على البلاج

عماد ميشيل ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٠

على البلاج

 

 

 

البلاج! هل تلك اللفظة تنتمي للغة العربية؟ أشك، الكثير من كلماتنا لا تنتمي للغتنا، لقد غزتنا كما غزانا الكثير ممن حولنا بعاداتهم، وتقاليدهم، بملابسهم وثقافتهم، ربما لأنه ليس لدينا عمق أو صلب يسهل على أي مجتمع خرق كياننا، نتخذ أفكار الغرب ونمتثل بتقاليد الشرق، ولسنا ندري لماذا نفعل هذه وتلك، ربما لأنه ليس لدينا ما نرجع إليه. لذا، لن أتمسك بقيود اللغة، وسأطلق على كلماتي ظرف مكان لا ينتمي للغة المكتوب بها، البلاج، الشاطئ.

غاصت قدمي الباردة في الرمال الساخنة، ونقلت إليّ الحرارة التي شحنتها بها الشمس منذ بزغت، وكأنها تقول لي: تخيل لقد حمصت الشمس كل ذرة مني بهذا الشكل القاسي، وستكون على قدمك الصغيرة تحمل نصيبها، فقط نصيبها، وليس أكثر، إنه ناموس جسدك، وناموس وجودي، وناموس وجود الشمس الذي يحتم تلك العملية.

تمتمت في بسمة: لا تقلقي سأتحمل.

واقتحمتُ جموع الناس المتراصة على الشاطئ، جموع غفيرة تراها وتقول أن الناس توجد فقط هنا والآن ولا توجد تجمعات أخرى لبشر سوى هذا التجمع، إلا أنك مخطئ، في النهاية وصلت للمياه، وفي المياه الضحلة وعلى الشاطئ وجدت جموع أخرى أكثر من الجموع السابقة، سرت على الشاطئ ووجدت الرمال الباردة التي عانقتها المياه وأخذت منها حرارة الشمس وأعطتها برودتها، وقالت لي: لقد ظننت أن الحرارة ستستمر أبداً. هل استرحت الآن؟!

قلت سعيداً: بالتأكيد.

دخلت في المياه حتى انتهت قامتي، وتلفت حولي، ورأيت الكثيرين معي يسبحون في المياه الضحلة، قليلون يسبحون في العمق، لكن، كيف لهم؟! قامتهم لا تسمح لهم.. ياللعجب!! يبدو وكأنهم يُحْمَلون. أريد الدخول، ولكن الأمر يبدو صعباً.. سمعت كلام الكثيرين عن كيفية السباحة في العمق وكيفية الحفاظ على طفوك، ولكني كلما حاولت تنفيذ كلماتهم أغوص وأغرق.

ونظرت.. البعض يسبح في عائلات في المياه الضحلة وقد ارتضت العائلة أن تسير وفق أضعف ذراع، والبعض الآخر يسبح وحيداً في العمق حيث لا أرض، حيث لا نهاية لطموحه، البعض ينهر أولاده أن يحسنوا التعامل وأن يصمتوا ويتأدبوا لأجل من حولهم من بشر، والبعض يطلقهم ليكونوا ما يريدون، البعض يعلّم أولاده السباحة بالغرق وبالسخرية وبالمكر فيجبرهم على بغض المياه، والبعض الآخر بالرفق واللين والتشجيع يحبب أولاده في السباحة، والبعض يترك أولاده للشاطئ وللمياه ولا يهتم، البعض يعلم لماذا يسبح وفي أي اتجاه، والبعض لا يعلم لماذا أتى ولماذا ذهب..

وقررتُ، سأخوض تجربة حياتي الفريدة، ودخلت للعمق، فحاولت الوجود، وشربت المياه المالحة، مرارة العالم، وقاومت الغرق باستماتة، حاولت بإمكانياتي البقاء على قيد الحياة، وقبل الغرق عندما علمت أنه لا فائدة لعضلاتي في المشكلة -إرادتي الملوثة- تركت جسدي للمياه لتلتهمها كما تشاء، وهو التسليم الكامل الذي يسببه الألم الشديد، وعندها كانت المفاجأة لقد حملتني المياه، أي يد الله، وحملني التيار للعمق دون مجهود مني سوى التسليم ورغبة الذهاب للعمق، مكان حضور الله، وانتهى ارتباطي بالأرض، وتقييدي بالعالم، نمت على ظهري وحملتني المياه كثيراً وطويلاً.

المياه تحمل فوق الصعاب من يريد الطفو والنجاة، الذي يجاهد في طريق الحق، وتغرق من يعلن العصيان على ناموسها وإعمال إرادته في تسلق أمواجها، الذي يصر على إعلاء إرادته في حياته على إرادة الله والتمركز حول ذاته.. لا يمكن لشخص مهما كان أن يصعد فوق المياه رغماً عنها بقوته الشخصية.. سبحت بقوة تجاه هدفي المعلن أمام عيني، وعندما تعبت استرخيت ونمت على ظهري في المياه مغلقاً عيني بقوة كيلا تدخلها، فاستسلمت ليد الله تعمل في حياتي، وألقت عليّ المياه قاذورات شخص أخر تحملتها كجزء من قانون الحياة، فكان عليّ أن أتحمل الناس كجزء من عملية النمو التي سمح بها الله، اعتدلت وبصقت كل ما في جوفي من ألم ووجع في المياه التي تحملتني، وقد طهرني اليود وأخرج ما في معدتي من مرض، فالتجربة تنقي وتشذب شوائب الشخصية وتثمن الإنسان، شعرت بصحة غريبة تسري في عروقي، وأكملت السباحة تجاه الهدف، وفي الطريق وجدت برميلاً فارغاً، أمسكته لأسترح من تعب السباحة، متخذاً إياه بديلاً للنوم على الظهر كوسيلة ثانية للراحة، كبديل بشري كصديق حقيقي أو مشير مرشد، وأكملت السباحة، ثم توقفت للنوم على الظهر للراحة، فالراحة الحقيقية تأتي من الإله خالق الأكوان..

لكني أدركت أني مع نومي على سطح المياه جعلت عضلاتي المنكمشة والمنقبضة تثير توترات وقلق، لتفعيل إرادتي تحسباً لغدر البحر، لكني لم أسترخ حقاً، لقد فردت ذراعاي وقدماي على سطح المياه وغرست أذني في المياه، لكنهم بقوا في حالة استعداد وليست استرخاء. لقد ادّعيت السباحة ولكني لم أسبح حقيقة. لقد قاومت المياه مدعياً استسلامي الكامل لها. فكنت في علاقتي مع الله حذراً إذ ادعيت تسليمي له لكنني أبقيت إرادتي حذرة من أي مكروه قد يصيبني، فكان تسليمي ناقصاً مشوهاً خبيثاً ماكراً.

تركت كل خلية في جسدي للمياه مستسلماً لها وكأنني أريدها أن تغوص في المياه، عندها حُمَلت كالأطفال وشعرت براحة لا بعدها راحة. إنه التسليم الحقيقي وليس المزيف.. فسلمت فصرت أحمل، وقد أسلمت إرادتي التي فصلتها يوم كنت داخل أبي آدم مرة أخرى عن الله إلى الله.

 

 

عماد ميشيل

19يونيه2010