كعادة العمل الأسبوعية، المزيد من الضغط حتى تخرج قصتي الحقيقية التي أكتبها من بطلات حقيقيات أتقابل معهن وجهًا لوجه، إلى مكتب رئيس التحرير، ولكن تلك المرة لم تكن ككل المرات، فلم أجد أحدًا أجاد التعبير عن مأساته مثلما فعلت تلك السيدة الصغيرة حينما قالت :
" قرعوا الأبواب وبدون استئذان أخرجوني من داخلها - هي تقول أنها أمي التي ولدتني، و لكني لا أصدق - أخرجوني من داخلها رغمًا عنها وعني، أخرجوني إلى ضجيج لا أعلم سببه ولكن حينما أخرجوني قررت الانفصال عنها سواء أرادت أم لا ........"
اعتدلت في جلستها لتجلس بحرية تامة وكأنها لا تعبأ بوجودي ولا حتى تعبأ بأننا في مكان عام، أشعلت سيجارة مستوردة واستطردت قائلة :
....
" صرخت عدة مرات في ذاك اليوم ولكنها صرخات مختلفة عن تلك التي يؤديها الأطفال الجدد ليعلنوا عن مجيئهم لتلك الحياة. صرخت من الآلم، ربما من الجوع أغلب الوقت، من المرض الذي ولدت به، من الخوف الذي أخافني به أبي عندما توعد و أقسم أني لن أحمل اسمه ببساطة لأني أنثى، فأي أنثى هي ابنة الخطيئة وهو رجل شريف لا يحمل اسمه إلا الذكور الشرفاء أمثاله، صرخت أيضًا من الظلم، فقد ولدتُ ومعي ظلم وألم لم يفارقاني ....! "
هكذا تحدثت ( تلك ) الأنثى، التي رفضت أن تدعى باسم مجرد، فقط في قصتي قررت أن ندعوها "بالأنثى" ..
و لنستكمل القصة....
" صرخّت في ذاك الوقت لمدة ثلاثة أيام من أشياء لا أعلمها، و صرخت السيدة - الملقبة بأمي - معي أيضًا من أشياء لا تهمني ..
لم أتوقف عن الصراخ ولكن المدعوة أمي توقفت عنه عندما أفرزت الذكر الأول من بين أرجلها وأطلَقَت صيحة النصر التي من بعدها داست بأرجلها على أبي وعلى الناس و عليّ أنا أيضًا. بعد ذلك بسنوات استخرجت الذكر الثاني من مدفنه داخلها لتُعلي بذلك صوتها و تسن أظافرها لتطعن تلك الحياة التي جعلتها تصرخ مرة بسببي، وكانت تطعن جسدي و نفسي أيضًا، و كانت تطعن أبي في روحه .....
تعجبت لماذا ؟ و لكني لم أتوقف عن الصراخ ...!.!
أنهت فنجان القهوة الخاص بها وأنا كذلك فطلبت مني الخروج للهواء الطلق، فتركنا الحساب للنادل و تحركنا، و استكملت حديثها ونحن نسير في الشارع فقالت:
"أعتقد أنني كنت أنمو وأكبر ولكن كفاقدة للوعي، فقط لا أريد أن أتذكر ما حدث أو حتى ما سيحدث، كنت أنتقل من مرحلة لأخرى و من عام لآخر، كنت أنمو وكان الظلم والألم يكبران معي، بداخلي، إلى أن ملآني وفاضا حولي، كل ذلك وأنا أصرخ و أصرخ من يوم ميلادي إلى ذلك اليوم الذي أذكر فيه تلك الأحداث ولكني الآن لا أسمع نفسي ولا أحد يسمعني، لا أسمع سوى صوت الآلم والظلم يغتصبان أحلامي ويقتلان زهور ممشى العمر ...
بلغت و شاخت أحزاني وتهرأت معها الأيام وأصبح للأغاني لحنًا جنائزيًا لا أسمع غيره .. "
سألتها : ألم يتغير شيء؟
أجابتني : " بلى، تغير كل شيء، تبدلت الأحوال وتضاعفت الأهوال، نفذ الهواء وأصبحت أختنق، ما كان بالأمس همسًا أصبح اليوم صراخًا، العصافير أصبحت غربان تنعق والموسيقى أصبحت ضجيجًا مزعجًا.."
سألتها : و ماذا بعد؟
أجابتني : " أما بعد، ..... لا أعلم !
سألتها أخيرًا: وماذا عن الحياة ؟
شردت كثيرًا ثم أجابتني : " الحياة هي لغز لا ولم ولن نستطيع حله مهما ارتقينا أو بلغنا. الحياة يقطينة جافة سقطت من مقهى الزمان، حفرت بأوراقها ملامح وأغاني وألوان، خلفّت الهباء وألقته في تاريخ الإنسان، رقصت وغنّت على مسرح بلا ألحان، نسيت البهجة وتركتها على رفوف الأحزان وعندما ذكروني بها سلبتها العنوان، طعنتها بقلمي ففارقها العنفوان.. وإلى حين ضاقت بها الدروب فاحتواها النسيان، تلك هي الحياة عزيزتي... "
شكرتها كثيرًا و ألقيت السلام على دموعها، وتضررت حتى أن أتمناه؛ أتمنى ذاك السلام لأرض اللئام، اكتفيت بذاك التهكم الذي أصدره وجهي ومن قبله قلبي وبعد ذلك ذابت هيئتي وهيئتها في الزحام ..
* قصة حقيقية.
Myriam