من التأملات اليومية للأب جان باول اليسوعي

الأب جان باول اليسوعي ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

يتمتع المرء منذ ولادته بقيمة فريدة لا تخضع لأية شروط. وكل منا سر في ذاته، فريد في كيانه وتاريخه، ومخلوق على صورة الله ومثاله. ولكننا نعرف أنفسنا فقط بقدر ما تنعكس ذواتنا في عيون الآخرين. لذا تأتي نظرتنا إلى أنفسنا متأثرة بمدى تقدير أهلنا لنا. ونحن في غالبيتنا، بل جميعنا إلى حد ما، ربينا في ظل حب لم يخل من الشروط؛ فكان يغدق علينا أو يحبس عنا بقدر ما يأتي سلوكنا مطابقاً لشروط أهلنا. لقد ارتبط حبهم لنا بما نقوم به أكثر من ارتباطه بكياننا الشخصي. لذا رحنا نظن أن قيمتنا لا تكمن في كياننا الشخصي بل في ما نحن قادرون على إنجازه، فهي ليست فينا بل خارج ذواتنا. إن فينا حاجة إلى الشعور بحب حقيقي للذات وتقدير لها واحترام، وتستمر فينا الحاجة إلى الفرح الحقيقي.
عندما تكون الشروط والاختبارات أساساً للحب، يصبح المرء أقرب إلى الفشل في الحب منه إلى النجاح. وإذا ما تعاقبت عليّ خبرات الفشل أحسست بشيء من الصراع والخوف والخيبة والألم، بل بما يشبه الحقد على الذات. أروح آنذاك أقضي ما تبقى من حياتي أبحث، من خلال بعض الحيل الوجدانية، عما يخفف من آلامي، أو أتظاهر بما يرضي الآخرين، علني أكسب عطفهم. إني في الواقع أتخلى عن ذاتي لألعب دور إنسان آخر يستحق العطف والحب.
4 ‏كانون الثاني‏‏ ‏

أهمية النظرة إلى الذات تبدو جلية في أسطورة فتاة تدعى رابونزيل : Rapunzelكانت تلك الفتاة الشابة مسجونة في برج برفقة عجوز ساحرة، وكانت رائعة الجمال. ولكن العجوز ما انفكت تردد على مسامع تلك الفتاة: "ما أبشعك". وكانت تلك خطة العجوز الساحرة كي تبقي الفتاة معها. ولكن ساعة تحرر الفتاة دقت لما حدث يوماً أنها تطلعت من نافذة البرج إلى الخارج وصادف ذلك مرور حبيبها الذي شغف بجمالها. سجن رابونزيل لم يكن البرج بل خوفها من بشاعتها، تلك البشاعة التي أقنعتها بها العجوز الساحرة بفعالية تردادها المخدر. ولكن عندما رأت الفتاة جمالها منعكساً في عيني حبيبها، تحررت آنذاك من عبودية ما أوهمت به من بشاعة في نفسها. إن ما هو حقيقة في أسطورة رابونزيل، هو صحيح في واقع كل منا؛ إن فينا حاجة ماسة إلى أن نرى في عيني إنسان آخر، انعكاسا الخير الذي فينا والجمال، إذا كنا نريد حقاً أن نتحرر. وحتى ذلك الحين نبقي نحن أيضاً مقيدين داخل سجن أبراج أنفسنا. ولأن اندفاع الحب يحتم علينا الخروج من ذواتنا والانشغال في مساعدة الآخرين على تحقيق ذواتهم، فنحن لن نتمكن من أن نحب إلى أنت تترسخ تلك الرؤيا في نفوسنا.
5 كانون الثاني

الحقيقة أنه لا يمكنني أن أحب إذا كنت لا أحب ذاتي. فوصية السيد المسيح هي أن أحب قريبي كنفسي. وقد يعرب علم النفس عن ذلك بالقول: أحبب نفسك فتتمكن من حب قريبك. .إن يسوع الذي أعرفه يدعوني دائماً إلى أن أدع الميزان جانباً وأتوقف عن وزن ما أعطي وما آخذ، وأن أجعل، بدل ذلك، من الحب الدافع الأول في حياتي. إن قول يسوع واضح: "أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم". فإذا فعلتم ذلك عمت السعادة حياتكم (أنظر يوحنا 17:13). ولكنه من الأهمية بمكان أن أعي أن موقفي من ذاتي هو الذي يتحكم بقدرتي على الحب. فبقدر ما أتمكن من قبول ذاتي يمكنني أن أحب الآخرين وأن أحب الله أيضاً.
إذا كان موقفي من ذاتي موقفاً مقيداً، تضاءلت قدرتي على الحب. فالآلام التي تتسبب فيها نظرتي السلبية إلى ذاتي أشبه بآلام حرب أهلية تدور رحاها في عمق نفسي، تستقطب كل اهتمامي وتقيد حرية انطلاقي نحو الآخر. عندما أتألم في داخلي من جراء ألم في إحدى أسناني مثلاً، تتضاءل آنذاك قدرتي على الاهتمام بشيء سوى ذلك الألم. فإذا ما شعرت بفراغ داخل ذاتي تضاءل ميلي إلى الانفتاح على الآخر. ولكن بقدر ما تتميز نظرتي إلى نفسي بالإيجابية، تضاءلت الآلام فيّ فسهل علي فهم الآخر وتلبية ما به من حاجات. وباختصار يمكنني أن أقول إن قدرتي على الحب تنمو بقدر ما تتحسن نظرتي إلى ذاتي. وبقدر ما يكون في نفسي من ألم، تتضاءل قدرتي على حب الآخرين والاهتمام بهم.
12 كانون الثاني

الأب/ جان باول اليسوعي
من كتاب رحلة في فصول الحياة