1- الحديث التافه
إحدى عقبات تعلم فن الوجود (الكينونة) هو الانخراط في الحديث التافه.
ما هي التفاهة (Trivial)؟
إنها تعنى حرفيًا "المكان العام"، وهي عادة ما تشير إلى ضحالة ورتابة ونقص القدرة أو الخصائص الأخلاقية كما يمكن للفرد تعريف كلمة "تافه" بأنه موقف يهتم بظاهر الأمور فحسب، وليس بأسبابها أو بما يتضمنه جوهرها. مثلاً يمكن إطلاق صفة "تافه" على موقف لا يمكنه التمييز بين ما هو جوهري وما هو غير جوهري، وكذلك ينطبق إطلاق الصفة على موقفٍ سواه يميل إلى جمع الصفتين معًا. كما يمكننا أن نضيف إلى ما سبق أن التفاهة تنتج من اللا حياة، اللا استجابة، الموت، أو من أي اهتمام لا يتعلق بمهمة الإنسان الأساسية وهي الولادة الكاملة.
وبهذا المعنى فإن بوذا قد عرّف الكلام التافه بقوله:
إذا انحدر فكر الراهب إلى الكلام، فيجب عليه التفكير بما يلي: "لن أتورط بهذا الحديث التافه، إنه مبتذل، دنيوي وليس مفيدًا، كما أن هذا لن يوصلني إلى الحياد الكامل (detachment) والموضوعية والسكون والطمأنينة والمعرفة المباشرة والتنوّر والنيرفانا، لن أنخرط في حديث عن الأشياء السخيفة مثل الثرثرة عما يفعله الملوك واللصوص والوزراء والجيوش والمجاعات والحروب، حول الأكل والشرب والملبس والمسكن، وحول التتويج، والعطور، والأقارب، والسيارات، والقرى، والمدن، والبلدات، والبلدان، وحول النساء والخمر، والثرثرة في الطرقات، والكلام الحسن عن الأجداد، وحول متخلف التفاهات.
إن هذه القائمة مؤثرة للغاية لأنها تتناقل نكهة التفاهة. كم من مليون محادثة جرت في السنوات القليلة الماضية عن الأوبئة، فيتنام، الشرق الأدنى، ووترجيت، الانتخابات، إلخ. ولكن من النادر أن تجاوزت هذه الأحاديث البديهيات –مثل وجهة نظر الحزبي المتشدد- وتغلغلت في الجذور والأسباب وراء الظواهر التي تقوم بمناقشتها. يميل المرء إلى الاعتقاد بأن معظم الناس يحتاجون إلى الحروب، الجرائم، الفضائح وحتى المرض ليجدوا مادة لأحاديثهم، وبالتالي يتمكنوا من الحصول على ما يدفعهم إلى التواصل، حتى إن تم ذلك بواسطة حديث تافه. وهل يمكن أن تكون أحاديث الناس إلا تافهة عندما يتحولون إلى سلع؟ ألن تتحدث السلع في الأسواق، طبعًا إن كان بمقدورها الكلام، عن الزبائن وعن تصرفات البائعين، وعن آمالها بأن تصبح أغلى ثمنًا وأنها ستحبط عندما تكسد على رفوف العرض؟
قد يكون الحديث الأكثر تفاهة هو حديث الشخص عن نفسه، حيث يدور هذا الأبدي عن الصحة والمرض والأولاد والسفر والنجاحات وماذا فعل الشخص، بالإضافة إلى مليون تفصيل من التفاصيل اليومية التي تبدو أنها هامة. وبما أن المرء لا يمكنه الحديث عن نفسه طيلة الوقت دون أن يصبح مزعجًا، فإن عليه أن يتبادل الأفضلية مع المستمع، وذلك بإعلان جاهزيته للاستماع إلى أحاديث الآخرين عن أنفسهم. إن اللقاءات الاجتماعية الخاصة بين الأفراد (وغالبًا ما تكون لقاءات مختلف المجموعات والجماعات) عبارة عن أسواق صغيرة، يتبادل فيها المرء حاجته الذاتية إلى الحديث عن شخصه مع رغبة الآخر في الاستماع إلى حاجات الآخرين الذين يبحثون عن فرصة مشابهة. ويحترم معظم الناس حالة التبادل هذه، أما من لا يفعل، ويريد أن يتحدث عن نفسه أكثر مما هو جاهز للاستماع إلى الآخرين فهو "غشاش" وعليه أن يختار شراكة مع من هو أقل مرتبة منه ليحتمله.
يصعب على المرء تقدير حاجة الناس إلى الكلام عن أنفسهم، وإلى أن يجدوا من يستمع إليهم. وإذا كانت هذه الحاجة موجودة فقط لدى النرجسيين الذين لا يشعرون بالكمال إلا داخل أنفسهم، فمن السهل فهمها، لكن هذه الحاجة موجودة لدى الشخص العادي، وذلك لأسباب مختلفة ومتأصلة في ثقافتنا. إن الإنسان المعاصر هو إنسان جماهيري، وهو "اجتماعي" بجدارة، لكنه في الوقت نفسه وحيد للغاية. وقد عبّر دايفيد ريزمان عن هذه الظاهرة بشكل لافت للنظر في عنوان كتابه "الحشد المتوحد" (New York Free Press 1961). لقد أصبح الإنسان المعاصر أكثر نأيًا عن الآخرين، وهو يواجه معضلة: فهو خائف من التواصل عن قرب مع الآخر، وهو خائف بالقدر نفسه من الوحدة وعدم وجود أحد يتواصل معه. وهنا تتبلور وظيفة المحادثات التافهة في الإجابة على السؤال التالي: كيف أبقى وحدي دون أن أكون وحيدًا؟"
لقد أصبح الكلام إدمانًا: "أنا أتكلم إذن أنا موجود، أنا أتكلم إذن أنا لستُ نكرة، أنا أتكلم إذن لدي ماضٍ، وعمل، وأسرة. وبحديثي عن كل ما سبق فأنا أؤكد على ذاتي. إلا أنني أحتاج إلى من يستمع إلي، فإذا كنتُ سأتحدث إلى نفسي فقط فسأفقد عقلي". إن وجود المستمع قبالة المتحدث يُنتج لديه وهم الحوار، بينما في الحقيقة هو يؤدي مونولوجًا لا أكثر.
ومن ناحية أخرى فإن الصحبة السيئة ليست صحبة الأشخاص التافهين فحسب، بل هي صحبة الأشرار والساديين والأشخاص المعادين للحياة. لكن، قد يسأل المرء: ما السبب الكامن وراء صحبتهم السيئة؟ هل هو خطر ناجم عن صحبة الأشخاص السيئين، ما لم يحاولوا أذية المرء بشكلٍ أو بآخر؟
للإجابة على هذا السؤال، من الضروري التعرف على قانون العلاقات البشرية: ليس هناك من اتصال بين اثنين من الكائنات البشرية لا يؤثر في الكائنين معًا، كما أنه ليس هناك من محادثة بين شخصين، ويمكننا هنا استثناء الأحاديث العفوية الطارئة، يبقى بعدها أحد الشخصين أو كلاهما كما كان قبلها –وعلى الرغم من كون التغيير طفيفًا أحيانًا، ولا يظهر مباشرةً، إلا أنه يظهر بتأثير تراكمي عند تكرار هذا النوع من اللقاءات.
حتى اللقاءات العابرة تترك أثرًا هامًا، فمن منا لم يتأثر على الأقل مرة واحدة في حياته برقة وجه إنسان لمحه، لكنه لم يتحدث معه؟ من منا لم يعرف الرعب الذي نقله إليه وجه ملئ بالشر ولم يتعرض إلهي لأكثر من لمحة؟ سيتذكر الكثيرون مثل هذه الوجوه والآثار التي تركتها عليهم لسنواتٍ طويلة، أو حتى طيلة حياتهم. ومن منا لم يشعر بالبهجة جراء لقائه بشخص معين، أو بأنه أكثر حيوية وفي مزاج أفضل، وفي بعض الأحيان ربما تتملكه شجاعة مفاجئة ورؤية جديدة، حتى لو لم يكن محتوى المحادثة التي جرت بينهما ذات أثر كبير. ومن ناحية أخرى، فإن آخرين قد مروا بحالة إحباط وإرهاق وضياع بعد لقائهم بأشخاص معينين، لكنهم لم يتمكنوا من معرفة محتوى المحادثة التي تسببت برد فعلهم هذا. وأنا لا أتحدث هنا عن تأثير أشخاص نحبهم، أو نُعجب بهم، أو نخاف منهم أو أو..، وإن كان من الواضح أن تأثير هؤلاء علينا قوي إذ يترك كل ما يقولونه أو يتصرفونه مع شخص واقع تحت سحرهم، عليه أثرًا، بل ما أتحدث عنه هنا هو تأثير بعض الأشخاص على أشخاص آخرين ليس بينهم رابطة خاصة.
تقودنا كل الاعتبارات السابقة إلى أنه يُفضل تجنب الصحبة التافهة والشريرة بالكامل، ما لم يكن بإمكان المرء التوكيد المطلق على ذاته، ما يجعل الموقف الآخر (والتافه أو الشرير) ضعيفًا.
وبنفس القدر الذي يفرض على المرء الصحبة السيئة، فإن عليه تجنب الخداع: إذ يجب أن يرى المرء النفاق وراء قناع الصداقة، والأذى وراء قناع الشكوى الدائم عن عدم إمكانية تحقيق السعادة، والنرجسية وراء الشخصية الساحرة. وهذا لا ينبغي للمرء أن يتصرف وكأنه/كأنها مأخوذ بمظهر الآخر المخادع –فقط ليتجنب إقحام نفسه في حالة خداع ذاتية معينة. لا يحتاج المرء إلى أن يتحدث إلى الآخرين عما يراه، وفي الوقت نفسه، عليه ألا يحاول إقناعهم أنه أعمى، لقد عرّف الفيلسوف اليهودي العظيم موسى مايمونيديس (القرن الثاني عشر) أثر الصحبة السيئة، بتقديمه هذا التعريف المتطرف: "إذا كنت تعيش في بلد سكانه من الأشرار، تجنب صحبتهم، وإذا حاولوا إجبارك على التعاون معهم غادر البلد، حتى لو اضطررت للذهاب إلى الصحراء".
لماذا نهتم إذا لم يفهم الآخرون تصرفاتنا؟ إن مطلبهم بأن نفعل فقط ما يمكنهم فهمه هو محاولة لإملاء أفعالنا علينا حتى لو عنى هذا أننا "غير اجتماعيين" أو "غير عقلانيين" من وجهة نظرهم. وغالبًا ما يستاؤون من حريتنا وشجاعتنا على أن نكون ذاتنا. نحن لسنا مضطرين إلى تقديم إيضاحات عن أنفسنا أو محاسبتها أمام أحد، طالما أن أفعالنا لا تؤذيهم أو تنتهكهم. كم دُمرت أرواح بسبب هذه الحاجة إلى "التفسير" والتي تتضمن عادة أن يكون هذا التفسير "مفهومًا" للآخرين، أي: أن يحصل على موافقتهم. دعهم يحكمون على أفعالك، ومن أفعالك تظهر نواياك الحقيقية، لكن عليك أن تعرف أن على الإنسان الحر أن يقدم تفسيرات لذاته فقط –أي لعقله ولضميره- وللقلة ممن يمكن أن يكون لديهم حق مبرر، ليقدم التفسيرات لهم.
2- مبدأ "لا جهد ولا ألم"
إن العائق الآخر أمام تعلم فن الوجود (الكينونة) هو مبدأ "لا جهد ولا ألم". إن الناس مقتنعون أن إنجاز كل شئ، بما في ذلك أكثر المهام صعوبة، يجب أن يتم دون بذل جهد، أو ببذل أقل قدر ممكن من الجهد، وهذا المبدأ شائع بكثرة، حتى أنه لا يحتاج إلى أن أُفرد له تفسيرًا مطولاً.
لنأخذ مثالاً على ذلك جميع طرائقنا للتعليم، فنحن نحث الشباب، بل نحن نتوسل إليهم، ليتعلموا. وتحت عناوين مثل "التعبير عن الذات" و"الحرية" و"معاداة الإنجاز"، نقدم إليهم كافة المناهج بأسهل الطرق الممكنة وأكثرها إمتاعًا. والاستثناء الوحيد لهذه الحالة هو العلوم الطبيعية، حيث يكون الإنجاز الحقيقي مطلبًا أساسيًا، ولا يستطيع المرء التمكن من هذا العلم "بسهولة". لكن فيما يتعلق بالعلوم الاجتماعية والفن والأدب في المدارس الإعدادية والثانوية، فإن الميول الموجودة هي: سهّل عليهم الأمر، ولا تجعله معقدًا! وقد صار يُطلق على البروفيسور الذي يصر على العمل الدؤوب اسم "السلطوي" أو عتيق الطراز.
ليس من الصعب معرفة أسباب هذه الميول في يومنا هذا، إذ إن الحاجة المتزايدة إلى التقنيين ولأنصاف المتعلمين الذين يعملون في الصناعات الخدمية، بدءًا من الموظف ووصولاً إلى التنفيذي، تتطلب أناسًا بمعرفة سطحية كالتي تزودهم بها جامعاتنا. ثانيًا: إن نظامنا الاجتماعي بأكمله يعتمد على الاعتقاد الزائف بأن لا أحد مجبر على فعل ما يفعله، إنما يجب أن يفعله. كما يتوفر هذا الاستبدال للسلطة الصريحة بأخرى غامضة توجد تعابيرها في كافة مجالات الحياة: فالسلطة ملتبسة بالخضوع، ويُستحدث الخضوع بطرق مسوغات الجماعة. وكنتيجة لذلك فإن الدراسة أيضًا يجب أن تكمون ممتعة وليست إجبارية، وكذلك الأمر فيالمجالات التي هي بحاجة إلى حد أدنى من المعرفة الجادة.
إن فكرة التعلم دون بذل جهد لها أصول أخرى: فالتطور التقني قلّص حقًا من كمية الطاقة الجسدية اللازمة لإنتاج البضائع. ففي الثورة الصناعية الأولى استُبدلت الطاقة الجسدية للبشر والحيوانات بالطاقة الميكانيكية للآلة، وفي الثورة الصناعية الثانية استُبدل التفكير والتذكّر بالآت مختلفة أكبرها هو جهاز الكمبيوتر. ثم اختُبر هذا التحرر من العمل المجهد على أنه أحد عطاءات "تطور" العصر، وعلى أنه هدية، على اعتبار أن الطاقة البشرية قد تحررت ليتم الاستفادة منها في مهام أخرى أكثر إبداعًا ورقيًا. ولكن ليست هذه هي الحالة، فالتحرر من الآلة أنتج كسل مطلق نموذجي ضمن رعب كامل من القيام بأي جهد حقيقي. وصارت الحياة الجيدة هي الحياة التي لا نبذل فيها جهدًا، وتُعتبر الحاجة إلى بذل جهود كبيرة، كما كانت من قبل، من بقايا العصور الوسطى، وهكذا فإن الفرد يبذل قصارى جهده فقط إذا كان مجبرًا حقًا على فعل ذلك، وليس طوعًا. فأنت تستقل سيارتك للوصول إلى المتجر المجاور على بعد مبنيين لتتجنب "جهد" المشي، والموظف في المتجر يجمع ثلاثة أرقام على الآلة الحاسبة ليريح عقله من عناء الحساب.
وتبعًا لمبدأ: "لا جهد"، هنالك مبدأ: "لا ألم"، وهو أيضًا ذو صفة رهابية: إذ يجب أن تتجنب الشعور بالألم والمعاناة الجسدية والعقلية في مطلق الأحوال. وتدّعي فترة التطور المعاصر بأنها توصل الإنسان إلى أرض الميعاد لـ"الوجود / الكينونة بلا ألم". والحق أن الناس طوّرت نوعًا من رهاب مزمن من الألم، والمقصود هنا هو الألم بمعناه العريض، وليس مجرد الألم الجسدي أو العقلي. إنه لمن المؤلم أن نتدرّب على السلم الموسيقي لساعات طويلة يوميًا، كما هو الحال عندما ندرس مادة غير مهمة، إنما ضرورية للحصول على المعرفة. ومن المؤلم أيضًا ان يدرس المرء عندما يرغب بلقاء حبيبته أو يرغب فقط بالمشي، أو بالمرح مع أصدقائه. هذه حقًا آلام صغيرة، وبكل أسف يجب أن يكون المرء راغبًا بقبولها بسعادة ودون غيظ إذا كان يريد أن يتعلم ما هو جوهري، ويريد أن يصحح أي خطأ في منظومة قيمه. وفيما يتعلق بمعاناة إضافية قاسية، فلابد من التنويه إلى أن السعادة هي غيض من فيض، والمعاناة هي بعض مما يمر به البشر، والتضامن بين البشر هو أحد أقوى أسس تجربة مشاركة معاناة الفرد مع معاناة الجماعة.
3- مناهضة السلطوية
العقبة الأخرى أمام فن الوجود هي الرهاب من كل ما هو سلطوي، والسلطوي هنا هو كل ما يمكن وصفه بأنه "قسري (جبري)" على الفرد، ويتطلب منه الانضباط. هذا الرهاب هو حالة يُعبر عنها الوعي على أنها رغبة بالحرية، وتحديدًا بالحرية الكاملة لاتخاذ القرار. ولهذه الحرية الكاملة أصول مختلفة (لقد أعطى جان بول سارتر وعيًا فلسفيًا لهذا المفهوم). فقبل كل شئ هنالك جذر اقتصادي-اجتماعي لمفهوم الحرية الكاملة، فالاقتصاد الرأسمالي مبني على مبدأ الحرية، حيث تتم عمليات البيع والشراء دون عوائق أو قيود، وهناك هامش واسع من حرية التصرف دون أي تحفظ أخلاقي أو مبدأ سياسي – باستثناء الأشياء التي يحرّمها القانون، والتي تهدف عمومًا إلى رد الأذية عن الآخرين. إنما، وعلى الرغم من أن حرية البرجوازية ذات جذور اقتصادية إلى حد كبير، لكننا لا نقدر على استيعاب السمة العاطفية للرغبة بالتحرر، ما لم نأخذ بعين الاعتبار أن هذه الرغبة ذات جذور ضاربة ضمن رغبة وجودية قوية: وهي الحاجة إلى تحقيق الذات، لا أن نكون وسيلة. لتحقيق غايات الآخرين.
شيئًا فشيئًا بدأت هذه الرغبة الوجودية للتحرر تُقمع، لكن مع وجود الرغبة بحماية ملكية الفرد، فإن الرغبة الأصيلة إلى الحرية أصبحت مجرد أيديولوجية. وإضافة إلى ذلك هنالك تطور قمعي ظاهري تأسس في العقود الأخيرة، ومع هذا القمع تراجعت السلطوية بشكل ملحوظ في الديمقراطيات الغربية، كما تراجعت أيضًا حرية الفرد الفعلية. وهنا، لم تتغير حقيقة التبعية بل صورتها فسحب. لقد مارست الفئات الحاكمة في القرن التاسع عشر سلطة مباشرة وصريحة: الملوك، الحكومات، القساوسة، المدراء، الأهل، المدرسون. ومع تغير وسائل الإنتاج، وبخاصة الدور المتعاظم للآلة، ومع الانتقال من فكرة العمل المضني والتوفير إلى مفهوم "الافتراضي" (أي السعادة)، فإن التبعية الشخصية العلنية إلى شخص آخر استبدلت بالخضوع إلى المؤسسة: قيد لا نهائي، مغامرات كبرى، حكومات أقنعت الفرد بأنه حر وبأن كل شئ يتم فعله هو لمصلحته، وأنه، أي الشعب، هو القائد الحقيقي. لكن، وبسبب القوة الهائلة وحجم بيروقراطية الدولة، الجيش، الصناعات، استبدال مدراء أشخاص ببيروقراطية مبنية للمجهول، فإن الفرد أصبح أكثر عجزًا مما كان عليه من قبل، لكنه ليس مدركًا لعجزه.
وليحمي الفرد نفسه أما هذا الوعي الاجتماعي والفردي المزعج، بات عليه الآن بناء حريته الشخصية المثالية والمطلقة وغير المقيدة. إن إحدى التجليات لهذه الحرية كانت الحرية الجنسية. فقد حاول الكثير من الشباب وذويهم، ممن لا يزالون في منتصف العمر، الوصول إلى المفهوم للحرية برفضهم لأي قيود في فضاء العلاقات الجنسية.
ومع التقدير الناجم عن أهمية "الثورة الجنسية" التاريخية، لا يمكن للمرء تجاهل "الأعراض الجانبية" الأخرى، والأقل إيجابية، لتلك الثورة التي حاولت التأسيس لحرية النزوة بدلاً من التأسيس لحرية الإرادة.
ما الفرق بين حرية النزوة وحرية الإرادة؟
إن النزوة هي أية رغبة تخرج عفويًا، ودون أية صلة بنيوية مع الشخصية الكاملة وأهدافها (شكل الجيل الشاب جزء من النموذج العادي). واليوم، وحتى يتم تجاهل الرغبة لابد من تحقيقها، بما في ذلك أكثر الرغبات جنونًا أو لحظية، إذ أن مجرد التفكير بتأجيل تلك الرغبة يُعتبر انتهاكًا لحرية الفرد. فإذا التقى رجل بامرأة مصادفةً، وكان لديهما فائض من الوقت، ويشعران بالضجر، فسيفكر الرجل، بكل بساطة، أن يمارس الجنس مع هذه المرأة، وليس بالضرورة لأن هذه المرأة بالتحديد قد جذبته، أو بسبب حاجاته الجنسية المتأججة، بل بسبب حاجة قهرية لتنفيذ ما يتخيل أنه أمنية. أو فلنقل إن هنالك مراهقًا وحيدًا واستقلاليًا يمشى بمفرده في الطريق، وفجأة تخطر له فكرة: إنه سيشعر بالإثارة إذا ما طعن ممرضة شابة بتمر بجانبه في الطريق، لذلك يقوم بطعنها حتى الموت. وتلك بعض الأمثلة عن كيفية إطلاق الناس العنان لنزواتهم. من المؤكد أن الفعلين السابقين: فعل ممارسة الجنس وفعل القتل يختلفان بالكامل، لكن ما قام بفعله الشخصان هو نزوة، وهنالك الكثير من الأمثلة التي تُذكر ما بين هذين المثالين المتطرفين، حيث يمكن لأي كان التأكد بنفسه من هذا.
إن المعيار العام للنزوة هو أنها تجيب على السؤال: "ولم لا أفعل ذلك؟"وليس على السؤال: "لماذا أفعل ذلك؟"، وأنا على ثقة بأن أي امرئٍ يراقب السلوك بدقة سيكتشف التكرار غير العادي لاستهلاك الناس لإجابتهم على السؤال فيما إذا كانوا يفضلون هذا أم ذاك بـ "ولم لا؟". إنّ "لم لا؟" هذه تتضمن أن المرء يقوم بفعل ما لأنه، وببساطة، لا يوجد أي سبب يمنعه من القيام به، وليس لأن هنالك منطقًا لفعله، وهذا بالتالي يتضمن أنه نزوة وليس تجليًا للرغبة. إن اتباع النزوة هو، في الواقع، نتيجة لسلبية داخلية عميقة ممزوجة برغبة لتجنب الضجر. إن الرغبة مبنية على الفعليّة والنزوة على السلبية.
من أكثر الأماكن أهمية للعب دور الحرية الفردية، هي الأماكن الاستهلاكية. ففي سوق السيارات وفي السوبر ماركت: الزبون هو الملك، حيث تتنافس مجموعة كبيرة من العلامات التجارية أشهرًا عديدة على شاشة التليفزيون تحاول جذب الزبون، وعندما يبدأ مرحلة الشراء فهو يبدو إنسانًا قويًا، متمتعًا بالحرية الكاملة، وبإمكانه الاختيار ما بين مساحيق الصابون "أ" و"ب" و"ج" التي يبحث عنها كما يفعل المرشحون السياسيون قبل يوم الانتخابات. إن الزبون –الملك غير واعٍ بأن ليس له أثر على ما يُعرض عليه، وأن اختياره المزعوم ليس "اختيارًا" وبما أن الماركات المختلفة متشابهة أساسًا، بل ويتم تصنيعها في المؤسسة نفسها في بعض الأحيان.
هنا يمكننا صياغة قانون فيزيولوجي عام: كلما تعاظم الشعور بالعجز وبنقص الإرادة الأصيلة، كلما تنامى الخضوع أو الرغبة المهووسة بإرضاء نزوة المرء والإصرار على الاختيار.
ولتلخيص ما سبق: فإن العقلنة الأساسية لهوس الاختيار تكمن في المرحلة ذات الطابع الطفولي الذي لا ينتهي.
وأخيرًا فإن الخوف من السلطوية يخدم عقلنة نوع من أنواع الجنون والرغبة للهرب من الواقع. إن الواقع يفرض قوانينه على الإنسان، قوانين لا يمكنه الهرب منها إلا في أحلامه أو في حالة من الغيبوبة أو الجنون.
إريك فروم
من كتاب: فن الوجود