ها نحن الآن، نجد أنفسنا بحاجة إلى علم جديد مختلف تمام الاختلاف، علم إنساني لدراسة الإنسان وقضاياه المصيرية، يكون أساساً لعلوم وفنون تطبيقية في مجال إعادة البناء الاجتماعي.
إن الأحلام التكنولوجية، مثل الطيران، لم تصبح ممكنة التحقيق إلا بتطبيق العلم الطبيعي الجديد، كذلك الحلم باﻟﻤﺠتمع الإنساني الفاضل، الحلم بجنس بشري جديد متحد يعيش في سلام وتكافل متحرر من الحتميات الاقتصادية والصراعات الطبقية والحروب، هذا الحلم يمكن تحقيقه إذا بذلنا في سبيل ذلك من الجهد والذكاء والحماس، بقدر ما بذلنا في سبيل تحقيق الأحلام التكنولوجية. لم يستطع الناس صناعة الغواصة بقراءة ما كتبه جول فيرن، وكذلك لن يستطيعوا بناء اﻟﻤﺠتمع الإنساني المنشود بقراءة رؤى المتنبئين.
لا أحد يستطيع أن يتنبأ إن كان مثل هذا الانتقال، من سيادة العلوم الطبيعية إلى علم اجتماعي جديد، سيحدث أم لا، وإن حدث هذا فربما أتيحت لنا فرصة للبقاء، غير أن هذا التغير يتوقف على عامل وحيد: كم عدد الرجال والنساء من العلماء والمفكرين الأفذاذ اللامعين المهمومين يمكن أن يجذبهم التحدي الجديد للعقل الإنساني، وتشغلهم حقيقة أن الهدف هذه المرة ليس هو السيطرة على الطبيعة، وإنما هو السيطرة على التكنولوجيا، وعلى القوى والمؤسسات الاجتماعية اللاعقلانية التي تهدد البقاء المادي للمجتمع الغربي، بل تهدد بقاء الجنس البشري كله.
في اعتقادي أنه لا مستقبل لنا إلا إذا وعت أنبه العقول البشرية أبعاد الأزمة الراهنة، وعبأت طاقاتها وكرست جهودها المشتركة من أجل هذا العلم الإنساني الجديد، فليس أقل من ذلك بقادرٍ على التصدي لحل المشكلات التي ذكرناها سالفاً، ولتحقيق الأهداف التي سنناقشها لاحقاً.
إن الأشكال الاجتماعية الجديدة، التي ستكون أساساً للكينونة كأسلوب للحياة، لن يُكتب لها الميلاد إلا بعمل كثير من اﻟﻤﺨططات والنماذج والدراسات والتجارب التي تبدأ بتغطية الهوة القائمة بين الضروري وا لممكن، ومن ثم
فإن المهمة في النهاية ترقى إلى الجمع بين التخطيط على مقاييس كبيرة من جانب، واقتراح الخطوات العملية المباشرة من جانب آخر، إن المشكلة هي الإرادة والروح الإنسانية اللتان يستلزم توفرهما فيمن يتصدى للمهمة. فالناس حين يرون رؤيا كبيرة ويتبينون -في الوقت نفسه- الخطوات المؤدية إلى تحقيقها سوف يتشجعون ويتحمسون ويتغلبون على ما في نفوسهم من خوف.
وإذا كان من الواجب إخضاع النشاط الاقتصادي والاجتماعي للتطور الإنساني فإن احتياجات الفرد غير المغترب الذي يختار الكينونة منهجاً هي التي يجب أن تحدد نموذج اﻟﻤﺠتمع الجديد، ومعنى هذا أن الكائنات البشرية يجب ألا تعيش في حالة من الفقر الذي يهدر آدميتهم (وتلك لا تزال مشكلة أغلبية الجنس البشري)، كما لا يجب أن تضطر - كما هي حال الموسرين في اﻟﻤﺠتمعات الصناعية، وبحكم القوان ين الكامنة في نظام الإنتاج الرأسمالي- أن تعيش ككائنات استهلاكية Homo Consumens حيث تستوجب هذه القوانين نمواً مستمراً في الإنتاج، ومن ثم نمواً مستمراً في الاستهلاك، فإذا قُدِرَ للكائنات البشرية أن تتحرر في يوم من الأيام، وأن تكف عن تغذية الصناعة بأشكال من الاستهلاك المرضي فإن ذلك يستوجب تغييراً جذريًا في النظام الاقتصاد. ويجب أن ننهي الوضع الحالي الذي يستحيل فيه تحقيق صحة الاقتصاد إلا بواسطة بشر غير أصحاء. إن المهمة تتلخص في بناء اقتصاد صحي من أجل أناس أصحاء.
والخطوة الحاسمة الأولى لتحقيق هذا الهدف هي توجيه الإنتاج من أجل نوع جديد من الاستهلاك الرشيد.
لم يعد كافياً أن نسترشد بالصيغة التقليدية التي تدعو إلى الإنتاج من أجل الاستعمال وليس من أجل الربح، لأنها لا تحدد أي نوع من الاستعمال، الاستعمال الصحي أو الاستعمال المرضي. وهنا يثار سؤال عملي في غاية الأهمية: من ذا الذي يحدد إن كان هذا الاستعمال أو ذاك صحياً أو مرضياً؟ للإجابة عن هذا السؤال نحن متأكدون من حقيقة واحدة على الأقل، وهي أن الدولة لا يمكن أن تكون هي الجهة التي تجبر الناس على استهلاك ما تراه هو الأحسن، حتى لو كان هو الأحسن بالفعل. فالهيمنة والوصاية البيروقراطية التي تبيح أو تمنع بطريقة تحكمية لن تزيد الناس إلا نهماً في الاستهلاك. إنما لا يمكن أن يتجه الناس للاستهلاك الرشيد إلا إذا أحس عدد متزايد منهم بالرغبة في تغيير أنماطهم الاستهلاكية وأساليبهم الحياتية، ولن يكون هذا ممكناً إلا إذا عُرِضَ على الناس نمط استهلاكي أكثر جاذبية وإقناعاً من النمط الذي اعتادوا عليه. ولن يحدث هذا في يوم وليلة، كما لن يحدث بمرسوم أو تشريع، وإنما الأمر يتطلب عملية تربوية وتعليمية طويلة الأم. وعلى هذا يجب أن تقوم الإدارة الحكومية بدورٍ هام.
غير أن تحديد ما هو ملائم لدعم قوى الحياة وتمييزه عما هو مدمر لها يتطلب أنواعاً من البحث أعمق، بما لا يقارن بالأبحاث التي تجريها جهة مثل هيئة الأغذية والعقاقير ( (U.S. Food and Drug Administration، فالأبحاث الأساسية حول طبيعة الاحتياجات الإنسانية لم تكد تبدأ بعد، ومجالها العلم الإنساني الجديد. نحن بحاجة إلى تحديد أي هذه الاحتياجات منشؤها تركيبنا العضوي، وأيها نتيجة التقدم الثقافي الحضاري، وأيها تعبير عن النضج الفردي، وأيها غير طبيعي ومفروض على الفرد بفعل الصناعة، وأيها يحرك النشاط، وأيها يثبطه وما هي الاحتياجات التي لها جذور مرضية وما هي التي لها جذور صحية.
لقد أصبحنا اليوم على وعي كبير بمشكلة الأغذية الصحية وغير الصحية. ومواصلة المتخصصين للبحث في اﻟﻤﺠالات الأخرى يمكنها أن تساعد اﻟﻤﺠتمع على التمييز بين الاحتياجات الرشيدة والاحتياجات المريضة فيها. وحينذاك سيتبين الناس أن أغلبية سلع الاستهلاك الحالية لا تتسبب إلا في تثبيط النشاط الإنساني، وسيتبينون أن الشغف بكل ما هو جديد وكل ما هو سريع، وهو شغف يسعون لإشباعه بمزيد من الاستهلاك، ليس إلا انعكاساً لما يعانون من قلق ورغبة في الهروب من الذات، وسيتبينون أن بحثهم الذي لا يتوقف عن شيء جديد يفعلونه أو شيء جديد يستهلكونه ليس إلا وسيلة يقي بها الشخص ذاته من أن يكون قريباً من ذاته أو من أي شخص آخر.
وتستطيع الإدارة الحكومية أن تسهل العملية التعليمية التربوية المنشودة بدعم إنتاج السلع والخدمات المرغوب فيها إلى أن يصبح إنتاجها مربحاً. ويجب أن تكون هذه الجهود مصحوبة بحملة تعليمية واسعة للدعوة للاستهلاك الرشيد.. ومن المتوقع أن تقضي الجهود المتضافرة لتنمية شهية الناس للاستهلاك الرشيد إلى تغيير النمط الاستهلاكي السائد. ليس من الضروري أن تتخذ الجهود التعليمية شكلاً مشابهاً لحملات غسيل المخ التي هي طابع الأسلوب الإعلاني الصناعي (بل من الضروري ألا تكون كذلك). ومع ذلك فسيكون من المعقول أن تحقق تلك الجهود التعليمية نتائج لا تقل كثيراً عن تلك التي تحققها الدعاية الصناعية.
ثمة اعتراض نمطي يثار ضد أي برنامج للاستهلاك أو للإنتاج الانتقائي على ضوء مبدأ تفضيل استهلاك وإنتاج ما يفيد الحياة الطيبة، ويتلخص هذا الاعتراض في أن المستهلكين في اقتصاديات السوق الحرة يحصلون بالدقة على رغباتهم، ومن ثم فلا مجال للإنتاج الانتقائي. وتقوم هذه الحجة على افتراض أن المستهلكين يرغبون في الحصول على ما يفيدهم، وهو افتراض غير صحيح على الإطلاق ولن يلجأ إليه أحد (في حالة مستهلكي اﻟﻤﺨدرات وحتى في استهلاك السجاير). والحقيقة الهامة التي تتجاهلها هذه الحجة هي أن رغبات المستهلكين يصنعها المنتجون. فعلى الرغم من التنافس بين مختلف الماركات، تكون الحصيلة العامة للإعانات هي إذكاء شهوة الاستهلاك، حيث تساعد جميع المصانع بعضها بعضاً من خلال إعلاناتها، ولا يمارس المشتري إلا امتيازاً مشكوكاً في قيمته حين يترك له حتى الاختيار بين هذه الماركة أو تلك.. وعلاوة على ذلك فإن رجال الصناعة يشكلون أذواق المستهلكين فهم لا ينتجون السلع مهما كانت صحية ومفيدة للمستهلك إذا كان الربح العائد منها على الصناعة ضعيفاً.
إن النجاح في إقامة مجتمع على مبدأ الكينونة، لا التملك، يتوقف على إجراءات كثيرة أخرى (خلاف مقاومة المركزية وتشيئ الأشخاص وتحويلهم إلى قطيع عن طريق الإدارة البيروقراطية الآلية). وأنا، إذ أقدم الاقتراحات التالية، لا أدعى أنني أكتشف الجديد، وإنما يشجعني على كتابتها حقيقة أن كثيرين غيري من الكتاب ذوي التوجه الإنساني قد سبقني إليها، كلٍ على طريقته.
يجب حظر كل أساليب غسيل المخ المستخدمة في الإعلانات السياسية والصناعية. فخطورة أساليب غسل المخ تلك لا تقتصر على دفعنا إلى شراء أشياء لا نريدها، ولسنا بحاجة إليها، وإنما هي أيضا تقودنا لاختيار ممثلين سياسيين لا يمكن أن نريدهم، أو نحتاج إليهم لو كنا مالكين تماماً لقدراتنا الذهنية. فالحقيقة أن أساليب الإعلان التي توجهنا نجحت في جعلنا غير مالكين تماماً لقدراتنا الذهنية بفضل التشابه بين تلك الأساليب وأساليب الإيحاء المتبعة في التنويم المغناطيسي. ولدرء هذا الخطر يجب منع الأساليب الإيحائية المغيبة للعقل في الدعاية للسلع وللسياسيين.
إن الأساليب الإيحائية شبه التنويمية المستخدمة في الإعلانات التجارية والدعاية السياسية تعد خطراً كبيراً على الصحة العقلية، وخصوصاً على الصفاء الذهني والتفكير النقدي واستقلالية الوجدان. ولا شك عندي أن دراسةٍ استقصائية جادة يمكن أن تثبت أن الأضرار التي تلحقها اﻟﻤﺨدرات بالعقل ليست إلا جزءاً يسيرا بالقياس للأضرار التي تحدثها أساليب غسيل المخ تلك، من الإيحاءات التي تعمل من تحت الوعي إلى الأساليب المشابهة لأساليب التنويم مثل التكرار المستمر، وتحريف التفكير العقلاني بإثارة الغرائز وشهوة الجنس. وهل يوجد ما هو أقدر على تعطيل العقل الإنساني من قذفه بهذا الوابل الذي لا يتوقف من الأساليب الإيحائية، وخصوصاً في إعلانات التلفاز التجارية؟ وهذا الهجوم الضاري على الحقيقة وعلى الإحساس بالواقع يُلاحق الأفراد في كل وقت وفي كل مكان أثناء الساعات العديدة التي يقضونها كل يوم في مشاهدة التلفاز، وأثناء قيادة السيارات وهم على طرق السفر، وأثناء المعارك الانتخابية السياسية، وغير ذلك كثير. والأثر المميز لهذه الأساليب الإيحائية هو أنها تخلق مناخاً عاماً بين اليقظة والنوم، بين التصديق والتكذيب، وأنها تفقد الإنسان الإحساس بالحقيقة.
وإيقاف سموم الإيحاء الجمعي سيكون له على مجموع المستهلكين أثر انسحابي لا يختلف كثيراً عن الأعراض الانسحابية التي يعرفها المدمنون حين يتوقفون عن تعاطي اﻟﻤﺨدرات.
إريك فروم
من كتاب "الإنسان بين الجوهر والمظهر - أنتملك أم نكون؟"