(ملحوظة للمتصفح: ربما يكون من الملائم ربط هذه الفكرة بتلك التي نشرناها سابقاً لرولو ماي بتاريخ 1/6/2006 تحت عنوان "خبرة إدراك الذات")
إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يطلب تبريراً لوجوده ولا يكتفي بمجرد الحياة. فالحيوان لا يتساءل عن وجوده إطلاقاً، ويبقى الإنسان الكائن الوحيد الذي يطرح سؤالاً جوهرياً كهذا، ويظل حائراً ما دام لم يجد إجابة له.
حين أحاول أن أتخيل أنه كان من الممكن ألا أكون موجوداً أنا وجميع من أعرفهم، بل لا أرض ولا شمس ولا خليقة، أقول: يا رب سبحانك، أشكرك لأني موجود. فعلى الإنسان أن يبدأ يوماً ما فيكتشف أن وجوده معجزة.. نعمة، وهي أكبر نعمة، لكننا قلما ندرك هذه الحقيقة، فنحن نعيش وكأن وجودنا واجب الحدوث. أنا موجود والعالم موجود، وهذا واقع ألفناه.
يجب أن نمعن النظر يوماً ما ونفكر في ما كان يحدث لو لم يكن كل هذا: الطبيعة.. الشجر.. الشمس بشروقها وغروبها.. الكواكب والبشر.. وأنا. شئ فظيع، فراغ.. فضاء.. ظلام.. سكون.. عدم. هنا أفيق وأقول: سبحانك يا رب، أنا موجود وحي!، أتحرك وأنظر فأجد بشراً حولي، أجد حباً، أجد وجوداً. وبهذه الطريقة يصبح هذا التفكير بداية وعي، وهذا الوعي يصبح حقيقة نختبرها، وتتحول إلى تجربة من الممكن أن نكررها في حياتنا، وهي اكتشاف وجودنا.
هذا الوعي لوجودي اسمه الأنا أو الشخص The person، فالشخص هو وعي كائن روحي لوجوده، ومن هنا كان اختلاف الإنسان عن باقي الكائنات الأخرى، فهي غير واعية لوجودها. إن هذا الكرسي موجود، لكنه غير واع لوجوده، وكذلك الشجرة والكلب. لكن الشخص هو موجود ويعي ذلك، وهذا ما يميز الإنسان أو أي شخص روحي عن باقي الكائنات، لأنه يدري وجوده، وهو ما سميناه وعي الوجود.
إذا وجدنا طريقة لنسأل الكلب: هل أنت موجود؟ فهو لا يعرف الرد. هذا يعود إلى أن الحيوان ملتصق بذاته. أما الإنسان فهو يعرف أنه موجود، وكأن كيانه انقسم إلى اثنين. هو يشعر بذاته كأن بينه وبين نفسه مسافة، وهذه المسافة هي ما نسميه طفرة الوعي. وهي صفة مميزة لكل كائن مفكر، لأن الفكر هو مسافة بين الشخص وذاته. وهذا ما يجعلنا ندرس الفلسفة ونتساءل عن وجودنا، ولا يمكن أن نتخيل فصلاً من الحيوانات في نقاش حول أسباب وجودها، لأن الحيوان، بعد أن يأكل، ينام ويستريح ولا يشغل باله بمثل هذه الأسئلة.
في الحقيقة يستطيع الإنسان، لو تعمق في مفهوم الوجود الذي نعيشه في كل لحظة تلقائياً، أن يستمد منه نظرة تصوفية عميقة جداً. ولكن، ويا للأسف، غالبية الناس يتوقفون على أنهم موجودون، علماً بأننا نحن البشر الكائنات الوحيدة التي تستطيع أن تبحث في ما وراء الوجود، بخلاف باقي الحيوانات.
الأب هنري بولاد اليسوعي
من كتاب: "الإنسان وسر الوجود"