لا يوجد قرار إنساني لا ينبع من خليط من الدوافع الجيدة والسيئة معاً، فمن المستحيل أن تفصلهما تمامًا. ويستطيع الله أن يُنتج من الهروب أو الخطأ أو العصيان أو الخطية شيئًا صالحًا. فحتى وإن عملت في وظيفة ما بدوافع خاطئة، يمكن أن تكون مثمرة. فالإيمان يتوقف على رؤية يد الله فيها (في الوظيفة) واتباعه بروح الخدمة لله.
وكلما أسرعنا في اكتشاف أخطائنا السرية، كلما ازدادت حاجتنا -إذا أردنا تجنب إزعاجها لنا- لفهم اتساع وضخامة غفران الله. إن الله يطلب منا أن نعرفها وبتواضع نتركها كلية لكي نفهم فقرنا ومدى رحمته لنا، وليس لكي نواصل رجائنا المثالي في أن نتمكن من السير بدون خطية، وكما يقول القديس فرانسيس دي سال "يجب أن نتواضع، ونطلب من الله أن يصفح عنا، ونطلب منه استنارة أكثر، وننسى تمامًا ما قد حدث ونعود إلى حياتنا التي اعتدنا عليها. لأن البحث الدقيق والتوافق لمعرفة ما إذا كنا تصرفنا بطريقة صحيحة، بلا شك ينبع من محبة الذات".
إن عملنا في هذا العالم ليس تجنب الأخطاء بل أن نكون مثمرين. وكلما ازدادت قدرتنا على إدراك أخطائنا، فهذا يمكننا أن نفهم قيمة رحمة الله بطريقة أفضل، وأن نكرس أنفسنا له حتى يزداد ثمرنا. ولكن إذا انزعجنا بسبب المجهود الذي نبذله لإدراك خطايانا ونرفض أن نتخذ موقفًا خوفًا من ارتكاب بعض الخطايا، فهذا يتسبب في جعل جهودنا هذه عقيمة وبلا ثمر. إن عملنا هو أن نستخرج الصالح من الشرير. والخطأ الفادح يمكن أن يكون الوسيلة لتحرير الشخص الذي ارتكبه. وقد يكون أيضًا فرصة لتواضعٍ نافعٍ لنفس الشخص. فالزوج (مثلاً) الذي يستطيع أن يسيطر على نفسه ويتحكم في أعصابه ينظر إلى زوجته بازدراء لأنها دائمًا أعصابها منفلتة، ويعتقد أنها سعيدة الحظ لأن زوجها شخص متوازن أكثر منها. وفجأة يجد نفسه في موقف أخلاقي متساوٍ معها، لأنه يسمح لنفسه بأن يقوم بعمل يؤنبه عليه ضميره بقوة. وهنا تشعر زوجته بأنها ليست بمفردها، وتصبح أقل عصبية.
بعض أولئك الأشخاص الذين أتذكرهم لأنهم حققوا أعلى مستوى روحي هم بين أولئك الذين في ماضيهم قد لطخوا حياتهم ووصموها بأسوأ السلوكيات. وأنا أستخدم هذه الكلمات عن قصد، لكي أوضح أن هذه هي الحياة الحقيقية وليست مجرد نظريات أكاديمية. وفي بعض الأحيان كنت أحسدهم على عظمة اختبارهم للتوبة والغفران والتغيير القوي الذي حدث في حياتهم. فقد ارتكب موسى جريمة القتل، وكان بطرس جبانًا، وبولس نفذ حكم الإعدام في كثير من المسيحيين.
ولكنني لا أريد لأحد أن تكون له هذه الخبرات لأن النتيجة يمكن أن تكون مختلفة تمامًا.
ومع ذلك، فإن أكثر الأشياء التي تثير إعجابنا في هذا العالم ليس الصالح والخير الذي نحققه بل الخير الذي يخرج من الشر الذي نرتكبه. وقد اندهشت كثيرًا عندما عرفت عدد الناس الذين رجعوا إلى الرب بسبب تأثير شخص هم أساءوا إليه.
كثير من الناس قد يزعجهم ذلك. إنهم ينزعجون عندما يعلمون أن الزنى قد يجلب تحريرًا حقيقيًا من الخطية لدى بعض الناس، لأن أمانتهم الزوجية بالنسبة لهم أصبحت اتفاقية بين الزوجين وخوف "مما سيقوله الناس عنهم لو سمعوا بذلك" أكثر من محبتهم لوصايا الله. إن العالم على استعداد لأن يُرجم هؤلاء الناس ويشكون في إيمانهم الحقيقي. ولكن هذا ليس أكثر قيمة من الاستقامة الظاهرية لرجل محترم "يرتكب الزنا في قلبه" (متى 5: 28). وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الإيمان الجديد لمثل هؤلاء الناس –بشرط أن يرعاه ويقويه الروح القدس- سوف يُعطي ثمرًا سريعًا. أنا أعلم أنني ألمس موضوعًا حساسًا للغاية.
ومن المناسب أن أكرر وأقول أنه لا يوجد شئ خير أو شر في حد ذاته. ومثل هذه السطور قد تؤذي القارئ الذي قد يتخذها ذريعة لارتكاب الشر أو يعتبرها نسبية أخلاقية، وهذا (بالتأكيد) ما لا أقصده، ويمكن أن يعتبرها فرصة وذريعة لارتكاب الخطية، بشرط أن تكون دوافعه خيرّة! ولذا سوف أعبر عن شكوكي في مدى نقاوة مقاصده.
أرجو أن هذه الصفحات تقود إلى تحرير المثقلين بعبء الرغبة في عمل الخير ولكن الخوف من ارتكاب الخطية يُعذبهم. ولا يمكنني إحصاء عدد الناس الذين يقودهم الدين، ومحبة الله ورغبتهم لخدمته، أو تطلعهم للكمال، إلى حياة عقيمة وحزينة وقلقة. وقد قتل الخوف من ارتكاب الخطية تلقائيتهم وعفويتهم. والتحليل الغامض لضمائرهم قد حل محل بساطة قلب الأطفال الذي يطلبه المسيح. وحل الشعور الشديد بالواجب محل الفرح والهدوء. وقد وصلوا إلى مرحلة عدم فعل أي شئ يعطيهم متعة، كما لو أن الله الذي يُحبنا لا يطلب شيئًا إلا أمورًا غير مناسبة لنا. أنهم يبذلون مجهودات خرافية ولكنهم لا يحققون أية انتصارات. وهم يقارنون أنفسهم دائمًا بأولئك الذي يعتبرونهم أفضل منهم.
إن ما نحتاجه إذًا هو إعادة اكتشاف قسوة الحياة والتقوى الحقيقية التي تنبع تلقائيًا من تغيير القلب بدلاً من كبح العواطف الشكلي. فكل الذين يئنون تحت وطأة الخوف الشديد من "فعل الشيء الخاطئ" أو الذين يرددون صلوات كثيرة لأن لديهم شكوك في سماعها واستجابتها، ليسوا إعلانًا جيدًا للطريق إلى الله.
قال لي مرة أحد أصدقائي إنه اندهش كثيرًا عندما وجد –عند انتقاله من منزل إلى منزل آخر- إن لديه العديد من الكتب في مكتبته والتي تعطي النصيحة النفسية والأخلاقية، وهذا يدل على قلقه المستمر. وقرر أن لا يفتح هذه الكتب، وتوصل إلى الحقيقة أننا في هذا العالم –بالرغم من كل تعاليم العلم واللاهوت- لن نستطيع تجنب العيوب والنقص في سلوكياتنا. ولهذا سيحاول أن يسترد بساطة القلب والعقل الحقيقية بالثقة في نعمة الله.
إن رسالة الإنجيل للخلاص قد أُعطيت لنا لكي نتحرر من عبء الناموس، ولكن كثيرًا ما يكون ذلك مصدراً للقلق. أعرف امرأة لا يتوقف قلقها وتساؤلها عن ما إذا كان الله هو الذي يرشدها أو يقودها أم لا، وما إذا كانت تحقق قصده من حياتها أم لا، ومن شدة قلقها لم تعد ترى شيئًا على الإطلاق. إن الله يرشدنا ويقودنا عندما نثق في إرشاده، وغالبًا ما يكون ذلك دون إدراك منا وليس في استمرار قلقنا على هذا الأمر.
وبالمثل، فإن عدم الرضا عن ذواتنا، الذي هو القوة الدافعة للتقدم الأخلاقي يمكن من الناحية الأخرى أن يصبح مصدرًا للتراجع وعدم التشجيع إذا وصلنا إلى حالة عدم الغفران لنفوسنا إن ارتكبنا خطية ما بالرغم من المجهودات الكثيرة الأخرى التي نبذلها. وفي الواقع، فإن الانتصار والرؤية الواضحة يسيران جبنًا إلى جنب مع عدم الوضوح الأخلاقي، فلا يوجد ضوء شمس بدون ظل. وكلما ازدادت اختبارات النعمة لدينا كلما ازداد اكتشافنا لخداع قلوبنا، ويزداد الأمر صعوبة لتحملنا لعبودية أجسادنا. وقد كتب أحد الأطباء السويسريين يقول: "لقد عانى المسيحيون العظماء طوال حياتهم، واجتازوا مراحل من المتاعب النفسية والعصبية، والضغوط... بدون أن تتحطم حياتهم الروحية الداخلية".
إن المرض هو شئ طبيعي في الحياة ويجب أن نحاربه بدون توقف كما أن المسيح حاربه بلا هوادة. ولكن لا يمكننا أن ننسى أنه جزء من الطبيعة. والصحة المتكاملة هي فكرة في الذهن وتشهد على إدراكنا الطبيعي لعالم متكامل. وهكذا اشتياقنا وحنيننا إلى الله. ولكننا ونحن على هذه الأرض يجب أن نقبل أننا إن آجلاً أو عاجلاً يجب أن ندفع مديونيتنا للمرض.
وبالمثل، فإن الخطية شئ طبيعي. ولا أقول أنها أمر عادي بل يجب أن نحاربها بلا هوادة ونسعى نحو الكمال كما يدعونا الكتاب لذلك. ولكن مهما فعلنا، فلابد من وجود خطية دائمًا في قلوبنا ونحن في هذا العالم. وكتب Adrienne Seyer "إن التغيير لا يحدث مرة واحدة وإلى الأبد، وهو ليس حقيقة منعزلة ويمكن قياسها. إنه ينمو وبحاجة إلى وقت ليتطور، وأحيانًا يستغرق وقتًا طويلاً وفي حالات نادرة جدًا يمكن أن يتوقع الإنسان تحولات مفاجئة يمكن رؤيتها بالعين المجردة، فالفاكهة التي تنضج بسرعة قبل الأوان تسقط بسرعة".
ولهذا نحن بحاجة إلى خلاص لا يعتمد على مجهوداتنا. والإجابة هي النعمة. وأوجه كلامي إلى أولئك الذين تذلهم وتسود عليهم أفكار قاسية وتسيطر على أذهانهم، إننا عادة نكتشف أن مثل هذه الأفكار ليست جزء من شخصيتهم الحقيقية لأنها تحاربهم، وقد أشرت إلى هذا سابقًا. وهذا صحيح ولكنه عامة ما لا يهدئهم أو يشبع رغبتهم. وأود أن أقول لهم: "بالطبع لديك أفكار مرعبة لأن الشر مرتبط بقلب الإنسان وهو قوي للغاية في ذاته حتى أنه يمكن أن يهزمه. وهذا ما يعلمنا إياه الكتاب المقدس. ولكل إنسان أفكار يخجل منها. والإنسان الذي لا يمرض ولا يخطئ ليس إنسانًا عاديًا. ويجب أن يكون لدينا سبباً لليأس إن لم نكن بحاجة للكفاح لنيل القداسة. وبالإضافة إلى ذلك: فقد يصل بنا الادعاء إلى أننا نستطيع أن نسير بدون النعمة".
ويجب علينا بكل أمانة أن تكون لدينا الرغبة لأن نتبع إرادة الله بدلاً من إرادتنا. ولكن إن أردنا أن نتأكد دائماً من إننا في كل المواقف لا نتبع إرادتنا بدلاً من إرادته، فلسوف نجد أنفسنا نتخبط في مستنقع من الكآبة والجزع بعيد عن الكمال المسيحي.
ولهذا فإنني أرى الكثيرين من الذين لهم غيرة روحية شديدة حتى أنها تمثل عقبة أمام أي اختبار مثمر وهادئ. وهم دائمًا يذكرونني بأناس لم يلحقوا بالقطار، وبدلاً من انتظار القطار التالي ليأخذهم للمكان الذي سيتوجهون إليه فإذ بهم يندفعون بشدة وراءه مع أنهم يعلمون بعدم إمكانية اللحاق به.
إن المرضى الذين أبذل معهم جهدًا كبيرًا، يتبين لي عدم قدرتي على مساعدتهم. بينما مرضى آخرون يشكرونني بحرارة لما فعلته معهم، وأتبين أن كل ما فعلته هو مجرد الإصغاء إليهم. ومع ذلك، فإنني أعتقد أنه لولا المجهود الذي بذلته مع المريض الأول ما توصلت إلى الخبرة التي ساعدتني في علاج الثاني.
وبنفس الطريقة فإن لحظات سعادتنا تحدث بلا توقع منا، وإذا حاولنا تكرراها فسنفشل. كانت زوجة شابة تُعاني من بعض الصعوبات التي لم تمكنها من التكيف في حياتها الزوجية، وفي أحد الأيام وأثناء بعض الظروف الغامضة زالت تلك الصعوبات وعادت العلاقات الطبيعية مع زوجها. والآن تشعر بنوع من اليأس لأن ذلك لم يستمر طويلاً. والألم الناتج عن هذا اليأس يقف عقبة في حدوث لحظات السعادة السابقة. "إن محاولة الوصول للأفضل غالبًا ما يفسد ما هو جيد".
إحدى الفتيات رفضت العديد من فرص الزواج عندما كانت صغيرة السن أملاً في الحصول على الأفضل. والآن أصبحت في الأربعين من عمرها، وتزوجت رجلاً لا ترى فيه ومعه إلا المزيد من الصعوبات. وبنفس الطريقة غيرت وظيفتها عدة مرات برجاء الحصول على الأفضل. والآن ترى نفسها وحيدة بلا وظيفة ثابتة.
وهذا يقودني لأن أقول بعض الكلمات عن نوع من الناس يبغون الكمال وسياستهم "إما كل شئ أو لا شيء". وأنا كطبيب للنفس أرى كثيرين من هذا النوع وأمامي ملف كبير عنهم. إن الطموح يملأهم في كل شئ إلى حد أنهم دائمًا محبطون من الواقع ومن أنفسهم. ومن بين هؤلاء موسيقيين لديهم أحلام مدهشة عن الكمال الفني إلى الدرجة التي فيها حالما يمسكون بآلة موسيقية يصيبهم اليأس عن عدم قدرتهم على تحقيق كل ما كانوا يطمحون إليه، إلى الدرجة التي فيها يتخلون عن دراساتهم. وهذا النوع من الناس أصحاب سياسة "إما كل شئ أو لا شئ" لديهم حاجة شديدة للحب والعاطفة إلى الدرجة التي يمكنهم فيها قطع علاقتهم بأي أحد لأنهم لم يجدوا فيه ما يعتقدوا بأنه صداقة حقيقية. إن لديهم اشتياق غير مُشبع لأن يكونوا سعداء لأنهم لا يستطيعوا رؤية ما ينقصهم لكي يكونوا سعداء. ولديهم الرغبة للكمال حتى أنهم لا يروا إلا نقاط ضعفهم وفشلهم. وإذا أشار أحدهم لانتصار حقيقي هم حققوه يقولون: "رغم كل ما فعلته، فذلك لا يهمني كثيرًا". إنهم يقضون ساعة كاملة ليخبروك عن فشلهم، وفقط عند نهاية الزيارة وهم على باب البيت يقولون أنهم حققوا نجاحًا كافيًا لأن يملأك بالابتهاج. إن لديهم عطشًا شديدًا لحلول كاملة إلى الحد أنهم يكونوا في حالة توترٍ دائم بسبب النسبية في كل شئ. وكتبت لي امرأة شابة تقول: "أنا أبحث دائمًا عن الحلول الكاملة. وفي الحقيقة يجب أن أتوافق مع الحزن وعدم الكمال الذي أجده في كل مكان. إنه لأمر طبيعي أن تبحث عن أفضل الحالات الممكنة في العمل، ولكي إذا قضى الإنسان عمره في البحث، فإنه سوف يغامر ولن يتقدم في عمله".
إنهم يريدون أن يفعلوا كل شئ، ولكنهم لا يختاروا شيئًا، ولهذا لا ينزعجون. بينما الحياة تعني أن تختار شيئًا واحدًا وتترك الآخر، ولكن مثل هؤلاء الناس لن يتخلوا عن شئ، ولهذا يفقدون كل شئ. ويوجد دائمًا وفرة من الوقت لما يريدنا الله أن نفعله إن لم نقض هذا الوقت في فعل أشياء أخرى.
فهناك امرأة شابة حزنت كثيرًا عندما تزوج الرجل الذي كانت تحبه بامرأة أخرى ومع ذلك فقد تمكنت من أن تسمو بيأسها وتحوله إلى عمل فني. وفجأة عرض عليها نفس الرجل –بعد أن أصبح أرملاً- أن يتزوجها. ولكن بدلاً من أن تفرح بذلك، انزعجت وأصابها القلق لتوقعها ترك العمل الفني.
هذا النوع من الناس (ذوي سياسة "كل شئ أو لا شئ") يحملون دائمًا بأنهم مؤتمنون على أعمال هامة، وفي نفس الوقت يهملون الواجبات الأكثر تواضعًا التي لو أنجزوها فسوف تدفعهم إلى الأمام. إن الناس الذين ينتظرون دائماً أن تأتي الظروف التي فيها يمكنهم إظهار همتهم ونشاطهم، فلن تأتي هذه الظروف. يقول القديس برنارد: "الكمال يكمن في عمل الأشياء العادية اليومية بطريقة غير عادية، وليس في عمل الأشياء العظيمة ولا في عمل أشياء كثيرة".
"وفي محاولتنا لكل شئ على أفضل وجه، لا يمكننا تجنب الأخطاء. ولهذا فالحياة المسيحية ليست مجهوداً ضخماً لفعل الخير، ولكنها تنازل وصلاة لكي يقودنا الله عبر كل العقبات الخطيرة."
بول تورنييه
من كتاب ولادة جديدة للذات الإنسانية