(هنري نووين يدعونا أن نتعلم من تاريخنا المسيحي في الشرق)
أولاً: الاختلاء والاعتكاف
كتب "توماس ميرتون" في مقدمته عن "حكماء الصحراء".. "أن مَثَل المجتمع عند آباء البرية كمَثَل حطام السفينة المشرفة على الغرق.. الكل يقفز منها هربًا لحياته".
هؤلاء الآباء آمنوا بإن تسليمهم أنفسهم طواعية وسلبًا للمجتمع لكي تتقاذفهم تيارات ولجج هذا المجتمع بما تحويه من تعاليم وقيم.. فإن الأمر بكل بساطة ووضوح سيؤدي إلى كارثة.
هذه الملاحظة تقودنا مباشرة إلى قلب المشكلة.. أن مجتمعنا ليس مجتمعًا يشع بحب المسيح.. وإنما هو شبكة خطيرة من الهيمنة والسيطرة والتلاعب ومن السهل جدًا أن نجد أنفسنا وقد اشتبكنا مع خيوط تلك الشبكة وصرنا جزءًا منها ومن ثم نخسر أنفسنا؟!..
والسؤال الأساسي هذا هو هل استطاعت قوى الإغراء في عالمنا المُظلم هذا –ونحن خدام الله وكلمته- أن تقودنا وتُصيّرنا أبناء لها فأصبحنا عميانًا عاجزين عن أن نُبصر الحالة المميتة التي وصلنا إليها فضلاً عن أننا فقدنا الحافز على السباحة لكي ننجو بأنفسنا.
دعونا ولو للحظة نُلقي نظرة على روتين حياتنا اليومي. بصفة عامة نحن قوم مشغولون دائمًا.. لدينا اجتماعات كثيرة يجب أن نحضرها ولدينا زيارات كثيرة يجب أن نقوم بها وكثير من الخدمات لكي نؤديها.. أجندة مواعيدنا مليئة بمواعيد مقابلات.. أيامنا وأسابيعنا مليئة بالارتباطات وسنيننا مليئة بالخطط والمشروعات. نادرًا ما يكون لدينا وقت فراغ وغالبًا ما نسلك في جدة الحياة دون أن نتفكر ونتدبر هل ما نقوله أو نفعله يستحق فعلاً أن يُقال أو يُفعل؟!..
إن الأمر ببساطة يبدو كأننا حاملين معنا كمًّا من الأوامر والواجبات التي سُلمت إلينا.. والتي ننظر إليها باعتبارها ترجمة حقيقية للإنجيل المقدس، فالناس يجب أن تُحفز لكي تحضر الكنيسة.. والشباب يجب أن يُحتفى به.. والأموال يجب أن تُجمَّع.. وأول كل شيء يجب أن يكون الجميع سعداء.. فضلاً عن ذلك يجب أن نكون على وفاق مع الكنيسة والسلطات المدنية. يجب أن نكون محبوبين من الأغلبية أو على الأقل محترمين من جانب شعب الإبراشية.. ترقيتنا للرتب العليا يجب أن يتم وفق المقرر.. كما أنه من حقنا أن نحصل على اجازات ورواتب تكفل لنا حياة سعيدة.. ومن هنا فإننا دائمًا مشغولون تمامًا مثل باقي الناس المشغولين ونكافئ بمثل تلك المكافآت التي تمنح للناس المشغولين.
كل ما ذُكر يكشف ببساطة عن شيء مخيف.. وهو أن تلك الأنفس التي تعمل بالخدمة تهفو دائمًا إلى حياة العالم والعلمانية.. ولكن لماذا هذا الأمر؟ لماذا نشارك نحن أولاد النور في مؤامرات الظلمة؟.. الإجابة يسيرة جدًا.. لأن طبيعتنا وكياننا وإحساسنا بالذات يواجه خطرًا. العلمانية هي منهج يكون الشخص فيها معتمدًا على التفاعل والاستجابة لمؤثرات البيئة، فالنفس العلمانية هي التي تشكلت كما يقول "توماس ميرتون".. من غرائز ودوافع قسرية اجتماعية، وكلمة قسرية هي صفة صحيحة للنفس الزائفة.. فهي تُشير إلى الحاجات الدائمة إلى إثبات الذات.. من أنا؟ أنا هو موضع حب الناس.. مديحهم.. إعجابهم.. نفورهم.. كرههم.. احتقارهم، لا يهم هنا إذا كنت أعمل عازف بيانو أو رجل أعمال أو خادم.. إنما الذي يهم هو كيف ينظر الناس إليّ. فإذا كان تقدير الناس يأتي عندما أكون مشغولاً ولدي مهام كثيرة.. فلابد أن أكون دائمًا مشغولاً، إذا كانت الثروة علامة على امتلاك الحرية الحقيقية.. فلابد أن أسعى لامتلاك المال، إن حجم الصداقات والمعارف مؤشر لأهمية ومكانة الشخص فلابد أن يكون لي شبكة من الاصدقاء والاتصالات، تلك الدوافع القهرية التي تختلج بها النفس الزائفة تبدو واضحة في الخوف الكامن دائمًا من الفشل وفي السعي بجلد دائمًا إلى البحث عن الثروة، مزيدًا من الانهماك في العمل ومزيدًا من المعارف والأصدقاء...
تلك الدوافع القسرية (الملحّة) تُشكل الأساس لاثنين من أعداء النفس الروحانية.. وهما الغضب والطمع.. وهذان الاثنان يُشكلان الجانب الأعمق من الحياة العلمانية أو الثمر المر للاعتمادية على العالم. الغضب ما هو إلا استجابة قهرية للشعور بالحرمان.. فعندما يكون الإحساس بالذات معتمدًا على رأي الآخرين فيّ.. فإن الغضب سيكون رد فعل طبيعي عندما أسمع كلمة نقد.. وعندما يكون الإحساس بالذات معتمدًا على كم ما يمكن أن أقتنيه.. فإن شهوة الطمع والجشع والغيرة تشتعل داخل النفس وتُصاب تلك النفس بالإحباط إذا فشلت في تحقيق ما تصبوا إليه.
وفي أيامنا تلك يبدو أن الغضب أصبح رذيلة مرتبطة بالخدمة.. فالرعاة غاضبون من رؤسائهم لأنهم لا يؤدون دورهم في القيادة والإرشاد.. وغاضبون أيضًا من تابعيهم لأنهم لا يسيرون على نفس نهجهم.. غاضبون من هؤلاء الذين لا يأتون إلى الكنيسة.. وغاضبون ممن يأتون إلى الكنيسة لأنهم يأتوا متأخرين وبدون حماس.. هم غاضبون من أسرهم لأن تلك الأسر تُشعرهم بعقدة الذنب.. هم أيضًا غاضبون من أنفسهم لأنهم أصبحوا خلاف ما كانوا يأملون أن يكونوا عليه.. هذا الغضب لا يكشف عن نفسه ولا تسمع له زئيرًا.. وإنما هو غضب يستتر وراء الكلمات الناعمة والمصافحات الدافئة. هذا الغضب الكامن يبدأ في التحول إلى مقت وتدريجيًا يمسك بتلابيب القلب المحب ويشله عن الحركة.
الاختلاء والاعتكاف.. بوتقة التحول
إن البرية والوحدة هي مكان الجهاد الأعظم واللقاء العظيم.. الجهاد ضد دوافع النفس الزائفة ورغباتها ثم اللقاء مع رب المجد يسوع الذي يُقدم نفسه كأصل جديد لإنساننا الجديد.
الأمر قد يبدو بغيضًا أو منفرًا بل يمكن أن يجعلنا نستدعي إلى الذاكرة صورًا تعود إلى العصور الوسطى بخصوص السعي وراء مظاهر الزهد والنسك.. ولكن إذا أمكنننا أنت نتخلص من تلك الأوهام ونطرحها بعيدًا.. سوف يتضح لنا أننا نتعامل هنا مع مكان مقدس حيث تتعانق كلاً من الخدمة والروحانية في هذا المكان.
ولكن كيف لنا أن نفهم بطريقة أوضح كيف يمكن أن يحدث التحول عن طريق الوحدة؟.. إذن دعوني أحاول أن أصف بطريقة أكثر تفصيلاً الجهاد واللقاء الذي يتم في تلك الوحدة.
في الوحدة أتخلص من كل ما يربطني بالعالم.. ليس هناك أصدقاء لكي أتحدث معهم.. لا اتصالات تليفونية مطلوب الرد عليها، لا مقابلات مفروضة عليّ، لا سماع للموسيقى، لا كتب تصرف الانتباه.. فقط أنا وحدي.. عريان.. ضعيف.. خاطئ.. حزين.. منكسر.. ومحروم.. لا شيء.. هذه اللاشيئية هي التي يجب أن أواجهها في وحدتي.. هذه اللاشيئية المخيفة هي التي تجعل كل جزء فيّ يريد الهروب إما لأصدقائي أو لعملي أو لما تعودّت فيه أن يشد انتباهي.. أهرب لأني خائف من اللاشئ أو العدم لأنه يجعلني أحس أني لا أساوي شيئًا أو أني عديم القيمة.
والأمر لا يقتصر على ذلك فقط.. فما أن يستقر بك المقام في وحدتك سرعان ما تتسارع إلى الذهن أفكار مشوشة وصور مزعجة وخيالات مخيفة كلها تتراقص في ذهنك ما تتراقص القرود على شجرة الموز.. كما يبدأ كُلاً من الغضب والطمع في الكشف عن وجههما القبيح.. ومن ثم أعاود مرة أخرى محاولة الفرار من هذه الهوة المظلمة لكي أُعيد لنفسي مجدها الباطل.
إن المهمة ليست يسيرة إذ يجب أن أظل محافظًا على عزلتي ووحدتي وأن أظل قابعًا في قلايتي حتى يكل ويتعب زائريَّ الذين يطرقون على باب قلايتي محاولين إغوائي ويولّوا منصرفين ويتركوني لوحدي. إن اللوحة الزيتية التي خطّها بفرشاته "جرونوالد" تُصوّر أشخاصًا لهم وجوه مخيفة ومرعبة يطرقون على قلاية القديس أنطونيوس.. وتُصوّر بوضوح محاربة الشياطين لهذا القديس في وحدته، أن الجهاد المطلوب جهاد حقيقي لأن الخطر الذي تواجهه خطر حقيقي.
لاشك أن هدف الإنسان من العزلة والوحدة في المقام الأول هو لقاء رب المجد يسوع وأن ينعم بالوجود في حضرته وأن يحس أنه والمسيح فقط معًا، فإذا كان الأمر كذلك فإن المهمة الأولى أثناء الوحدة هي ألا نُعير اهتمامًا لتلك الوجوه المخيفة التي تظهر كي تخيفنا.. بل بالأحرى أن نُركز كل حواسنا عليه هو فقط المسيح إلهنا مخلصنا.. مؤمنين أنه من خلال النعمة فقط يمكن أن نواجه الخطية.. وأنه فقط في مكان الشفاء نجرؤ أن نكشف عن جروحنا وفقط من خلال فكر لا يستغرقه شيء آخر سوى المسيح –له المجد- يمكن أن نطرح عنا مخاوفنا ونواجه حقيقة طبيعتنا.
وعندما نصل إلى إدراك حقيقة أننا لسنا نحن الذين نحيا وإنما المسيح هو الذي يحيا فينا.. نبدأ رويدًا رويدًا في التخلص من قيودنا ونمارس حرية مجد أولاد الله.. وهنا يمكن لنا أن ننظر إلى الوراء ونبتسم مُدركين أننا لسنا بعد عبيدًا للغضب أو الطمع.. والبعض قد يسأل ماذا يعنيه كل ما سبق خاصة فيما يتعلق بحياته اليومية؟.. نقول حتى إذا لم نكن قد دُعينا لحياة الرهبنة او لأننا ليس لدينا التكوين الجسدي الذي يُعيننا على الحياة القاسية التي تتطلبها حياة الوحدة في البرية.. فأننا نظل مطالبين بأن نخلق لأنفسنا برية نتوحد ونتعزل فيها لأن البيئة العلمانية التي نعيش فيها لا تقدم لنا سوى القليل من وسائط الروحانيات.. ومن ثم يجب أن نسعى لكي نخلق ونطوّر تلك الوسائط بأنفسنا.. فيجب علينا أن تكون لنا بريتنا الخاصة بنا والتي نستطيع أن نخلد إليها يوميًا ونطرح فيها عنا القيود التي تُكبلنا وننعم فيها بالوجود الشافي لربنا يسوع المسيح.
أول ما نحتاجه هو أن يكون لكل واحد منا مكان خاص ووقت محدد ينعم فيه بالوجود في حضرة الله والله فقط. لا شك أن الشكل الملموس لهذا النمط من الوحدة سيختلف من شخص لآخر حسب شخصية كل فرد.
منذ عدة سنوات مضت قمت بزيارة للأم تريزا في "كلكلتا" في الهند وسألتها كيف يمكنني أن أعيش مهنتي كقس؟.. فقالت "خصِّص ساعة كل يوم لتُسبح إلهك.. وإياك أن تُقدم على عمل شيء تعلم أنه خطأ.. وحينئذ سوف تكون على ما يرام".
ربما تكون الأم تريزا قد قالت شيئًا مختلفًا لشخص آخر متزوج وله أولاد أو لشخص يعيش في بلد آخر ومجتمع أكبر.. ولكنها أثبتت أن الخدمة الحقيقية لا يمكن أن تأتي بثمر ما لم تكن نتاج لقاء مباشر وصميم مع المسيح له المجد.
الوحدة إذن هي المكان الذي يتم فيه التطهّر والتحوّل.. مكان الجهاد واللقاء. الوحدة ليست وسيلة إلى غاية.. ولكنها غاية في حد ذاتها.. إنها المكان الذي يُشكلنا فيه المسيح له المجد على صورته ويُخلصنا فيه.
إن الحكمة من وراء حياة الوحدة هي أن الإنسان المتوحد عندما يواجه حقيقة العدم أو اللا قيمة التي يعيش فيها.. فإن ذلك لأن يُسلم حياته تمامًا وبلا قيد أو شرط للمسيح له المجد لأن الإنسان بمفرده لن يقوى على مواجهة قوى الشر دون أن يُصاب بأذى ولكن المسيح فقط هو الذي يستطيع أن يواجه تلك القوى ويهزمها.. وعلى ذلك فإن الإنسان لن يقوى بمفرده على حياة الوحدة وتجاربها إلا من خلال المسيح وبالمسيح فقط.
لقد بارك الله حياة الأنبا أنطونيوس بعدما خرج من عزلته التامة فأصبحت خدمته أكثر ثراءً وتنوعًا.. فقدم الناس إليه من شتى مناحي الحياة يسألونه النصيحة. إن حياة الوحدة التي عاشها الأنبا أنطونيوس والتي تطلبت منه في البداية أن ينعزل بجسده عن الناس أصبحت الآن صفة لقلبه.. استعداد داخليًا ملازمًا له بحيث أن هذه الوحدة أصبحت لا يُعكر صفوها هؤلاء الذين قدموا إليه يسألونه المشورة ويطلبون منه الإرشاد.
إن البرية التي كان يعيش فيها الأنبا أنطونيوس –متوحدًا- أصبحت الآن وبطريقة ما بقعة لا محدودة مكانيًّا وأصبح في مقدور أي شخص أن يُدعى إليها.
إن توماس ميرتون عندما وصف آباء البرية بأنهم هم الذين قفزوا من حطام المركب هربًا لحياتهم من غرق تلك السفينة إلا وهي المجتمع الذي يعيشون فيه.. فإنه يستطرد ويقول أن هؤلاء الآباء فقزوا من المركب التي كانت تتلاطمها الأمواج وعلى وشك الغرق لأنهم كانوا عاجزين أن يفعلوا شيئًا في سبيل إنقاذ الآخرين.. ولكن عندما تركوا المركب هربًا منها ودخلوا إلى اليابسة ووضعوا أرجلهم على أرض صلبة فإن الأمور اختلفت.. إذ أنهم حينئذ امتلكوا ليس فقط القوة وإنما أيضًا أصبح لديهم التزامًا أن يجذبوا العالم كله من تلك الأمواج المتلاطمة إلى بر الأمان.
نخلص من ذلك إلى أن الوحدة لا تبعدنا عن الناس وإنما العكس.. فهي تُقربنا منهم من خلال الشفقة والرحمة أثناء قيامنا بالخدمة.
ثانيًا: الصمت
الصمت يُكمِّل ويُدعِّم حياة الاختلاء والاعتكاف.. هذا هو الاعتقاد السائد لدى الآباء الرهبان.
القصة التالية دليل واضح على ذلك.. إذ يُحكى أن الأنبا مكاريوس بعد أن أنهى صلاته ومنح البركة للشعب صرخ فيهم قائلاً "أيها الأخوة اهربوا".. هنا سأله واحد كيف نهرب أبعد من هنا فنحن في الصحراء.. فأجابه الأنبا مكاريوس بأن وضع أصبعه على فمه وقال له "اهرب من هذا".. ودخل على الفور إلى قلايته وأغلق الباب ورائه.
الصمت هو الطريق الذي يجعل من الاختلاء والاعتكاف حقيقة. الآباء الرهبان يمتدحون الصمت باعتباره الطريق الآمن إلى الله. قال أرسانيوس ":كثيرًا ما تكلمت فندمت أما عن السكوت فلم أندم قط".
الصمت نظام لا غنى عنه في الحياة الروحية حتى أن يعقوب الرسول وصف اللسان بأنه عالم شرير في حد ذاته وأن الصمت مثله مثل وضع اللجم في فم الحصان.
لقد حاول المسيحيون أن يمارسوا الصمت كوسيلة لضبط النفس.. ولا شك أن الصمت هو نظام واجب في مواقف كثيرة.. في التدريس وفي التعلم، في الوعظ والعبادة، في التفقد والمشورة.
الصمت هو نظام علمي ومفيد في كل أمور الخدمة.. إذ يمكن أن نعتبر الصمت هو القلاية التي نصحبها معنا من مكان وحدتنا إلى أعماق خدمتنا.. فالصمت هو وحدة تُمارس بالفعل.
معنى الصمت..
الصمت هو موطن الكلمة.. والصمت يمنح الكلمة ثمرًا وقوة.. ويمكن أيضًا أن نقول أن الكلمة يُقصد بها البوح بأسرار الصمت التي نَبَعت منه.
أحد الفلاسفة عبَّر عن ذلك بقوله "إن الغرض من الصنارة هو صيد السمكة وعندما نمسك بالسمكة ننسى الصنارة.. والغرض من الشرك الذي تنصبه للأرنب البري هو الإمساك به ومتى تم ذلك ننسى الشرك.. والغرض من الكلمة هو نقل الفكرة وفور استيعاب الفكرة تنسى الكلمة.. أين إذن يمكنني أن أعثر على شخص يمكن أن ينسى الكلمات.. أنه الشخص الذي أرغب في مقابلته".
لعل تلك العبارة الأخيرة "أتمنى أن أتحدث إلى شخص نسى الكلام" قد قيلت من أحد آباء البرية.. فالكلمة عندهم هي أداة يستخدمها العالم المعاصر.. بينما الصمت هو سر العالم الآخر.. فإذا أردت للكلمة أن تأتي بثمر لابد وأن تأتي من العالم الآخر إلى عالمنا هذا.. لذلك يعتبر آباء البرية أن ممارستهم لفضيلة الصمت في البرية هي أولى خطوات الوصول إلى العالم الآخر لأن من هذا العالم سوف يكون لكلامهم ثمر لأنهم في العالم الآخر لأمن من هذا العالم سوف يكون لكلامهم ثمر لأنهم في العالم الآخر سوف يمتلئون من قوة صمت الله.
من خلال أقوال آباء البرية يمكن أن نميز ثلاثة أوجه للصمت كلهم يُعمّقون ويُعضددون فكرة أن الصمت هو سر العالم الآخر.. أما الوجه الأول فهو أن "الصمت يجعل منا غرباء ونزلاء في العالم".. والوجه الثاني أن "الصمت يحفظ النار التي تضطرم داخلنا".. والوجه الثالث أن "الصمت يعملنا كيف نتكلم".
1- الصمت يجعلنا نزلاء في العالم..
الأب تيطس قال "إذا أردت أن تتغرب عن العالم فيجب أن تتحكم في اللسان.. وتعبير To be on pilgrimage معناه أن تكون صامتًا. وهو ما قصده آباء البرية لمن ينظر إلى الحياة العتيدة.
والجدل الدائر دائمًا عن الصمت يخلص في أن الكلمة دائمًا يقود إلى الخطية.. ولذلك فإن عدم الكلام هي أوضح الطريق لعدم الوقوع في الخطية.. هذه العلاقة عبر عتها بوضوح يعقوب الرسول في رسالته "لأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي الْكَلاَمِ فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ، قَادِرٌ أَنْ يُلْجِمَ كُلَّ الْجَسَدِ أَيْضًا". (يع 3: 2).. يعقوب الرسول لا يترك أدنى شك في أن الكلام دون خطية أمر صعب جدًا.. ومن ثم إذا أردنا أن نبقى بعيدين عن الخطية ونحن في رحلتنا إلى الأبدية فإن الصمت هو الطريق الآمن.
الفكرة الرئيسية التي تُغلّف هذه التعاليم النسكية.. هي أن الكلام يجعلنا أكثر التصاقًا بهموم العالم.. وطالما اندمجنا في العالم فسوف يُصبح الأمر صعبًا في أن نجد لأنفسنا فكاكًا من حبائله وأشراكه دون أن نتلوث بدنس العالم.
إن آباء البرية وكل من اتبعوا خطاهم.. علموا يقينًا أن كل حوار وجدوا فيه اهتمامًا وتشويقًا لهذا العالم سوف يؤدي بهم إلى الشعور بأن غربتهم في هذا العالم ضعفت.. وزاد شعورهم بالانتماء والمواطنة إلى هذا العالم الأرضي.
قد يبدو هذا الكلام غريبًا عن عالمنا هذا ولكن دعونا على الأقل أن نعترف بأنه في كل مرة اشتركنا فيها في حوار أو مناقشة أو مناسبة اجتماعية أو لقاء عمل.. شعرنا بعدها بأن هناك غُصّة في حلقنا.
وأن المناقشات الطويلة نادرًا ما أدت إلى نتائج مثمرة.. ألم نشعر كثيرًا بالندم على كثرة الكلام الذي نطقنا به وتمنينا إن لم نتكلم على الإطلاق. كثيرًا ما نتكلم عن الأحداث التي يشهدها العالم ولكن هل فعلنا شيئًا لنُغير من تلك الأحداث للأحسن؟!.. نتكلم كثيرًا عن الناس وعن طرقهم ولكن هل كلامنا حقق لهم أدنى فائدة؟!.. نتكلم كثيرًا عن الله والعقيدة ولكن هل كل هذا الكلام أثمر شيئًا سواء بالنسبة لنا أو الغير؟!.. كثيرًا ما شعرنا بعد كثرة الكلام أن هناك شعورًا داخليًا بالإحباط أو إحساسًا بالضيق أو كأننا نخوض في مستنقع.
2- الصمت يحافظ على النار الداخلية مضطرمة..
معنى آخر أكثر إيجابية للصمت.. هو المحافظة على النار الداخلية مضطرمة.. وهي حرارة المشاعر الدينية.. تلك الحرارة الداخلية هي التي تُعطي الحياة للروح القدس بداخلنا.. وعليه فإن الصمت هو النظام الذي بواسطته نُبقي على النار التي بداخلنا متأججة.
أحد الفلاسفة يُقدم لنا صورة ملموسة "عندما يكون باب حمام البخار مفتوحًا بصفة مستمرة فإن الحرارة داخل الحمام سريعًا ما تتسرب إلى الخارج من خلال هذا الباب.. تمامًا مثل النفس البشرية عندما تتوق إلى الكلام لكي تُذيع وتنشر تذكرها الدائم لله ومع أن ما تقوله هذه النفس قد يكون أمرًا طيبًا إلا أنه بعد ذلك يبدأ الفكر –لأنه لا يملك أفكارًا مناسبة- في إخراج فيض من الأفكار المشوشة الغير متماسكة لكل من يقابله طالما أن هذه النفس لم تعد بعد تلتهب بالروح القدس الذي يحمي الفكر من الأوهام والخيالات.
الأفكار ذات القيمة غالبًا ما تكون موجزة وتنأى عن الإسهاب والإطناب في الكلام وبعيدة كل البعد عن التشويش والأوهام.. إن الصمت في التوقيت المناسب هو أم لكل الأفكار الحكيمة. لاشك أن هذه الكلمات تبدو كأنها تسير في الاتجاه المعاكس لنمط الحياة في عالمنا اليوم حيث يسود هذه الأيام فكرة "المشاركة".. والتي أصبح يُنظر إليها على أنها أم الفضائل.. لقد أصبحنا ضحية اعتقاد يقول أن المشاعر والأحاسيس التي تموج بها النفس من الداخل يجب أن نتشاركها مع الآخرين.. ومن ثم ذاعت وانتشرت بعض التعبيرات مثل "أشكرك لمشاركتك هذا معي" أو "لقد كان كريمًا منك أن تشاركني هذا" وكل هذه العبارات تُشير إلى أن غرفة حمام البخار أصبح بابها مفتوحًا دائمًا أو أغلب الوقت على أقل تقدير. وبعض الناس الذين يفضلون عدم البوح بأحاسيسهم ومشاعرهم كثيرًا ما يُنظر إليهم بشيء من عدم الراحة.. بل إنهم يُعتبرون في كثير من الأحيان مكبوتون وغير اجتماعيين وغير أسوياء. ولكن دعونا نتساءل هل طريقتنا الحالية والتي تتسم بالإسراف في تلك المشاركات تعد من قبيل المكاره أم الفضائل؟
الواقع أننا غالبًا ما نعود إلى منازلنا بعد أن نكون قد حضرنا جلسة من جلسات المشاركة هذه ونحن نشعر أن هناك شيئًا ثمينًا قد اُنتزع منّا أو أن هذه الأرض المقدسة قد وطأتها الأقدام.
يقول أحدهم معلقًا على أقول آباء البرية "إن الفم ليس بابً يمكن أن تدخل منه الشرور وإنما الآذان والعيون هي تلك الأبواب التي تستطيع الشرور أن تدخل منها.. إن الفم هم باب مخصص للخروج فقط. ولكن ما هو هذا الشيء الذي يخشى آباء البرية أن يتركوه يخرج؟.. ما هو هذا الشيء الذي يُمكن لشخص أن يسرقه من قلوب هؤلاء الآباء مثل لص يسرق الخراف من الحظيرة إذا تُرك بابها مفتوحًا؟.. إن ما يخشاه آباء البرية هو فقد قوة الشعور الديني أو الروحانية.
إن الشيء الذي يجب أن نحافظ عليه.. هو أن يظل روح الله القدوس داخلنا مضطرمًا خاصة نحن الذين نريد أن نكون شهودًا على وجود روح الله في العالم. فإننا مطالبين أن نحافظ ونرعى تلك النار أن تظل ملتهبة داخلنا بكل جهد يمكن أن نبذله.
ليس غريبًا أن كثير من الخدام انطفئوا وفقدوا بريقهم.. حيث إنهم من الأشخاص الذين اعتادوا كثرة الكلام ومشاركة الخبرات.. ولكن روح الله القدوس فيهم قد انطفأ ولم يعد يخرج من أفواههم سوى كلمات تبعث على الضجر والملل.
كثيرًا ما تبدو الكلمات التي تخرج من أفواهنا أكثر تعبيرًا عن الشك الذي تختلج به نفوسنا من أن تُعبّر عن إيماننا كما لو كنا غير واثقين من أن روح الله القدوس يستطيع أن يلمس قلوب من يستمعون لنا.
إن أولى وأعظم مهامنا أن نرعى بأمانة تلك النار المضطرمة داخلنا بحيث أنه في وقت الحاجة إليها تستطيع أن تُقدم تلك النار لنا الدفء والضوء اللازمين لهداية المسافرين الذين ضلوا الطريق.
لم يُعبِّر أحد عما سبق بأكثر قناعة عما عبَّر به الرسام فنسنت فان جوخ.. "قد تكون بالفعل هناك نار عظيمة في أنفسنا ومع ذلك لا يأتي أحد لكي يُدفّئ نفسه من هذه النار.. حتى أن الذين يعبرون لا يروا فقط سوى نفخة الدخان التي تخرج من المدخنة ثم يواصلون سيرهم".
فلننظر إذًا ما الذي يمكن فعله؟.. هل يجب أن شخصًا ما يرعى ويحافظ على تلك النار الداخلية؟!.. ويُلقي فيها ملحًا أو وقودًا.. وينتظر بصبر للوقت عندما يأتي شخص ما ويجلس بجوار تلك النار أو ربما ليمكث بجوارها إلى الأبد!.. إذًا لندع كل من يؤمن بالله أن ينتظر تلك الساعة التي سوف تأتي سواء عاجلاً أم آجلاً.
هنا نجد أن فنسنت فان جوخ يتحدث بفكر وقلب رهبان البرية.. فهو يُدرك بأن هناك إغراء في أن نفتح كل الأبواب حتى يستطيع كل عابر أن يرى النار ذاتها وليس الدخان الخارج من المدخنة.. ولكنه يُدرك أيضًا أنه لو حدث ذلك فإن النار سوف تخبو ولن يستطيع أحد أن يستدفئ بنارها بعد. إن حياته هي مثال قوي على الإخلاص لتلك النار الداخلية، لم يأتِ أحد طول حياته كلها لكي يجلس أمام تلك النار.. ولكن اليوم الآلاف وجدوا راحة وتعزية في اللوحات الزيتية والرسومات والخطابات التي خطتها يداه.
3- الصمت يُعملنا الحديث..
الطريق الثالث الذي يكشف به الصمت عن نفسه كسر من أسرار العالم الآخر.. هو عن طريق تعليمنا كيف نتكلم. إن الكلمة التي تحمل قوة هي الكلمة التي تخرج من الصمت.. والكملة التي تُنتج ثمرًا هي الكلمة التي تبزغ من الصمت وتعود مرة أخرى إليه.
الكلمة التي ليس لها جذور متأصلة في الصمت هي كلمة ضعيفة ليست بها قوة.. كأنها نحاس يرن وصنج يطن.
وهنا نستطيع أن نلحظ السر العظيم الذي نشترك فيه من خلال الصمت والكلمة.. إلا وهو سر كلام الله، فمن خلال صمت الله الأبدي نطق الله الكلمة.. ومن خلال تلك الكلمة خلق الله العالم..
إن كلمة الله لم تكسر صمت الله بل بالحري كشفت عن عمق غنى صمته.
وعندما دخل الآباء الرهبان إلى عمق البرية فإنهم أرادوا أن يشتركوا في الصمت الإلهي.. أرادوا أن يشتركوا في القوة الخلاقة للكلمة الإلهية.
إن الكلمة تكون قادرة على خلق التواصل فقط عندما تكون تجسيدًا للصمت الذي خرجت منه تلك الكلمة.
الصمت والخدمة
والآن يظل السؤال قائمًا.. ألا وهو كيف يمكنننا أن نمارس خدمة الصمت والتي تصبح فيها كلمتنا قوية بحيث تُمثل كمال صمت الله؟.. هذا سؤال مهم لأن تفكيرنا قد تلوث وأصبحنا أسرى لعالم يضج بالكلام وضحايا لآراء خادعة تُصوِّر لنا أن الكلام أكثر أهمية من الصمت.. لذلك فإن الأمر يحتاج إلى مجهود شاق لكي تجعل الخدمة تأخذ بأيدي الناس وتقودهم إلى التمثل بصمت الله. وهذه هي المهمة التي أوكلها إلينا المسيح له المجد. لو تأملنا حياة المسيح وخدمته على الأرض لوجدناه دائمًا يُخفي ذاته ويشير إلى الآب.. فهو كان يقول "أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ." (يو 14: 10).. المسيح كلمة الله الذي صار جسدًا عندما تكلم.. لم يكن يريد أن يجذب الانتباه إليه وإنما فقط يُظهر طريق الآب.
أهم المشاكل التي تواجهنا أننا في هذا العالم الصاخب الذي تسوده الثرثرة أصبح الصمت شيء مخيف.. فالصمت أصبح يُسبب للكثير من الناس نوعًا من العصبية والقلق، البعض ينظر إلى الصمت كأنه هوّة فارغة تلتمس أن تبتلعهم.. ولعلنا كثيرًا ما نلاحظ أن الخادم أثناء خدمة الصلاة وبمجرد أن ينطلق بعبارة "دعونا نصمت لبضع دقائق" يبدأ الناس في التململ والانشغال بفكرة واحدة وهي "متى سينتهي ذلك؟".. فالصمت الذي يُفرض على الشخص غالبًا ما يخلق نوعًا من العداء والكراهية.
لذلك نلاحظ أنه قد أصبح أمرًا مألوفًا أن أشكال كثيرة من الخدمة بدأت تتجنب طلب الصمت تحديدًا لكي تنأى عن التوتر الذي يخلقه الصمت.
ولكن أليس غاية كل خدمة هي أن تكشف أن الله ليس مخوفًا بل محبًا.. وإن هذا لن يتحقق إلا إذا استطعنا بكل رفق وحذر أن نحوِّل هذا الصمت الخاوي إلى صمت مفعم بالحياة.. وهذا الصمت المشوب بالقلق إلى صمت يشع بالطمأنينة والسلام.. وبهذه الطريقة يمكن أن يتم اللقاء العظيم مع الآب المحب. لاشك أن كلماتنا ستصبح ذات قوة عظيمة إذا استطعنا أن نُقنع الناس أن يجعلوا من الصمت صديقًا لهم..
الخلاصة
كيف نستطيع أن نُمارس خدمتنا في عالم تلوح فيه نُذر الخراب والدمار؟ هذا هو السؤال الذي بدأت به وأنا أحاول استكشاف كم الروحانيات المستمدة من الاختلاء في الصحاري.. والبراري ثم الحديث عن الخدمة بشكلها المعاصر.
إن الاختلاء والاعتكاف والصمت والصلاة بدون انقطاع يُشكلون المفاهيم الأساسية لروحانية الصحراء.. وأنا أعتبرهم أشياء عظيمة القيمة لنا كخدام خاصة مع اقترابنا من نهاية الألفية الثانية من المسيحية.
ولكن هل يفصلنا هذا السمو الروحاني المستمد من الوحدة في الصحراء ويُغلق عيوننا من أن ترى حقيقة القسوة والفظائع التي تُرتكب في وقتنا هذا؟.. نقول لا بل العكس تمامًا فإن الوحدة والصمت والصلاة يهيئون لنا فرصة إنقاذ أنفسنا وأنفس الآخرين من حطام سفينة هذا المجتمع الذي يُدمِّر نفسه ذاتيًّا.
الأب هنري نووين
من كتاب: "طريق القلب"