(ملحوظة للمتصفح: هذه الفكرة طويلة بعض الشيء، ونظراً لأهميتها لم نستطع اختصار أي جزء منها. يمكنك نسخها ولصقها بملف خاص على جهازك لقراءتها في وقت لاحق)
ها نحن قد وُجدنا، لكن هل هذا الوجود يُمنح مرة واحدة، أم إنه يفترض تجدداً مستمراً للبقاء فيه؟ قد يبدو لنا هذا السؤال غريباً، لأننا تعودنا أن نرى الأشياء من حولنا باقية في وجودها، حتى أننا تصورنا أن بقاءها في الوجود هو أمر طبيعي. لكن الواقع بخلاف ذلك، فإن البقاء في الوجود هو معجزة متواصلة، ويلزم أن يكون موضع إعجابنا ودهشتنا باستمرار. وفي الواقع لا يكفي أن يمنح الكائن وجوداً حتى يستمر فيه، فالبقاء في الوجود والقيام فيه يتطلب هو أيضاً قوة لا نهاية لها كتلك التي يطلبها الوجود من العدم. وبتعبير آخر، فإن الكائنات لا تستمر إلا بعلاقة دائمة بالعلة التي منحتها هذا الوجود، وهذا البقاء في الوجود يمكن اعتباره فعل خلق متكرر بلا نهاية في الزمن.
حتى تتم عملية الخلق، وجدنا أن الله سبحانه وتعالي يركز كل كيانه وفكره وحبه لكي يوجد الشيء. فهذا الشيء لا يوجد إلا بقدر ما يركز الله فيه من حبه وعظمته وقدرته. وحين يريد الله أن يخلق تفاحة مثلاً، فهو يفعل ذلك بحبه وقلبه وفكره وتركيزه عليها، وما دام يفعل كل ذلك، تبقي موجودة. فإذا حدث وانصرف عن التفكير فيها لأي سبب ما، تختفي عن الوجود في التو، لأن فكره سبحانه وتعالي الذي كان منصباً عليها قد أنصرف عنها، فإن عاد وفكر فيها مرة أخرى، تعود ثانية إلي الوجود.
ولذلك فإن استمرار الشيء في الوجود يتطلب باستمرار تركيز الله الخالق عليه بالقوة التي وضعها في خلقه، وفي هذا يمكن القول بأن الاستمرار في الوجود لا يمثل ظاهرة تلقائية آلية، بل يتطلب الدرجة من التركيز والقوة التي تطلبها الوجود في البداية، ولذلك فإن استمرار وجودي هو نتيجة تلقائية لاستمرار فعل حب الله لي هذا. فإن غاب فكره عني ولو للحظة أتلاشى في التو وأعود إلي العدم. بتعبير آخر، بما أن وجودي مرتبط بتفكير الله في، فاستمرار وجودي يتطلب استمرار تفكيره في لحظة بعد لحظة للأبد.
وهذه العلاقة الجوهرية والذاتية تجعل منا كائنات متعلقة جوهرياً بكيان آخر ... أي تجعلنا خلائق. فالخليقة مرتبطة في كل لحظة بالله تعالي مثل تعلق الثمرة بالشجرة. وهذا الغصن الصغير الذي يربط بينهما هو الذي يجعل الثمرة تعيش وتستمد حياتها من الشجرة، كذلك فالإنسان متعلق بالله بعود صغير يمكن أن نسميه غصن الوجود.
إن الحبل السري الذي يربط كل جنين بوالدته، هو الحبل الذي يمر من خلاله الدم والغذاء، والذي بدونه لا يستطيع أن يعيش. ومع أن هذه الرابطة الحية بين الأم والجنين تنقطع يوماً ما فيعيش الإنسان مستقلاً عن أمه، فإن هناك حبلاً آخر يشبه حبل السرة، يربط الإنسان بالله، وهذا الرباط هو حيوي ويفوق الإدراك، ولولاه لعادت الخليقة فوراً وأبداً إلي العدم الذي خُلقت منه.
إنه حبل سرى بمعني أنه خفي، لكنه حقيقي، وألا ما كنا موجودين الآن. في كل لحظة هناك صلة جوهرية أساسية بينك وبين الله، قال فيها بولس الرسول: "ففيه حياتنا وحركتنا وكياننا" (أعمال 17: 28) فمشكلة حفظ الكائن في الوجود ومشكلة منحه الوجود هما في الواقع مشكلة واحدة وحيدة.
إن هذا الاكتشاف لما نحن عليه من تبعية ولا ضرورة (لا حتمية) وجودنا (تحدث عنها الكاتب في فصل سابق من هذا الكتاب) يمكنه أن يكون سبباً للقلق والكآبة والخوف: الخوف من الله الذي لمجرد نزوة طارئة عنده يمكنه أن يعيدنا إلي ذلك العدم الذي خُلقنا منه، والذي لا نزال في كل لحظة نتأرجح من فوقه.
وقد يكون هذا الخوف معقولاً إن اعتبرنا الله من الناحية الفلسفية فقط ، ولكن إن اعتبرنا في الله الحب العظيم فلا داعي حينئذ إلى الخوف المفزع هذا والكابوس المؤلم، فالقلق حينئذ يحل محله الإيمان والثقة والاستسلام واليقين، لأن الحب يحملنا بأمان ويعتني بنا بأمانة.
أننا نرى هنا فكرة كون الله محبة تأتي وتصحح ما تغمرنا به من قلق فكرة لا ضرورة وجودنا، ومن هذه الزاوية يمكننا أن نوضح تفكيرنا ونصححه بالطريقة الآتية: الحب بالمعني المطلق لتلك الكلمة يعني قبول التبعية لمن نحب، وربط السعادة الشخصية بمصير من اخترناه لنحبه. فإن كان الله هو الحب، والحب غير المتناهي، فأنه يلزمنا أن نقول أنه تعالي ربط بمحض حريته واختياره، ولفرط محبته، مصيره بمصير هذا الإنسان الذي اختاره وأراد أن يحبه وأن يتعلق به.
إن مثل هذا التصريح يبدو تجديفاً يفوق الإدراك، إن كنا لا نزال نتصور الله مكتفياً بذاته، متمتعاً بكمالاته، متنعماً بسعادة دائمة فوق هذا العالم الزائل الفاني الذي لا قيمة له بالنسبة إلى الذات العليا، لأنه نتيجة مجرد رغبة لا تؤثر فيه بشيء.
إن مفهوم الله تعالي هذا هو مفهوم بسيط وساذج وبدائي،وهنا تتجلى الفكرة الرائعة والمفهوم القوى لإله المسيحية في حقيقته الجبارة، الإله الذي تتجلى عظمته في تواضعه الذي يحمله علي الهبوط إلى مستوى الإنسان الذي يحبه بحيث يربط مصيره به. إله متواضع وفقير، إله قابل للآلام، إله الحب. وفي ذلك واقعة التجسد والفداء والصليب، "فإننا نبشر بمسيح مصلوب، عثار لليهود وحماقة للوثنيين، وأما للمدعوين، يهوداً أكانوا أم يونانيين، فهو مسيح، قدرة الله وحكمة الله" (1 قورنثوس 1 : 23 : 24 )
إن هذا الأمر لهو ثورة في ميدان الدين أشبه بثورة كوبرنيك في ميدان العلم. ومن هنا يتضح لنا أنه لا يمكن اكتشاف المسيحية والعيش بموجب مبادئها إلا إذا حدث للإنسان ارتداد كلي وتغيير شامل في نظرته إلى الأمور. وبهذه الاعتبارات يتفوق الإنسان علي عدمه ولا ضرورة وجوده وعدم أهميته، وينتصر علي قلقه ويأسه. إنه لا يعتبر فائضاً في عالم يناصبه العداء، ولكنه يكتشف فجأة أهميته وضرورته في نظر الله الذي أحبه حباً لا يوصف ولا يمكن إدراكه.
"فإلي الفرد الضائع في وسط هذا الكون الشاسع، إلى هذه الذرة التائهة علي شاطئ كوكب صغير يسير بسرعة الصاروخ، إلى هذا الفرد الذي يخال إن العالم ينكره ويهمله، أتي اليوم الذي فيه يقول له الإيمان: إرفع رأسك أيها الإنسان، إنك قائم أمام الله، إنك أسمي من الأجرام السمائية، إنك أعلي من النظام والعدالة ذاتها" (جان ساليفان)
وجودي متعلق بتفكير الله فيً
كثيراً ما نمر بتجارب ومحن ومصاعب ومتاعب ويأس، فنتساءل: هل الله يحبني؟ لو كان الله يحبني فعلاً لما أرسل إلى هذه الكارثة، ولما أخذ مني هذا الشخص العزيز في حياتي، ولما سمح بأن أرسب في الامتحان … الخ. فالإنسان كثيراً ما يشك في حقيقة حب الله له. ُترى ما هو الرد؟ ما هي الشهادة التي سيعطيها الله عن نفسه ليثبت أنه يحبني؟ لهذا الشخص أقول: أنت موجود، فوجودك واستمرارك في الوجود هما الإثبات القاطع علي حب الله لك، وجودك وحياتك هما شهادة حية مستمرة علي حب الله لك، ولو كان الله قد نسيك، وإن للحظة واحدة، لعدت إلى العدم، إلى اللاشيء.
وجودي واستمرار وجودي ناتجان عن فكر الله الذي لا ينفك متعلقاً بي. ولو غاب عني هذا الفكر ولو لحظة واحدة، لتلاشيت من الوجود. لنفترض مثلاً أن الله، بسبب انشغاله بالحروب والمجاعات وسواها، قد نسي لمدة خمس دقائق أن يفكر في الأب بولاد، بمعني أنه بين الساعة السادسة والسادسة وخمس دقائق انشغل فكره تعالي عن التفكير في، ماذا سيحدث؟ سيحدث أن الأب بولاد لن تراه أمامك في هذه المدة. ستبحث عنه في كل مكان من دون جدوى، لن أكون مختبئاً في مكان ما، ولن أموت ولكن سأعود إلى العدم، لأن وجودي متعلق بتفكير الله في، ويكفي أنه، ولو للحظة واحدة، ينساني حتى أعود إلى اللاشيء.
أستطيع أن أنسى الله، لكنه لا يمكن أن ينساني. من الممكن أن يبعُد فكرى عن فكر الله، بل وكثيراً ما يحدث أن لا يتذكر الإنسان خالقه ، ويستطيع أن يعيش أياماً وسنوات بدون أن يذكره، لكن حياه الإنسان تدل علي أن الله لا ينفك يذكره في كل لحظة. إنها ثمرة حب من الله له. فإن أنت نسيت الله فهو لا ينساك.
الإنسان قليل الشكر وقليل الذكر لله، لكنه هو لا ينسانا "أتنسي المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى ولو نسيت النساء، فأنا لا أنساك" (أش 49: 15). الإنسان غال علي قلب الله، فحين تسأل هل يحبني الله، وما الدليل علي هذا الحب، فوجودك هو الدليل، واستمرار وجودك هو الدليل، لأن الله لا ينفك يفكر فيك، وهذا ما يجعلك تعيش وتتنفس، لأنه لا يوجد إنسان صاحب حياته، فما هو المجهود الذي تبذله حتى تكون موجوداً، وحتى تستمر في هذا الوجود؟ من يحمل عنك عبء وجودك؟ من منا ولو ركز كل تركيزه، يستطيع أن يزيد ولو شبراً واحداً علي قامته؟
الخلق عمل حاضر
قصة الخلق ليست إذا قصة قديمة حدثت في الماضي السحيق حين خلق الله آدم وحواء، وحين خلق العالم والمخلوقات. كلا، فإن كلمة "خلق" لا يجوز أن توضع في صيغة الماضي، بل في صيغة الحاضر، ولا يجوز أن نقول: الله خلق العالم وخلق الإنسان، بل الأصح أن نقول الله يخلق العالم ويخلق الإنسان. لا يصح أن أقول: الله خلقني، بل أقول: الله يخلقني. الخلق فعل حاضر قائم الآن، بمعني أنني خارج لتوًى من بين يدي الله. متي خلقني الله؟ الآن. والخلق عمل مستمر وينبوع متدفق. بمعني أن الخليقة تخرج باستمرار من يد الله، وإلا لأصابها العطب والفساد. لكن ما الذي يجعل الخليقة تتجدد دائماً؟ إنه ينبوع الحب الإلهيً لا يزال يتدفق ليجعل كل شيء جديداً في كل لحظة، ولو لم نكن نتجدد ونُخلق في كل لحظة من لحظات حياتنا، لكنا عدنا إلى العدم. والمتصوفون والقديسون اكتشفوا هذه الحقيقة، فاحتفظوا بنظرة شفافة إلى العالم. فعلي سبيل المثال، حدثت رؤيا كبيرة، بل قل أكبر رؤيا في حياة القديس إغناطيوس دى لويولا، قال عنها: فيها عرفت أشياء، وتعلمت اكثر مما تعلمت في كل الكتب مدى حياتي. في هذه الرؤيا رأى العالم وهو ينبثق في اللحظة من قلب الله، ومن يدي الله، ومن كيان الله. رأى الخليقة مثل ينبوع متدفق، وكأن جميع المخلوقات تتمتع بالوجود في اللحظة نفسها.
الله يحمل عني هم وجودي
سواء أنمت أو قمت أو انشغلت في عمل فأنا موجود. ومن الذي يحمل عني هم وجودي؟ بالطبع الله. أنا الآن أحمل هذه الحقيبة، وما دمت أنا ممسك بها بيدي، ستظل في هذا الوضع، لكن حين أسحب يدي وأتركها تسقط علي الأرض. هكذا أنا أعيش في الحياة، وأعتبر وجودي حدثاً طبيعياً لأني ألفته، فلو سحب الله حبه، لعدت إلى اللاشيء. لكن اطمئنوا لأن الله لا يخون الإنسان: "يجده في أرض برية وفي خواء صياح وحشى. يحيط ويعتني به ويحفظه كإنسان عينه" (تث32: 10)
لنفترض مثلا أن حياتي في يدي، وأنني مصدر وجودي، فلو كان الوضع كذلك لكنت مضطراً، وأنا أتحدث إلى أن أتوقف كثيراً لأعود وأركز علي نفسي حتى أظل موجوداً، بل قد لا أستطيع أن أفعل شيئاً آخر سوى التفكير في ذاتي. لكن الحمد لله، لأنه يقول لي: لا تشغل بالك، فسأقوم أنا بهذه المهمة فلا تخف. فكر أنت في عملك، وفي ما تدرسه، وأنا سأهتم بك وأحملك في يدي. لو كان الإنسان هو مصدر وجوده، فحين ينام وينسى نفسه تماماً، في هذه الحالة كان من المفروض أن يتلاشى ويعود إلى العدم، لكن والحمد لله، أنا أنام وأصحو فأجده يحملني في يديه. قد تكون يا عزيزي القارئ قد شاهدت صورة تمثل عصفوراً ينام مطمئناً في يد إنسان. هكذا نحن في يد الله، مثل هذا العصفور. فهو يقول لي: لا تخف أنت في يدي.
هناك إحساس آخر اختبرته في البحر، فإني حين يكون لدى متسع من الوقت، وحين أرى البحر بدون أمواج، أستمتع أحياناً بأن أستلقي علي ظهري علي سطح الماء وكأني أنام فوق سطح البحر، فأجد أن الماء يحملني، وأشعر أنا في إمكاني أن أرتاح وأنام علي الماء مهما كان عمقه من تحتي. هذه الخبرة الحياتية تنطبق أيضاً علي حب الله، الذي يحمل عني هم وجودي، ويقول لي: لا تخف.
لنر إلى أي مدى كشف لنا التفكير في سر الوجود عن أبعاد الحب الإلهي. فاستمرار الوجود هو معجزة مستمرة، ولكن، بسبب تعودي ذلك، أعتبر أنه حق لي أن أكون موجوداً الآن وبعد ساعة. نعم ستكون موجوداً بنعمة الله تعالي لا بمجهود منك، بل لأن الله سيظل ممسكاً بك، سيظل يحملك ويحبك، وبسبب هذا ستظل موجوداً.
حبه للأبد
ذكرت سابقاً أن حب الله لنا كان منذ الأزل، وهنا أضيف أنه مستمر للأبد، وهذا يعني أن الله أحبني منذ الأزل، من قبل الخلق والوجود، وهو للأبد لأن حبه للأبد: ".. أحببتك حباً أبدياً" (أر 31 : 3) فحب الله لا يكون إلى حين أو لمدة معينة، بل حبه وفي ومخلص، وهذا ما نستخلصه من ظاهرة الاستمرار في الوجود.
إن هذا اليقين - بمعني الحقيقة المؤكدة التي لا ريب فيها- هو صخرة حياتي، فطوبى للإنسان الذي يبني حياته علي الصخرة، وتلك الصخرة هي حب الله له منذ الأزل وللأبد: ".. لأني عالم علي من أتكلت.." (2 تي 1 : 12). هذه الصخرة تستطيع أن تبني حياتك عليها حين تفتقد حب البشر، ذلك بأنه مهما كان حب الإنسان للإنسان قوياً، فأنه قد يشهد بعض التقلبات، بل قد يتلاشى. لذا يجب عليك ألا تبني حياتك علي أي حب أيا كان، ويبقي حب الله لنا، حب للأبد، حب لا يخون.
وماذا عن الخاطئ الذي ينسى الله، هل يظل الله يحبه؟ الإنسان يستطيع أن يكره الله، لكن الله لا يمكن أن يكرهه. الإنسان يستطيع أن ينسى الله، لكن الله لا ينساه أبداً. وبما أن الخاطئ ما زال موجوداً، فالله ما زال يحبه وسيحبه للأبد، لأنه مكتوب "أللأبد انقضت رحمته والي جيل فجيل انتهت كلمته؟" (مز 77: 9)
لن أدخل في موضوع جهنم كموضوع لاهوتي، لكن ما هو الموقف بالنسبة إلى الهالكين، هل معني هذا أن الله يكرههم؟ كلا، فالله لا يزال يحبهم إلى منتهى الدهور، لأنه لا يكره إنساناً حتى لو كان هذا الإنسان قد رفضه، وهؤلاء البشر سيظلون موجودين لأن الله يحبهم، لكنهم يرفضون تقبل هذا الحب والاعتراف به. هذه هي حالة جهنم، هي رفض قبول حب الله، ورفض الاعتراف به. وهذا ما يجعل الإنسان في جهنم في حالة تناقض، فهو محبوب، لكنه يكره، وعذاب جهنم هذا ناتج عن هذا الحب المرفوض.
هذا الموضوع غني فلسفياً ولاهوتياً، فلقد اكتفيت بلمسه للفت النظر إلى حقيقة واحدة وهي أنه حتى لو رفض الإنسان حب الله، هذا لا يعني أن الله قد سحب حبه منه، فهو حب بلا عودة.
لكن حين يموت الإنسان، هل يعني ذلك أن حب الله قد أنسحب منه؟ في نظري، إن الدليل علي وجود حياة بعد الموت وعلي القيامة هو هذا اليقين بأن حب الله لا ينتهي أبداً، لأن الإنسان يتساءل أحياناً لو كان حب الله أبدياً فلماذا نموت؟ وأجيب عن هذا السؤال وأقول: من هنا كان إيماننا بالانتصار علي الموت، إيماننا بالانتصار علي الإحساس بالعبث، من خلال حب الله الذي لا ينتهي بموتنا. وعلي هذا يصبح الإيمان باستمرارية الحياة بعد الموت عنصراً أساسياً من إيماننا، وبدونه أعتبر حياتي مصادفة، أو حدثاً طارئاً في التاريخ. بدون هذا الإيمان القوى الذي يتعلق بصخرة متينة هي صخرة حب الله، قد يرى الإنسان في حياته نوعاً من العبث.
الأب هنري بولاد اليسوعي
من كتاب: "الإنسان وسر الوجود"