(ملخص جميل، مُبسط ولكن شامل)
لقد كتبت قصة حياتك.
وبدأت الكتابة عند ولادتك. وعند بلوغك سن الرابعة كنت قد انتهيت من العناصر الأساسية في الحبكة.
وفي سن السابعة كنت قد أكملت كافة التفاصيل الرئيسية في القصة. ومنذ ذلك الحين حتى سن الثانية عشرة تقريباً أخذت تنقح القصة وتضيف بعض التفاصيل هنا وهناك. ثم راجعت القصة في سن المراهقة وقمت بتحديثها بإضافة مزيد من الشخصيات الحقيقية.
والآن وأنت شخص راشد، لا يمكن لذاكرتك الواعية أن تصل إلى بداية قصتك. بل ربما أنك لا تعي حتى الآن أنك كتبت أصلاً. وبالرغم من عدم وعيك، فأنت غالباً ما تعيش القصة التي ألفتها منذ هذه السنوات الطويلة. وهذه القصة هي بمثابة سيناريو لحياتك.
عرَّف "إيريك برن" هذا السيناريو في كتابه "قواعد العلاج الجمعي" بأنه "خطة حياتية لاشعورية". ثم قدم فيما بعد تعريفاً مكتملاً في كتابه "ماذا تقول بعد إلقاء التحية؟ What do you say after you say hello?": "خطة حياتية توضع في الطفولة يعززها الوالدان، وتبررها الأحداث اللاحقة، وتتوجها نهاية يختارها الكاتب."
إذن يُعرف "برن" السيناريو بأنه "خطة حياتية تُوضع في الطفولة"، بمعنى أن الطفل يتخذ قرارات بشأن خطة حياته. فهي لا تتوقف على القوى الخارجية وحدها كالوالدين أو البيئة. ويستتبع ذلك أنه حتى عندما ينشأ عدد من الأطفال في بيئة واحدة، قد يختلف ما يتخذونه من قرارات بشأن خطط حياتهم. ويروي "برن" قصة أخوين قالت لهما أمهما: "سينتهي بكما الأمر إلى مستشفى للمجانين". فأصبح أحدهما نزيلاً في مستشفى للأمراض العقلية، وأصبح الآخر طبيباً نفسياً.
ويُستخدم مصطلح "قرار" في نظرية السيناريو هذه بمعنى متخصص يختلف عن معناه القاموسي العادي، فالطفل لا يتخذ قرارات السيناريو بعمليات التفكير المقصودة المرتبطة في أذهاننا باتخاذ القرار عند الراشدين، وتنشأ القرارات المبكرة عن المشاعر وتتخذ قبل أن يتعلم الطفل الكلام. وهي تعتمد أيضاً على نوع اختبار للحقائق يختلف عن ذلك الذي يستخدمه الراشدون.
السيناريو يعززه الوالدان
مع أن الوالدين لا يمكنهما تحديد قرارات الطفل في سيناريو حياته، فهما يمارسان تأثيراً كبيراً عليها. فمنذ الأيام الأولى في حياة الطفل يرسل له والده رسائل يصل على أساسها إلى استنتاجات عن نفسه والآخرين والعالم. ومن رسائل السيناريو هذه ما هو لفظي وما هو غير لفظي أيضاً، وهي تشكل الإطار الذي يتخذ الطفل قرارات السيناريو الأساسية على أساسه.
الرسائل اللفظية مقابل الرسائل غير اللفظية
قبل أن يتعلم الطفل الكلام يفسر الرسائل التي ترد إليه من الآخرين انطلاقاً مما تحويه من إشارات غير لفظية. فالطفل الصغير يتمتع بإدراك دقيق للتعبيرات، وما يطرأ على الجسم من تقلصات، والحركات، والنبرات، والروائح.
فإن كانت الأم تحتضنه وتلصقه بجسدها في دفء بحيث يتخذ جسمه وضع جسمها، غالباً ما يدرك رسالتها له على أنها "أنا أقبلك وأحبك". ولكن إن تقلص جسمها وحملته متصلبة وأبعدته عن جسمها، قد يقرأ رسالتها وكأنها تقول له: "أنا أرفضك ولا أريدك قريباً مني." وقد لا تنتبه الأم نفسها لتصلبها وابتعادها عنه. إذن تأتي معظم الرسائل المؤثرة في سيناريو الحياة، من الوالدين يمكن أن تأتي رسائل السيناريو على هيئة تعليماتcommands مباشرة. "لا تزعجني. افعل ما قلت لك. أغرب عن وجهي. أسرع. لا تحدث شغباً. إن لم تنجح في البداية، استمر في المحاولة." ومعظم الوالدين يغرقون أبنائهم بمئات التعليمات من هذا النوع، ويتوقف مدى قدرة هذه التعليمات على أن تصبح رسائل سيناريو على مدى تكرارها وعلى الرسائل غير اللفظية المصاحبة لها.
وفي أوقات أخرى لا يقال للطفل ما يجب عليه أن يفعل فحسب، بل يقال له من هو. ويُطلق على هذه الرسالة التوصيفattribution
"أنت غبي."
"أنتٍ طفلتي الصغيرة الجميلة."
"سيكون مصيرك السجن."
"لن تنجح أبداً."
أنت ماهر في القراءة."
إذن تأتي معظم الرسائل المؤثرة في سيناريو الحياة، من الوالدين. ولكن لابد أن نفهم أن الطفل يتخذ قرارات السيناريو الخاصة به استجابة لإدراكه الخاص لما يجري حوله. ويقم هذا الإدراك على طريقة الطفل في الشعور وفي اختبار الواقع. ومن ثم، فإدراك الطفل من رسائل ترد إليه من الوالدين والعالم المحيط قد يختلف تماماً عن إدراك الكبار. فالطفل الصغير عندما يروعه صوت ضوضاء مفاجئ، قد يستنتج دون التعبير عن ذلك لفظياً أن "شخصاً ما يحاول أن يقتلني!" وقد يكون والداه في هذه اللحظة عينها يهنئان نفسيهما على نجاحهما في توفير بيئة آمنة له.
منشأ السيناريو
لماذا نتخذ هذه القرارات الطفولية بشأن أنفسنا والآخرين والعالم؟ وما الوظيفة التي تؤديها؟ تكمن الإجابات في خاصيتين جوهريتين من خواص تكوين السيناريو:
1) تمثل قرارات السيناريو أفضل استراتيجيات الطفل لضمان البقاء في عالم غالباً ما يبدو معادياً بل مهدداً للحياة.
2) تتخذ قرارات السيناريو على أساس أحاسيس الطفل واختباره للواقع.
الاستجابة لعالم معادٍ
الطفل صغير وعرضة للمخاطر المادية. فهو يرى العالم مليئاً بعمالقة تسير بخطوات متثاقلة، وسماع صوت مفاجئ قد يعني أن حياته في خطر وشيك. وهو يدرك دون تفكير متسق ودون معرفة باللغة أنه إن رحل الأب أو الأم، فهو سيموت. وإن اشتد غضبهما عليه، قد يقضيان عليه. والطفل لا يتمتع بإدراك الكبار للوقت. فإن شعر بالجوع أو البرد، ولم تأتِ الأم، فربما لن تأتي أبداً، وهذا يعني الموت، أو قد يعني ما هو أسوأ من الموت، وهو أنه سيُترك وحده إلى الأبد.
وعندما يبلغ الطفل سن الثانية أو الثالثة، قد يولد أخ أو تولد أخت. والطفل الآن، بعد أن كبر قليلاً، يعلم أنه قد لا يموت بسبب هذا الحدث. ولكن يبدو أن الوافد الجديد استحوذ على كل اهتمام الأم، ربما أن كمية الحب لن تكفي لكليهما، فهل سيستولى الرضيع على الكمية كلها؟ والخطورة الآن هي فقدان حب الأم.
وفي سني تكوين السيناريو يكون الطفل في وضع يخلو من المميزات، فهو يدرك والديه على أنهما يمتلكان سلطة مطلقة، وهي قوة تعني له في طفولته إما الحياة أو الموت. وفيما بعد تعني إما إشباع احتياجاته أو عدم إشباعها.
واستجابته لهذا الموقف تتمثل في وضع استراتيجيات تبقيه على قيد الحياة وتضمن سداد احتياجاته قدر استطاعته.
المشاعر واختبار الواقع في مرحلة مبكرة
إذن الطفل الصغير، كما قلنا، لا يفكر تفكير الكبار، ولا يختبر المشاعر مثلهم. وقرارات السيناريو تُتخذ على أساس تفكير الطفل وشعوره المتميزين عن تفكير الكبار ومشاعرهم.
والقاعدة التي تحكم منطق الطفل هي التفكير من الخاص إلى العام. هب مثلاً أن أم الطفل متذبذبة في استجابتها لمطالبه، مثل أن تأتي إليه أحياناً عندما يبكي وتتجاهله في أحيان أخرى، فلن يقتصر استنتاج الطفل على أنه "لا يمكن الوثوق بماما" ولكنه قد يستنتج أنه "لا يمكن الوثوق بالناس"، أو "لا يمكن الوثوق بالنساء". وطلفة في سن الرابعة أو الخامسة قد تغضب من أبيها غضباً شديداً لأنه توقف عن إعطائها ما كان يغدقه عليها من اهتمام وهي تتعلم المشي، فقد لا تقرر فقط "أنا مغتاظة جداً من بابا" بل "أنا مغتاظة جداً من الرجال".
وقد يعوض الطفل إحساسه بالعجز بأن يتخيل أنه قادر على كل شيء أو أنه قادر على إتيان السحر. فإن كان يشعر أن الأب والأم ليسا على وفاق، فقد يقرر، خاصة إذا كان إبناً وحيداً أن "هذا خطأي". وإن حدث اشتباك بدني بينهما، قد يعتقد أنه مسئول عن حماية أحدهما من الآخر.
وإن كان الطفل يشعر أنه مرفوض من أحد الوالدين، قد يُرجع المشكلة لنفسه، ويقرر أن "هناك عيب ما في".
السيناريو يقع خارج الوعي
أكثر الطرق شيوعاً التي نتذكر بها سني حياتنا الأولى ونحن كبار هي الأحلام والخيالات. وإن لم نجتهد في اكتشاف السيناريو الخاص بنا، أغلب الظن أننا سنظل غير واعين بما اتخذناه من قرارات في طفولتنا، وإن كنا نسلك وفقاً لها.
السيناريو في حياة الراشد
أحياناً ما نعيد ونحن كبار الاستراتيجيات التي وضعناها في الطفولة، فنستجيب للواقع هنا والآن كما لو كان يمثل العالم الذي تصورناه في قراراتنا المبكرة. وعندئذٍ يقال إننا في السيناريو، أو إننا نمارس سلوكيات أو مشاعر السيناريو.
ولكن لماذا نفعل ذلك؟ لماذا لا نترك قرارتنا الطفولية كلما نمونا؟ السبب الرئيسي هو أننا مازلنا نأمل في حل القضية الرئيسية التي لم تجد طريقها إلى الحل في طفولتنا: كيف نحصل على حب واهتمام غير مشروطين. ولذلك، غالباً ما نأتي نحن الراشدين بردود أفعال كما لو كنا مازلنا صغاراً. ويرى التحليل التفاعلي، كغيره من أنواع العلاج، أن هذه الظاهرة هي مصدر معظم مشكلات الحياة.
وعندما ندخل في السيناريو عادة ما لا نعي أننا نعيد ممارسة استراتيجيات الطفولة، ولكننا قادرون على تنمية هذا الوعي بفهم السيناريو الخاص بنا واكتشاف ما اتخذناه من قرارات مبكرة.
تقترح نظرية السيناريو أننا نكرر هذا السلوك حتى نعزز سيناريو حياتنا وندعمه.
فعندما نكون في السيناريو نتشبث بقرارات الطفولة التي كانت تمثل لنا أفضل سبل البقاء وسداد الاحتياجات. والآن بعد أن كبرنا، مازلنا نحتفظ بهذا المعتقد في حالة الأنا "الطفل". وهكذا، دون أن نعي نسعى لترتيب العالم على نحو يبدو أنه قراراتنا المبكرة.
عندما نكون في السيناريو نحاول مواجهة مشكلات الراشد بإعادة الاستراتيجيات الطفولية. ومن المؤكد أنها تأتي بذات النتائج التي أتت بها في طفولتنا. وعندما نحصل على هذه النتائج غير المرغوبة، نقول لأنفسنا في حالة "الطفل": "نعم، ثبت أن العالم يتفق مع نظرتي له التي وصلت إليها في قراراتي السابقة".
وكلما "أكدنا" معتقدات السيناريو على هذا النحو، ازددنا اقتراباً من نتيجته النهائية. فقد أكون قد قررت مثلاً وأنا طفل صغير: "هناك عيب فيَّ. الناس يرفضونني. ستنتهي قصتي بالموت في حزن ووحدة." فعندما أكبر قد أدعم هذه الخطة الحياتية بتهيئة الأمور مراراً وتكراراً بحيث أكون مرفوضاً. وكلما قوبلت بالرفض، أضيف "تأكيداً" آخر يقول بأن المسرحية ستنتهي بموتي وحيداً. وربما أحتفظ خارج حيز الوعي بمعتقد وهمي، وهو أني إذا مثلت هذه النهاية، سأحظى أخيراً بحب أبي وأمي.
إذن يقدم السيناريو حلاً سحرياً للقضية الأساسية التي لم تُحل في الطفولة: الحصول على حب وقبول غير مشروطين. ويصعب علينا بعد أن كبرنا أن نتخلى عن ذلك الحل السحري لأننا دائماً ما توحدنا في طفولتنا مع إحدى قصص الجنيات وتخيلنا أننا إن جعلنا حياتنا تسير مثل قصص الجنيات يمكننا أن نعيش "في تبات ونبات".
والمشكلة الوحيدة أن قصص الجنيات تمارس نوعاً من الخداع المحبب الخبيث على الأطفال، فهي تُعلمهم أنهم إن أرادوا أن يحدث لهم شئ لطيف لابد أن يكونوا ضحايا تعساء حتى يستحقوا هذا الشئ.
وعندما نصل إلى الرشد، يستمر "الطفل" متمسكاً بذلك المعتقد السحري ويستمر في محاولة إجباره على النجاح. وإن لم ينجح حتى الآن، فربما يرجع ذلك إلى أننا لم نصل إلى درجة المعاناة التي تعطينا الحق في الإنقاذ. ومن أساليب الخروج من السيناريو التخلي عن الاعتقاد بعالم مثالي، بل يجب أن نستخدم "الراشد" في حل المشكلات وإيجاد سبل لإشباع احتياجاتنا في عالم لن يكون مثالياً أبداً، ولكنه يمكن أن يكون جميلاً وممتعاً.
يساعدنا كل ذلك على إدراك أهمية فهم السيناريو في إحداث تغيير على المستوى الشخصي. وإن أردت الخروج من السيناريو، علىَّ أن أحدد الاحتياجات التي لم تُشبع في طفولتي. ويجب أن أجد وسائل لإشباعها باستخدام ما هو متاح لي من موارد باعتباري راشداً بدلاً من الاعتماد على "الحل السحري" المتضمن في السيناريو. ويمكنني أن أؤكد لنفسي أنه بإمكاني التحرر من أنماط السيناريو دون أن أواجه الكارثة التي طالما ارتعبت منها في طفولتي.
إيان ستيوارت، و فان جوينز
من كتاب: "التحليل التفاعلي اليوم"