مقدمة
فلسفة اللقاء (عند بوبر).. : أن "كائنٌ موجودٌ في العالم، أنت تجهله وفجأةً، وبلقاء واحدٍ، قبل أن تتعرف إليه، إذ بك تعرفه."
نحن نشعر تمامًا بحاجتنا إلى إشارة وسط بين الاستفهام (؟) والتعجب (!). نحن نشعر تمامًا بأنه بين الاستفهام (؟) والتعجب (!) يوجد مكان لسيكولوجيةٍ كاملةٍ تُلوّن كل الكلام، وتعرف كيف تُؤوّل الصمت وأنواع الأجراس (الرنين) المختلفة، والحيويات والإبطاءات، وكل الأصداء وكل أنغام المودة والمحبة.
هل يمكن لشبح "النوتة" الموسيقية أن يكون بهذه الحيوية؟ نعم. إن هو أشار إلى لقاء. هل لـ "اللحظة" أن تكون بمثل هذا الغنى وبمثل هذه الحيوية؟ نعم إن نجمت عنها صداقةٌ، وإن هي كانت دفقًا من "شخصٍ".
إلا أن وقت الأشخاص نادرٌ إلى أقصى حد، وفارغٌ بالنسبة إلى زمن الأشياء. نحن نعيشُ نومًا في "عالم" نائم. ولكن ما إن يهمس في أذننا "أنت"، وإذا بالشلال يقذف بـ "الأشخاص": ويستيقظ الأنا بفضل الـ "أنت". والفعالية الروحية لوجدانين متلازمين، مجموعين في وعي لقائهما، تخرج فجأة من السببية اللزجة والدائمة الملازمة للأشياء. اللقاء يجددنا يُنشئنا: كنّا لا شيء –أو لم نكن إلا أشياء- قبل أن نجتمع..
الإنسان لا يكون إنسانًا إلا بين الناس. وحب القريب هو مصيرنا الذاتي الحميم، وإذا وجدت بعض النفوس الحياة في التأمل المتوحد، فذلك لأنها وصلت إلى اللقاء الأعظم، فذلك لأنها أصبحت قطب جذبٍ أعظم.
ليس في جهة مركزي "أنا" و"أنت"، يتوجب البحث عن علم أصل الكائن البشري، ولكن بما أن الإنسان مرتبط بإنسانيته، فقد يعثر في الصلة بين أنا-أنت، وعلى محور أنا-أنت، على السمات الحقة في الإنسان. يوجد هنا نوع من الأونطولوجية المسرفة [الأونطولوجيا علم الوجود] المتبادلة التي تسمو بجوهرية الأنا، والتي تجعل من الـ "أنت" النعت الأقرب والأكثر جذريةً لـ "الأنا". أكون أنا جوهرًا إن كنت شخصًا. وأكون شخصًا إن اتصلت بشخص.
أنا إن انفصلت عن أخي أنا أُلغي نفسي. وإن فقدت اهتمام أخي أتخلى عن الله. وهكذا يكون كتاب مارتن بوبر الدليل والمؤشر الأول على الشخصانية [التركيز على الشخص]. يتوجب علينا إدراك الوجود، إدراك الكائن، حرفيًّا لغويًّا، في ديانته الأساسية..
وسوف نقيس أهمية فلسفة بوبر إن درسنا بصورة منهجية تسميات الأشياء من خلال اتحاد شخصين. ولا يأتي الـ "ذلك"، ذلك الشخص الثالث، إلا عقب الـ "الأنا" والـ "أنت" وهما الأولان. وبماذا تهمني الأزهار والأشجار، والنار والحجر، إن كنت لا أحب وليس لي بيت، مسكنٌ عائليٌ! يجب على المرء أن يكون اثنين أو، على الأقل وللأسف، يجب أن يكون قد كان اثنين، من أجل فهم السماء الزرقاء، ومن أجل تسمية الفجر فجرًا. فالأشياء التي لا نهاية لها مثل السماء والضوء لا تجد أسمائها إلا في قلب محب، ونسيم السهول، في نعومته وخفقاته هو قبل كل شيء صدى نهدة حنونة. هكذا النفس البشرية، الغنية بحب مختار، تُحي الأشياء العظيمة قبل الصغيرة. إنها تخاطب الكون بالمفرد، منذ أن تشعر بنشوة الـ "أنت" البشرية.
ثم في الضوء الجديد لبيت جديد، تصبح الأشياء صغيرة، وتصبح أليفة وقريبة، وفجأة تصبح من العائلة. ليس من العائلة القديمة التي حطمت روح الطفل تحت وطأة الـ "هذا"، وتحت وطأة التعليم المفروض والمقبول فقط بشكل سلبي، وإنما من العائلة المختارة، المعثور عليها بفضل الله عن طريق القدر..
إن شتاتنا الروحي في مملكة الـ "ذاك"، وعلى حساب مملكة الـ "أنت"، وقد اجتاح تدريجيًّا مجال العلاقات الاجتماعية، وحملنا بشكل قاهر على رؤية الأشخاص وكأنهم أشياء. ومهما رفعنا من شأن المنفعة، فإنها تظل طرحًا أنانيًّا من شأنه في النهاية أن يُفسد النفوس. وبقول آخر، عندما نُريد أن نعيش في مواجهة الأشياء فقط، مع توصيفها بالمنافع التي تقدمها لنا، ولو كانت هذه المنافع عالية روحانيًّا بمستوى الفرح الفني، فإن مسحة من الأنانية تُذهب عن الألوان ألقها وتستعيض عن زغب الأشياء بالطلاء. الأنانية أو الرومانسية تعانيان من المناجيات ذاتها. عبثًا ندعي التموضع في صميم الأشياء، ومباغتة الحالة الروحية في منظر ما، إذ يظل ينقض هذه الإحيائية التأكيد الذي توفره فقط رفقة أنت ما. وإنه هنا تتدخل المقولة البوبرية الأكثر قيمة: التبادل، هذا التبادل لا يوجد أبدًا بوضوح على محور "أنا-هذا". إنه لا يظهر بوضوح حقٍ إلا فوق المحور الذي يتأرجح فوقه ويرتعش الـ"أنا-أنت". عندئذ، نعم يهتم الكائن المعثور عليه بيّ، كما أني أهتم به. إني أخلقه كشخصٍ في الوقت الذي يخلقني فيه كشخص. وكما يُردد مارتن بوبر كثيرًا، في مناجاة الذات، يتبدى الوجود كما لو أنه "جانبٌ آخر"..
عندها تكون الأذن ناشطة لأن إصاخة السمع يعني إرادة الإجابة، والتلقي استعدادٌ للعطاء. إذ كيف يمكن السماع بدون قولٍ معبرٍ. وكيف يكون التعبير بدون سماع! ومرةً أخرى أيضًا لا يكون جوهرنا الروحي فينا إلا إذا أمكنه أن يذهب بعيدًا عنا (أن يخرج منّا). وهو لا يستطيع أن يخرج منّا، على غموض، كما الرائحة أو الشعاع. يجب أن يعرض نفسه على أحد ولا بد له أن يُكلم أحدًا بـ "أنت". وكما يقول مارتن بوبر "إن الفكرة الأكثر سموًا تكون بدون جوهر، إن تعرت من اللفظ".
جاستون بلاشر
من مقدمة كتاب "أنا وأنت: فلسفة الروح" لمارتن بوبر
******
- كل حياةٍ حقةٍ هي لقاء.
- العلاقات بالـ"أنت" مباشرة آنية. بين أنا وأنت لا تدخل لعبة المفاهيم، ولا أي مُخطط ولا أي صورة مُسبقة، والذاكرة نفسها تتحول وتتغير عندما تنتقل فجأة من جزئية التفصيلات إلى الكلية. بين الـ"أنا" والـ"أنت"، لا توجد غايات، ولا شهوة، ولا استباق؛ حتى الرغبات بالذات تتغير عندما تنتقل من الصور-الحلم إلى الصورة البادية (الواضحة). كل واسطة هي عائق. وعندما تزول الوسائط، عندها فقط يتم اللقاء.
- إن اللحظة الحالية حقًا والكاملة لا تُوجد إلا إذا كان هناك حضور ولقاء وعلاقة. ومنذ أن يُصبح الـ"أنت" حاضرًا ينشأ الحضور..
الحضور ليس شيئًا هاربًا ينزلق، إنه كائن ينتظرنا ويبقى ويُقيم. أما الشئ فليس بقاءً بل استنقاعًا، ركودًا، توقفًا، إنقطاعًا، تصلبًا، عزلةً، انعدام علاقةٍ وحضورٍ.
- الجواهر (جمع جوهر) مُعاشة في الحاضر، لكن الأشياء تعيش في الماضي.
- العلاقة هي ندية، هي تبادل.. يعمل الـ"أنت" "الموجه إليّ" فيّ كما أنا أعمل فيه.
- يتحول الإنسان إلى "أنا" بفعل الاتصال بـ"أنت".. إلى أن تنفرط الصلة ويجد الـ"أنا" نفسه، ولو للحظة وجيزة، أمام ذاته، منفصلاً عن ذاته، كما لو تعلق الأمر بـ"أنت" آخر (غريب عن الذات)، ثم ليعاود في الحال امتلاك نفسه، فيقدم ذاته بعد ذلك، إلى العلاقة عن وعي..
- إن الهدف من العلاقة، هو وجودها الخاص أي الاتصال؛ لأننا عند الاتصال بالـ "أنت"، مهما كان، نشعر بمرور نسمة من هذا الـ "أنت" الذي هو الحياة الأبدية.
ومن هو موجود في العلاقة يشارك في حقيقة؛ أي يشارك في وجودٍ غير موجودٍ فيه وحده ولا هو موجود فقط خارجه. كل حقيقة هي فاعلية أنا أشارك فيها دون أن أبغيها لنفسي. وحيث تنعدم المشاركة لا توجد حقيقة. وحيث يوجد تملك أناني (استئثار) لا توجد حقيقة. وتكون المشاركة أكمل كلما كان التوال مع الـ "أنت" ألصق وأقرب.
الـ "أنا" حق بمقدر ما شارك في الحقيقة. ويصبح أكثر حقيقة بمقدار ما تكون المشاركة كاملةً.
ولكن الـ "أنا" الذي ينفصل عن العلاقة ويتوحد وينفرد، وهو يعي هذا الانفصال، لا يفقد حقيقته. وتظل المشاركة مغروسة فيه وحيَّة؛ وإذا أردنا استعمال كلمة يمكن أن تُطبق على كل العلاقات، بما فيها أسماها وأعلاها، فإنه يحتفظ ببذرتها في نفسه. هنا يقع مجال الذاتية حيث يعي الـ "أنا" علاقته ويعي انفصاله بآنٍ واحد. إن الذاتية الحقّة لا يمكن أن تُفهم إلا بشكل ديناميكي، كما رجفات الـ "أنا" داخل الحقيقة المعزولة الوحيدة التي هي حقيقته. إن الذاتية أيضًا هي الرابط حيث تُولد وتنمو الرغبة في علاقة يتزايد سموها، الرغبة في المشاركة التامة مع "الكائن الأسمى". في الذاتية ينضج الجوهر الروحي في الشخص.
يعي الشخص ذاته كما يعي كلَّ ما يُشارك "الكائن الأسمى"، كما يعي ما هو موجود مع كائنات أخرى، أي أنه يعي وعي الوجود. ويعي الفرد ذاته كما يعي موجودًا هو هكذا وليس شيئًا آخر..
- ويكون الإنسان شخصًا أكثر وأكبر كلما كانت الكلمات الأساسية أنا - أنت أقوى في المزدوج البشري القائم في ذاته.
إن الطريقة التي يقول لها رجل أنا، وما يريد قوله حين يقول أنا هي التي تُقرر المكانة التي يحتلها، وتقرر اتجاه دربه. في الحقيقة إن كلمة أنا هي مرآة البشرية (الشيبولث Le Shippoleth) ومعيارها.
فأنا الأناني –كم هو ناشز- إنه يستطيع أن يستثير شفقتنا كثيرًا عندما يخرج ]الأنا[ من فم مأسوي، تضطره الحاجة إلى أن يسكت عن تناقضه الداخلي. وهو ]أي الأنا [ قد يُثير رعبنا وهلعنا عندما يخرج من فم مشوش زائغ يعطي لتناقضه الداخلي تعبيرًا عنيفًا، خشنًا وأبلهًا. وعندما يخرج من فم سخيف مائع يبدو لنا متعبًا ومنفرًا.
والذي يتلفظ بالـ "أنا" المفرد المعزول، وبالتفخيم والجلال يكشف عن خزي وعارِ الروحِ الكليةِ، المهانة إلى حدٍ أنها لم تعد إلا صفة روحية.
ولكن الأنا الحي القوي عند سقراط كم هو شرعي وجميل أنه أنا الحوار الأبدي، وجوُّ الحوارِ يُحيط بنفسه، أينما ذهب، حتى أمام قضاته، حتى في الساعة الأخيرة في سجنه. إن هذا الـ "أنا" عاش في العلاقة مع البشر، علاقة تجسده في الحوار. إنه (الـ "أنا") يؤمن بحقيقة الناس ويذهب نحوهم. إنه يعيش معهم في الحقيقة كاملة، وهذه الحقيقة لا تفارقه أبدًا.
مارتن بوبر
من كتاب "أنا وأنت: فلسفة الروح"