدراج تعديلات دائمة في حياتهم اليومية وفي نمط حياتهم كعادات جديدة وكطرق جديدة بالمعيشة. ذلك يتعلق بالتغذية والتمارين الجسدية، إضافة إلى أسلوب حياتهم النفسية الذي يندرج ضمنه طريقة رؤيتهم للعالم وطريقة تجاوزهم للمشاعر وكيفية تلقي لحظات السعادة واللحظات العصيبة. وقد بدأت في هذا الإطار باستخدام التأمل بكامل الوعي مع مرضاي.
هناك نقطة مهمة : إن الوعي الكامل هو المنهج الذي نستخدمه حالياً في عالم العلاجات. يعود منشأ هذا الوعي الكامل إلى الديانة البوذية لكنه خضع للتعديل واتخذ طابعاً علمانياً بهدف استخدامه في إطار العلاج. يجب الإشارة إلى أنني لست ضد البوذية، بل العكس، لكننا ببساطة لا نستخدم أي جانب ديني لعلاج المرضى. بدأت الاهتمام بالتأمل في نهاية العام ١٩٩٠ وذلك عندما اكتشفت المطبوعات العلمية الأولى التي نشرت حول هذا الموضوع. كل منا يعلم ما قد تصنعه الفرصة من أمور جيدة، وقد سمحت لي الفرصة بلقاء ماثيو ريكارد الذي منحني أجوبةً عن تساؤلاتي حول التأمل البوذي وساعدني على اكتشاف هذا التأمل، كما أنه أخطرني بأنه على تواصل مع بعض الرواد في تلك الفترة، الذين يعملون على دراسة التأمل بشكل علمي. لذا فقد تدربت معهم وخاصة مع جون كابازين وزينديل سيغال. ومن ثم بدأت اعتباراً من العام ٢٠٠٤ باقتراح هذا المنهج على المجموعات الأولى من المرضى أثناء خدمتي الجامعية التي مارستها في مشفى سانت آن في باريس. وقد كانت النتائج مثيرة للحماس سواء بالنسبة لنا أو بالنسبة للمرضى أنفسهم. وقد منحنا ذلك انطباعاً محفزاً على اكتشاف بعض الأمور التحديثية ذات القدرة العلاجية العالية وأن الذهاب إلى أكثر من ذلك، يمكن أن يغير النظرة اتجاه حياة المعالجين والمرضى على حدّ سواء.
كان التأمل يثير أيضاً القليل من الريبة لدى بعض المرضى، فقد كانوا يخشون أن نكون معتنقين مذهباً ما أو نكون بصدد اقتراح نزوة علاجية كعصر جديد. لطالما وجدت ذلك أمراً طبيعياً لأن ذلك لايتعلق بالعلاج بوسائل فلكلورية، لذا فقد وثق فينا المرضى وليس بمقدورنا خداعهم فهذا واجب علينا. لكي لا نثير قلقهم، كنا نتحدث في البداية عن التدريب البسيط». إلا أنه لم يكن أبداً من الخطأ معرفة أن التأمل يساعد على إبقاء انتباهنا في إطار الواقع، كما يمنع فقدان هذا التركيز في أثناء الاجتماعات الافتراضية اللامنتهية والمنهكة والمؤلمة... تمكنا الآن من معالجة العديد من المرضى ومن تدريب الكثير من المعالجين وحصد التأمل بالوعي الكامل نجاحاً باهراً في بلدنا وفي العالم أجمع. ازداد عدد الأبحاث التي سجلت ونُشرت وازداد عدد الأطباء والمعالجين الذين يستخدمون التأمل أو الذين ينصحون به. كما تم إنشاء شهادات ديبلوم جامعية في فرنسا من أجل العاملين بالعلاج، على سبيل المثال أنشئ ديبلوم «التأمل والدراسات حول الجهاز العصبي» في ستراسبورغ. كما أنشئ ديبلوم «علاقة التأمل بالعلاجات» في باريس إضافة إلى مبادرات أخرى عديدة.
منذ ذلك الحين اعتبر التأمل بالوعي الكامل أداة للعلاج والوقاية الدائمة والمشروعة في الطب وعلم النفس على حد سواء، وبدأت تقدر قيمة فوائده سواء في المدرسة أم في المؤسسة.
:"ما جلبه لي "التأمل بكل الوعي، واليقظة
على المستوى الشخصي لعب التأمل دوراً بالغ الأهمية في حياتي، فإن حدثتكم عنه فذلك لأن قصتي تبدو لي مشابهة للكثير من قصص الآخرين.
ربما كان الأمر سهلاً بالنسبة لي، فقد كنت طفلاً يميل إلى التأمل ويستهويه الهدوء والوحدة. إلا أنه عندما كبرت، جرفتني الإيقاعات والعادات التي تسود حياة البالغين كالقيام بالفعل ورد الفعل والانفعال والمشارعة، ومن ثم تخطيت أزمة على المستوى الشخصي ذلك لأنه من النادر أن نلجأ للتأمل سواء بالمصادفة أو بدافع من فضول بسيط. هنالك دوماً الكثير من الآلام التي يجب تخفيفها، ومن المشكلات التي يجب حلها. أتذكر زميلة في الجامعة طرحت سؤالاً خلال ندوة قائلة: «هل هناك من أحد لا يواجه مشكلة ولا يعاني من ألم ما؟ بالطبع لم يرفع أحد إصبعه. كل إنسان قد اختبر الألم وتمنى الشفاء منه.
أما المأساة التي حصلت لي شخصياً فقد كانت وفاة صديقي المقرب على ذراعي إثر حادث دراجة نارية. دفعتني الصدمة للجوء إلى دير قريب من تولوز كان قد حدثني عنه العديد من مرضاي الذين يهربون إليه طلباً للهدوء. اكتشفت في هذا الدير حياة التأمل والخشوع والهدوء والتضرع. أذكر أن ذلك لم يكن مألوفاً لي في البداية فقد تخليت عن عادة عدم فعل شيء والهرب من المحن سواء في العمل أو في اللهو كنت في موقف شخصي مؤلم، وصلت إلى الدير محملاً بالكثير من الآلام. واجهت في الأيام الأولى كماً كبيراً من الضيق والبؤس ومن حالات الريبة مما قد يجلبه لي وجودي في هذا المكان. هذا ما يعيشه الكثير من مرضانا خلال جلسات التأمل الأولى...
ولكن بالمثابرة بدأ ذلك ينجلي شيئاً فشيئاً. خضعت لتجربة التغيير الداخلي في الوقت الذي كان العالم الخارجي على حاله لم يتغير. إنها نظرتي، هي التي تغيرت. خرجت من الدير وأنا أشعر بأنني اختبرت أمراً ذا أهمية وقيمة بنظري، إنه أمر حيوي بالنسبة لي. قمت بعد ذلك بالاختلاء بنفسي لفترة وبالتدرب على التأمل. لطالما استهواني ذلك إلى أقصى حد ولطالما اندفعت إلى ممارسة التأمل كما لو أنني أذهب في عطلة. شكلت ذكريات تلك الدورات التدريبية مزيجاً من بعض اللحظات الصعبة كالملل والسأم، ومن العديد من اللحظات المؤثرة كالشعور بالكمال والتناغم.
فقد منحني مثلاً بالرجوع إلى الوراء يبدو لي مما لاشك فيه أن التأمل هو بمثابة أداة نفسية قدمت لي أفضل ما يمكن على الصعيد الشخصي، مساعدة كبيرة جداً في لحظات الشدة العاطفية، وأصبحت بعد ذلك حالات الضيق تلك أقل حدة وديمومة إلى درجة أنني أصبحت أكثر قدرة على مواجهة الأحداث السيئة والمضايقات. وقد منحني التأمل القابلية على تذوق اللحظات الجيدة على نحو أفضل وعلى فهم أنه لا يكفي أن تكون مصادر السعادة الممكنة موجودة، بل يتعين على المرء أن يشرع أبواب روحه أمام هذه السعادة، وأن يوليها انتباهه ويفتح لها قلبه. وقد جعلني هذا أدرك أنه لا يجب الاكتفاء بالنظر إلى السماء أو إلى زهرة ما في طريقنا، بل يجب أن نتوقف للحظات لنستنشق ونتذوق اللحظة التي نعيشها... هذا المزيج بين هبتين مقدمتين من التأمل، أي القدرة على تجاوز لحظات الشدة والحضور الطاغي في لحظات السعادة، ساعدني على سلوك طريقي نحو ما أسميه سعادة جلية. إنها سعادة تبلغ حد الانبثاق والظهور حتى أثناء الشعور بالضيق.
كيف أمارس "التأمل بكل الوعي، واليقظة"؟
بصراحة، أفعل كما يفعل الآخرون! فممارسة التأمل بشكل منتظم ليست بالأمر السهل وتتطلب جهداً كبيراً لكنني ثابرت على ذلك لأن هذه الجهود كافأتني بالأضعاف.
أبدأ صباحاً بخمس إلى عشر دقائق من التمطط الحفاظ على كامل مع الوعي، ومن ثم أتأمل جالساً من عشر إلى ثلاثين دقيقة حسب الأيام، حيث أخصص عشر دقائق للأيام التي لا أمتلك فيها سوى القليل من الوقت، وأحياناً لا أتأمل سوى خمس دقائق فالمهم هو الجلوس وإدراك الحالة الداخلية. كما أخصص من عشرين إلى ثلاثين دقيقة في أيام نهاية الأسبوع أو أيام العطل. أستخدم عداد الدقائق لكي لا أفكر بالوقت الذي يمر ولكي أكون بكامل وعيي في التمرين.
غالباً ما أقوم خلال اليوم بفواصل صغيرة من التأمل بكامل الوعي، فأنا أستغل لحظات الانتظار ولحظات المشاعر المحببة لكي أتذوقها بشكل أفضل، إضافة إلى لحظات المشاعر غير المحببة لكي أتمكن من مواجهتها على نحو أفضل. وفي النهاية أبذل جهدي مساءً للحصول على وقت أتأمل فيه بكامل وعيي قبل أن أخلد إلى النوم وذلك لكي أهدئ جسدي وروحي.
:" ما أظهرته الدراسات حول ممارسة "التأمل بكل الوعي، واليقظة
إن فوائد التأمل كثيرة من الناحية الصحية، فهو ذو تأثير بيولوجي محبب حيث إنه يرفع المناعة ويقلل من مستويات الالتهاب، ويبدو أنه يحد من شيخوخة الخلايا ويغير من شكل الجينات المرتبطة بالشدة النفسية.
وهذا أمر مهم لأنه من بين العوامل التي تؤثر في صحتنا هناك عوامل سببها خارجي كالوراثة ودرجة نظافة أو تلوث الهواء والماء والغذاء. كما أن هناك عوامل متعلقة بنا كالتمارين الرياضية والتغذية والتأمل!
تقوم الفائدة الثانية المباشرة لهذه الممارسة على توازن الانتباه، فهذا الأخير هو عبارة عن ملكة لا بد منها لضمان الحد الأدنى من الاستمرارية في أعمالنا وأفكارنا وتعميق طريقة تفكيرنا وهذا ما نسميه التركيز. بيد أن مقدراتنا على التركيز مهددة من بيئتنا الحديثة التي تحاربنا طوال الوقت من خلال حالات التعطيل والتعلق والتحريض المرتبطة بالشاشات والإعلانات والمجتمع الاستهلاكي. ونظراً لضعف التحكم بذاتنا فنحن أنفسنا نستسلم في أغلب الأحيان لهذه التحريضات والتحفيزات وغيرها من الإغراءات.
ليس هنالك من مشكلة لو كنا نعيش في بيئة طبيعية تندر فيها هذه الإغراءات، ولكن بيئتنا المعاصرة اتخذت شكلاً صناعياً تستغله الشركات الكبرى التي تستفيد من زراعة عدد كبير من اغراءات داخلنا ظننا أنها حاجات أساسية لنا. في الواقع أن هذا الأمر لا يعكس إلا حقيقة أن القائمين على تلك الشركات هم بحاجة إلى التوسع أكثر فأكثر.
يعدّ التأمل أيضاً وسيلة لتعميق معرفتنا لذاتنا، فهو يساعدنا على الملاحظة بشكل أفضل، وعلى فهم آلية عمل دماغنا وبالتالي فهو يساعدنا على رؤية أفضل للحياة وللموت على الصعيد الفكري والعاطفي والتأثير القوي الذي تمارسه هذه الأفكار والمشاعر في تصرفاتنا واندفاعاتنا. هذا أمر أساسي لأن الكثير من آلامنا مصدرها أنفسنا! تعرضنا الحياة للمتاعب إلا أننا نضيف إليها جرعة جديدة من المتاعب من خلال اجترار الذكريات والشعور بالقلق واليأس وهذا ما يضاعف الألم. يسمح لنا التأمل أن نرى كيف يمكن لتفكيرنا أن يغادر أرض الواقع نحو الخيال أثناء تخيلاتنا. كما أنه يساعدنا على العودة إلى مواجهة المشكلات الواقعية بتجرد من أية إضافات.
وقد ثبتت صحة فوائد التأمل على التوازن العاطفي، فهي تؤدي شيئاً فشيئاً إلى الشعور بعدد أقل من المشاعر السلبية وبعدد أكثر من المشاعر الإيجابية. وهذا أمر مدهش فنحن لانطلب من متعلمي التأمل أن يشعروا بإرادتهم بالمشاعر السلبية بشكل أقل أو أن يشعروا أكثر بما هو إيجابي. ولكن بمجرد أن يكون المرء حاضراً في حياته، وفي سعادته، وفي حزنه، فإن هذا الأمر يدفعه بشكل طبيعي إلى إعادة التوازن. هذا أمر مهم لأن دماغنا يميل إلى تفضيل الفعل على التأمل حتى أثناء اللحظات المحببة، فهو يميل إلى الانتقال إلى اللحظة التالية بدلاً من التمتع باللحظة الآنية. كما أن دماغنا يميل إلى تفضيل ما هو سلبي، كالمشكلات التي تنتظر حلولاً، على ما هو إيجابي كالأشياء الجميلة التي تنتظر منا أن نعجب ونتمتع بها.
تتعلق فوائد التأمل أيضاً بالاستماع للآخر وبالعلاقات أي أنه بفضل الوعي الكامل نتعلم كيف نستمع حقاً إلى الآخر دون الحكم عليه ودون التحضير للإجابة. وهذا أمر مهم لأن عاداتنا الاجتماعية تجعل لقاءاتنا سيئة أحياناً، ذلك لأننا نرغب بإقناع الآخر بدلاً من أن نتعلم شيئاً باعتبار أننا محكومون بالوقت، ويهمنا أن نكون فعالين وأن نصل لزبدة الحديث. ولكن لا يمكن أن تعمل العلاقات الإنسانية دوماً في هذا السياق فنحن الآن كما في السابق بحاجة إلى التمهل وتقبل الآخر.
لإنهاء هذه القائمة الطويلة لدينا طبعاً فوائد التأمل على الوجود أمام الذات وأمام العالم، فالوصول إلى الوعي الكامل تتعدى فوائده أن يكون مجرد أداة بسيطة لتحسين أدائنا فيما يخص العقل والعاطفة والتصرفات، وهذا، أصلاً أمر جيد جداً. فالوعي الكامل يمثل على نحو كلي وتصاعدي وسيلة للعيش وتغيير علاقتنا بأنفسنا والعالم من حولنا. إنه طريق يصقل روحانيتنا، ذلك الجزء من أنفسنا الذي لا يخضع قسراً إلى قواعد المنطق والذكاء وليس من السهل أن نصفه بالكلمات. إن الروحانية هي حياة روحنا التي تنفتح على كل ما هو بالغ التعقيد لتحاصره بالذكاء وتجعله قابلاً للوصف بالكلمات، وهذه الأمور المعقدة هي الحياة والموت والآخرة واللانهاية والكون والخلق... الخ. يمكن أن تكون الروحانية علمانية أو أن تندرج تحت ممارسة دينية. وقد قال الدالاي لاما ذات يوم: «يمكن أن نعيش بلا شاي ولكن لا نستطيع العيش بلا ماء، وكذلك الأمر بالنسبة للديانة التي نستطيع العيش من دونها ولكن لا نستطيع العيش بلا روحانية». بلا روحانية لا نعود بشراً بل نصبح آلات.
كيف نمارس "التأمل بكل الوعي، واليقظة"؟
في هذا الكتاب نتحدث على وجه الخصوص عن الوعي الكامل، وهو الجانب الأبسط والأهم الذي نجده في كل أشكال التأمل الأخرى. يقوم الوعي الكامل على جعل المرء حاضراً في ما يعيشه فيكون حضوره بكامل تركيزه بعيداً عن أي ردة فعل.
من السهل أن نبدأ بالتأمل، فلنجربه الآن: راقب ما تختبره في هذه اللحظة دون التفكير بتغييره كالتنفس والجسد والأحاسيس العامة والأفكار... الخ.
في عالم التأمل يصرّ المعلمون على أهمية الجلسة، فوضعية الجلسة تسهل خلق الحالة التأملية. لا يجب أن نستعجل خلق هذه الحالة بل يجب أن نحضر كل ما يسمح بظهورها. توجد وضعيتان للجلوس مفضلتان وهما وضعية الجسد ووضعية الروح. فيما يتعلق بوضعية الجسد يكفي أن نكون جالسين بكل بساطة ونحافظ على الظهر مستقيماً والأكتاف مفرودة والأقدام مستوية والأيدي ممدودة على الأفخاذ. يمكن أن نغمض العينين كلياً أو جزيئاً إلا أن بعضهم يفضل أن يتأمل مفتوح العينين.
ومن ثم هناك وضعية الروح التي تقوم على ألا ننتظر شيئاً وألا نريد شيئاً وألا نميز شيئاً. ما علينا سوى أن نكون حاضرين لاستقبال وملاحظة كل شيء. وهذا ليس بالأمر السهل لأنه غير اعتيادي على الإطلاق! عموماً نحن نسعى لبلوغ نتيجة جهودنا ونفضل أن نستشعر الأمور المحببة وأن نقصي تلك غير المرغوبة. أثناء التأمل مع الوعي الكامل نقوم بالأمر على نحو مختلف، فنحن نستقبل ونلاحظ بهدوء كل ما يصلنا وكل ما يوجد حولنا، والجهود لا تأتي من التحكم بالحالة، بل تأتي من حضورنا أثناء التأمل.
هنا يبدأ تمرين التأمل الذي نتحدث عنه وهو يمر عموماً بأربع مراحل والمرحلة الأخيرة اختيارية.
المرحلة الأولى: التوقف والجلوس وهذا ليس أمراً بسيطاً لأننا معتادون على أن نلتزم بفعل أو بلهو، ولكننا لسنا مهيئين لحالة اللافعل. اللافعل أن نكون بحالة استراحة أو استرخاء. صحيح أننا لا يعني نفعل شيئاً ولكننا لا نفعله بشكل جيد! يمزح الفيلسوف أندريه کومت سبونفيل الذي يمارس الزازين (وهو منهج تأملي بوذي)، قائلاً أن فن التأمل (زين) يعني ألا نفعل شيئاً لكن بعمق». في الوقت الذي نكرس أنفسنا للتأمل نكون كذلك يقظين، نشعر ونلاحظ كل ما يجري... وكل ما ينجم عن ذلك من أفعال وقرارات سيأتي ولكن لاحقاً.
المرحلة الثانية: ينبغي تثبيت الانتباه على التنفس. لماذا يجب أن نركز الانتباه؟ لأنه بشكل عام عندما نبدأ بالتمرين التأملي نكون مشتتين ومشغولي التفكير. غالباً أيضاً ما يدخل التأمل في صراع مع نشاطات أخرى فما إن نجلس حتى نبدأ بالتفكير بقوة بالنهوض لفعل شيء آخر خطر ببالنا ونعتبره أكثر أهمية وهذا أمر نخطئ به دوماً. لماذا نتنفس بعمق؟ لأنه من الصعب تركيز الانتباه على شيء ثابت، ففي منهج التأمل (زين سوتو) نقوم بالتأمل قبالة جدران بيضاء في دوجو (قاعة التدريب على الفنون القتالية) لمدة ساعات، وأستطيع أن أقول إن هذا ليس سهلاً على المبتدئين! على العكس، إن التركيز يحدث بشكل أسهل على شيء يتحرك كهؤلاء الذين يتفاعلون أمام شاشات التلفاز والإنترنت حيث نسمي ذلك «هدفاً متحركاً». إن أفضل هدف متحرك، في متناول يدنا هو التنفس. فهو ذو حركة هادئة دائمة لا تنقطع وموجودة معنا دوماً... يجب الإشارة إلى أنه ينبغي أن نشعر بالتنفس لا أن نفكر به. ثم يجب أن نقوم بالتمرين مطولاً لكي ندرب أنفسنا على إدراك حالات تشتت الانتباه وكشف اللحظات التي يضيع فيها التفكير، وعلى إعادته إلى التنفس. إن هذه الحالات من تشتت التفكير هي حالات طبيعية، فالعقل ينتج أفكاراً تماماً كما تنتج الرئتان الهواء للتنفس. ليس ذلك أن نخلق فراغاً في فكرنا ولكن أن نعي ميوله للشرود وأن ندرب أنفسنا على هذه الحالات من الشرود.
المرحلة الثالثة: تقوم على توسيع مساحة وعينا، فما إن يستقر الانتباه حتى نبذل جهدنا لتوسيع مساحة وعينا قدر المستطاع والتأرجح في شكل من الوعي يمكن أن نسميه «مفتوحاً» أو «بلا موضوع». إنه شكل من الوعي يمكننا أن نكون فيه ببساطة، ولكن بلا مبالغة، حاضرين في العالم وواعين لما نستشعره من تنفس وجسد وأصوات وأفكار وعواطف وكل المشاعر التي تأتي وتذهب... وكلما أدركنا أن فكرنا منحصر في شيء ما كالأفكار والأحاسيس الجسدية والأصوات المزعجة أو الجميلة، نقبل بهذا الفكر ولكننا نعيد من جديد بروية وبانتظام، فتح مساحة تركيزنا نحو كل ما تبقى مثل وعينا الكامل للتنفس وللجسد وللأصوات ووعينا للحركة الدائمة للأفكار ... وإن عاد الفكر للانغلاق نعيد فتحه من جديد وهكذا دواليك. إن هذا الحضور النقي الخالي من الانتظار ومن الهدف يمثل الوعي الكامل، ويمكننا أن نبقيه على هذه الحال التي هي بالأصل مثمرة ومولدة للصحة وللنقاء. إلا أنه يمكننا أيضاً أن نذهب إلى أبعد من ذلك.
لا يستغرق تعلم هذه الأساسيات الخاصة بالوعي الكامل سوى بضعة أسابيع، وهذا ما يجعل منه منهج التأمل الأكثر انتشاراً وقرباً من المبتدئين، فتطبيقه بسيط، وفوائده سريعة . كما أن تعميق هذه الأساسيات يستغرق عدة أشهر. ولكن عندما نتعود على تطبيق الوعي الكامل يمكننا أن نذهب بشكل أسهل نحو ما نريد بواسطة فكرنا. وهذا يسمح باكتشاف عوالم تأملية أخرى، وتلك هي
المرحلة الرابعة. لأنه ما إن يستقر التركيز وينفتح الوعي حتى يغدو بمقدورنا أن نقرر البقاء هناك في الحاضر. في الحقيقة توجد فضائل عديدة للوعي الكامل باقية ببساطة كما هي، ويمكننا أن نستخرج منها الرقة والغنى مدى الحياة. كما يمكننا أن نستخدم هذه الحالة العقلية في الوعي الكامل للعمل على تطوير عدة ميزات كالعطف والرأفة وحب الآخر، أو التوجه نحو تمارين أكثر تصويريةً، فمثلاً في التقاليد البوذية يقومون بفحص الظواهر المرتبطة بتعلق الفرد بالآخر أو المرتبطة بعدم دوام الحال. ولكن هنا ندخل في مراحل متقدمة من الممارسة التأملية مثل تلك المراحل التي تقترح نماذج مختلفة من التعليم التقليدي سواء أكانت شرقية أم غربية. وهنا يجب السؤال حول رغبتنا بمتابعة هذا الطريق؟
متى نمارس "التأمل بكل الوعي، واليقظة"؟
يقوم التأمل بلا شك على الجلوس والنهوض للقيام بتمرينات خاصة موروثة من التقاليد أعادت الدراسات الحديثة النظر فيها. كما أن التأمل يعني أن نعيش وجودنا كاملاً على نحو مختلف قدر المستطاع بالوعي الكامل بدلاً من اختبار الكثير من اللحظات بوجود الوعي الكامل.
توجد تمارين «رسمية» أي إنها تحمل رموزاً وقوانين مفروضة كتلك التي نراها في رياضة التزلج الفني. نقوم بهذا النوع من التأمل بشكل أولي في كل صباح.
ولكن يوجد خلال اليوم فواصل للوصول للوعي الكامل، حيث يمكننا أن نكون حاضرين بالوعي الكامل وذلك لن يستغرق سوى بضعة دقائق. يمكن القيام بذلك في لحظات الانتظار وعند الانتقال من نشاط إلى آخر وفي لحظات المشاعر العاطفية التي يمكن أن تكون محببة أو غير محببة. نتوقف لنأخذ نفساً لنعجب بما هو جميل أو نتذوق لحظة من السعادة، تماماً كما نتوقف لتتجاوز ولنواجه لحظة مؤلمة مع وعينا الكامل دون أن نهرب أو نجتر ذكريات سيئة.
وأخيراً نقول إنه يمكن ممارسة الوعي الكامل أثناء أي فعل نقوم به في حياتنا اليومية كالأكل والطبخ والغسيل والمشي وركوب السيارة وقراءة قصة لطفل والمحاورة... في كل تلك اللحظات نفعل كل ما بوسعنا لنكون فعلاً حاضرين في ما نفعل. وليس المطلوب أن نفعل ذلك طوال الوقت لأن ذلك صعباً رغم أنه ممتع ومهدئ. يمكننا أحياناً أن نسمح لأنفسنا بتناول الطعام في أثناء مشاهدة التلفاز، أو أن نقود سيارة ونحن نستمع للمذياع! ولكن يتوجب علينا أن نبقى يقظين فهل يحدث الأمر دوماً على هذا المنوال؟ إن كان هذا ما يحدث أليس علينا أن نعيد توازن ذهننا نحو اللحظة الحالية، نحو ما نعيشه وليس نحو ما نعقله؟ إنه سؤال يتعلق بإعادة التوازن وليس بالتدرج. ليس من الضروري أن يكون التأمل طاغياً على الفعل كما أن اللحظة الحالية ليست بالضرورة أن تكون طاغية على اللحظات المستقبلية أو الماضية. إن تركيزنا على ما نفعله ليس بالضرورة أن يكون طاغياً على تشتت ذهننا أو تعلقنا بعدد كبير من الأفكار والنشاطات. من غير المجدي أن نبحث عما هو جيد أو أقل جودة فكل شيء جيد أو كل شيء سيكون جيداً! ولكنها مسألة لحظة ووعي وخيار حيث يجب أن نعرف ما الذي نحتاجه: هذه اللحظة أم تلك من حياتنا؟ هل نحن حقاً مدركون لما نعيشه؟ وهل نحن في هذه اللحظة نعيش حقاً كما نتمنى؟ إن هذه الأسئلة عميقة، ولهذا فإن تمضية وقت في التأمل يجعل منا عموماً بعض الشيء أكثر حكمةً وشفافية وإشراقاً.
وربما، في المعنى نفسه كان ألبير كامو يقول في كتابه «الضد والمكان» هذه الجملة الرائعة التي ستكون بمثابة خاتمة لنا: «لم يعد الآن أن يعنيني أكون سعيداً بل ما أتمناه هو أن أكون واعياً».
الزفرة
لطالما احتل التنفس مكانةً مركزية في الممارسة التأملية، فهو الوسيلة الأقوى للتركيز على اللحظة الحالية. ولهذا السبب فإن إحدى النصائح الأكثر بساطة وفعالية التي يمكن أن نمنحها للمبتدئين هي أن نقوم عدة مرات خلال اليوم بأخذ وقتنا للتنفس، فقط نتنفس بوعينا الكامل لمدة دقيقتين أو ثلاث
لأنه لكي نتأمل يجب أن نركز انتباهنا، ولكن على ماذا؟ من الأبسط بشكل عام أن نختار ما نسميه «هدفاً متحركاً»، شيئاً ذا حركة بطيئة ومنتظمة. وإلا فإن التركيز يتشتت. من بين الأهداف المتحركة التي وجدناها جميعاً لدينا أمواج البحر وألسنة اللهب المشتعلة في الخشب والمناظر الطبيعية المارة من خلف النافذة في قطار. ومعظمنا مرّ بتجربة التأمل اللحظية. ولكن ليس من السهل دوماً التأمل بالنظر إلى البحر أو إشعال نار في الخشب عندما نرغب بالتأمل. لدينا هدف متحرك دائم الوجود وهو التنفس والحركة المرفقة به
تمرین
دعوا ما تفعلونه الآن. واعتدلوا بجلستكم إن كنتم مائلين قليلاً. افردوا أكتافكم وحافظوا على رقبتكم مستقيمة بلا مبالغة.
لا تحاولوا التحكم بتنفسكم أو التنفس بطريقة معينة بل دعوا تنفسكم يخرج منكم ويعود ببساطة.
لا تفكروا بتنفسكم بل استشعروه بكل بساطة.
اربطوا أنفسكم بالمشاعر المتعلقة بالتنفس كالهواء الذي يدخل ومن ثم يخرج من أنفكم ومن حلقكم... وحركات صدركم وبطنكم الذي يرتفع ويهبط، اشعروا بهذا الإيقاع... استشعروا تنفس جسدكم بكامله...
إن لم تحافظوا على تركيزكم فهذا ليس أمراً فادحاً بل هو شيء طبيعي. عودوا إلى الوعي الكامل للزفرة وضعوا كل الأحاسيس الجسدية المرتبطة بالزفرة في مركز انتباهكم...
امتلكوا وعياً لحركة الهواء الداخل والخارج...
امتلكوا وعياً لحركات صدركم وبطنكم... ووعياً لجسدكم الذي يتنفس كاملاً بمفرده وبهدوء.
نصائح
بماذا يفيدنا هذا التمرين؟ ربما لا شيء وربما يمكن له أن يساعدنا على تطوير مقدرتنا في التركيز، ففي كل مرة نلاحظ أن فكرنا شرد عن التنفس وذهب نحو التفكير وفي كل مرة نعود فيها إلى التنفس، نقوم «بتقوية عضلات» انتباهنا بعض الشيء.
إن الوعي الكامل للزفرة هو المحرك الأساسي لجميع الممارسات التأملية التي طرحناها معاً في هذا الكتاب. لهذا فأنا أشجعكم على تكرار هذا التمرين الصغير عدة مرات في اليوم قوموا بالتركيز على الحركات التنفسية لعدة دقائق.
كريستوف أندريه
من كتاب: ثلاث دقائق من التأمل