في هذه الساعة التي لم يتبقى فيها تقريبًا إلا الظلام الكلي الشامل، مازال هناك بارقة رجاء وأمل: مازال يوجد في ثنايا "المسيحية المحافظةConservative Christianity " بعض المؤمنين الذين حياتهم الروحية تعكس الجوع والعطش وراء الله نفسه.
إنهم مشتاقين للواقعية والأصالة الروحية ولن يثنيهم عن عزمهم كلمات الآخرين. ولن يكتفوا أو يقنعوا بمجرد التفسير الصحيح للحق والعقيدة (تفسير عقائدي صحيح ومستقيم لحق الكتاب المقدس غير مصحوب بحياة روحية أصيلة – المترجم). نجد هؤلاء المؤمنون متعطشين لله ولن يهنئوا إلى أن يرتووا من ينبوع الماء الحي.
هؤلاء العطشى هم بشائر النهضة التي أستطيع تبينها في الأفق. ربما تكون هذه البشائر صغيرة جدًا في حجمها مثل سحابة صغيرة بحجم كف يد الإنسان، ولكن هذه السحابة الصغيرة ينتظرها القليلون جدًا هنا وهناك من قديسين الله. من الممكن لهذه النهضة أن تؤدي إلى حياة القيامة الروحية لنفوسٍ كثيرةٍ، وتعيد مرة أخرى هذه الحياة المتوقدة المشعة، التي ينبغي أن تصاحب الإيمان بالمسيح. وبكل أسفٍ نقول أن هذه الحياة المتوقدة قد غابت اليوم من كنيسة الله.
لابد للقيادات الكنسية أن تراقب وتتعرف على الجوع والعطش وراء الله. يبدو أن المسيحية المعاصرة وقياداتها قد أعدت المذبح وقامت بتقسيم الذبيحة، ولكنها اكتفت بأن تُحصي عدد حجارة المذبح، ثم تُعيد تنظيم قطع الذبيحة عليه، ويبدو أنه ليس لها أي اهتمام على الإطلاق إذا كانت هناك أي بوادر لإتيان نار الله على قمة جبل الكرمل (بالطبع يُشير الكاتب إلى قصة إيليا مع أنبياء البعل الواردة في سفر الملوك الأول والإصحاح الثامن عشر – المترجم). ولكن شكرًا لله أنه مازال هناك البقية القليلة من أتباعه والذين يهتمون بإتيان النار. إنهم هؤلاء الذين رغم محبتهم للمذبح وفرحهم بوجود الذبيحة (يُشير الكاتب هنا إلى وجود المباني الكنسية والممارسات الدينية المختلفة – المترجم) لا يمكن أن يتصالحوا مع أو يقبلوا عدم سقوط نار الله على المذبح. إنهم يرغبون في الله وحضوره فوق كل شئ آخر. إنهم يعطشون للارتواء من حياة محبة المسيح "المتناهية العذوبة Piercing Sweetness". هذا المسيح الذي كتب عنه الأنبياء القديسين، وتغنى به كل المرنمين.
لا يوجد اليوم نقص في معلمين الكتاب المقدس الذين يفسرون ويشرحون صوابًا مبادئ وعقائد المسيح. ولكن الشيء الغريب والعجيب أن معظم هؤلاء المعلمين يكتفون بشرح مبادئ الإيمان. عامًا بعد عام، وهم غير مُدركين أن خدمتهم تفتقد إلى "الحضور الإلهي The Presence". وأن حياتهم لا تُعبر عن أي شئ مختلف عن بقية العالم. فمع أن هؤلاء الخدام يخدمون أولئك المؤمنون الذين يشعرون باشتياق لله في قلوبهم، ولكن للأسف لا يُشبع تعليمهم ذلك الاشتياق.
وأنا على ثقة أنني أتحدث في المحبة، ولكن الخلل في منابرنا الكنسية هي حقيقة واعية. كلمات "ميلتون" Milton الرهيبة تنطبق تمامًا على يومنا هذا كما انطبقت على أيامه هو من قبل: "الخراف الجائعة تنظر وتنتظر، ولكنها لا تُطعم". كلمات ميلتون حقيقة مهيبة، وهذه فضيحة حقيقية في ملكوت الله أن نرى أولاده يموتون جوعًا رغم أنهم جالسين على مائدة الآب الغنية. الحق الوارد في كلمات "ويسلي" Wesley يتحقق اليوم أمام أعيننا: "العقيدة المستقيمة الصائبة Orthodoxy في أفضل حالتها وصورها هي جزء ضئيل جدًا من المسيحية. الحياة الصائبة (السلوك الصائب) لا يمكن وجودها بدون فكر صائب. إلا أنه من الممكن جدًا أن نجد فكرًا صائبًا بدون حياة صائبة. من الممكن امتلاك عقيدة أرثوذكسية صائبة عن الله بدون أي حب أو حياة تجاهه والشيطان هو أكبر دليل على ذلك".
ونحن نشكر الله من أجل "دار الكتاب المقدس" والهيئات المختلفة الأخرى، التي تقوم بنشر وتوزيع الكتاب المقدس في كل مكان. ونتيجة لذلك، نجد الملايين الكثيرة من هؤلاء البشر الذين يمتلكون "العقيدة الصائبة" ربما أكثر من أي وقت مضى في تاريخ الكنيسة. ولكنني أتساءل هل كان هناك وقت فيه كانت الحياة والعبادة الروحية أقل وأسوأ مما هي عليه في يومنا هذا؟ لقد غاب تمامًا من كنائس كثيرة "التعبد الحقيقي لله"، وتم استبداله بشيء غريب وأجنبي يدعي "البرنامج Program". لقد تم استعارة هذه الكلمة الأجنبية من المسارح الفنية، ثم بحكمة خاطئة، تم استعمالها وتطبيقها في اجتماعات العبادة الكنسية، والتي يطلق عليها خطأ "تعبد لله".
التفسير اللاهوتي القويم والعميق والصائب Sound Bible Exposition (نحتاج أن نستعمل ثلاثة كلمات في اللغة العربية لترجمة الكلمة الهامة جدًا وهي كلمة "Sound"– المترجم) هو ضرورة لا غنى عنها ولا يمكن بأي حال الحياة بدونها في كنيسة الله الحية. وبدون هذا التفسير لكلمة الله لا يمكن أن تُوجد كنيسة العهد الجديد بأي حال من الأحوال. ولكن للأسف ممكن للتفسير أن يُمارس في الكنيسة ويترك السامعين فارغين تمامًا من أي غذاء روحي. "لأن الكلمات التفسيرية المجردة لا تُغذي النفس. بل الله الحي بذاته". وإلى أن يجد السامعون لله في اختبار شخصي حقيقي، فإن الاستماع لمجرد كلمات عن الحق لن يفيدهم بشيء. إن الكتاب المقدس ليس هو الهدف في حد ذاته؛ ولكنه الوسيلة (والطريق) التي تحضر الإنسان إلى معرفة صادقة ومشبعة بالله. في هذه المعرفة يقترب الإنسان في عمق أعماق ومركز قلبه من الله ويفرح بحضوره ويعرف ويتذوق الحلاوة العذبة لشخص الله ذاته.
هذا الكتاب هو محاولة متواضعة لمساعدة أولاد الله الجائعين حتى يجدونه. لا يوجد شئ جديد في هذا الكتاب ماعدا الاكتشافات الشخصية التي وجدها قلبي عن واقع وحقائق الحياة الروحية. وكانت هذه الاكتشافات والاختبارات مصدر فرح عجيب لنفسي.
هناك آخرون قبلي من ساروا أكثر وأبعد في طريق هذه "الأسرار المقدسة". لكن حتى وإن كانت نار حياتي ليست شديدة التوهج إلا أنها أصيلة. وربما هناك البعض من يستطيعون إشعال شمعة حياتهم من لهيبها.
أ .و. توزر
من كتاب "اللهث وراء الله"