تنتشر كثيراً في عالمنا اليوم ظاهرة العذاب الفكريّ الذي يعود جزءُ منه، للأسف إلي تفكير خاطئ يوهم بأننا مدعوّون إلى مساعدة بعضنا بعضا على إزالة وحدتنا. فعندما تخرجنا وحدتنا من أنفسنا وتقودنا إلى الارتماء بين ذراعي الأصدقاء القريبين منا، نكون قد أرغمنا أنفسنا على خوض علاقات مؤلمة وصداقات متعبة ومعانقات مخنقة. وعندما نترقّب اللحظات أو الأماكن التي فيها يغيب كل ألم وشعور بالفراق ويتحول كلَ تململ بشريَ إلى سلام داخلي، نكون بذلك كأننا ننتظر عالمًا خيالياً. حقاً، إن توقنا العميق لتوحيد أنفسنا واكتمال ذواتنا لا يُشبَع أبداً من خلال أيّ إنسان، سواء صديقا كان أم حبيباً، زوجاً أم زوجة، جماعة أم تجّمعاً بشرياً. وعندما نحمّل الآخرين عبء توقّعاتنا شبه الإلهّية، التي غالباً ما نعيها جزئياً، نكون قد قمعنا إمكانياتنا في التعبير الحّر عن الصداقة والحبّ، وآثرنا بالمقابل مشاعر النقص والضعف. إذ لا تنمو الصداقة والمحبّة بين شخصين إذا التصق أحدهما بالآخر بتلهف زائد؛ فالصداقة والمحبّة تتطلبان الفسحة اللازمة للتحرك من شخص إلى شخص، وذلك بلطف وبدون تخوَّف.
وطالما أنّ شعورنا بالوحدة هو الذي يجمعنا بالآخر، على أمل التوصل معه إلى إزالة الوحدة، فإننا بذلك نؤنب بعضنا بعضاً بسبب رغباتنا غير المحقّقة واللاحقيقية في توحيد أنفسنا والتوصّل إلى الهدوء الداخليّ والاتحاد غير المنقطع بالآخرين.
يحزننا حقاً أن نلاحظ بعضهم يعانون غالباً الوحدة المتزايدة، وذلك بسبب فقدانهم المودّة في محيط عائلتهم الحميمىّ، فيبحثون عن الحل الأخير لإزالة آلامهم ويتطلعون بلهفة إلى صديق أو حبيب أو إلى جماعة جديدة كتوقهم إلى المسيح المخلص. فبالرغم من معرفتهم الأكيدة بأنهم يخدعون أنفسهم، لا تفتأ قلوبهم تخاطبهم: "قد نجد هذه المّرة ما كنا نبحث عنه بمعرفة أو بدونها". يدهشنا حقاً أن نرى رجالاً ونساءً، سبق لهم أن عاشوا علاقات مؤلمة مع والديهم وأخوتهم وأخواتهم يزجّوا بأنفسهم كالعميان في علاقات بعيدة المدى، متأملين تغيير وضعهم المستقبليّ تغييراً تاماً. ثم نتساءل عن المشاحنات والخلافات الكثيرة والتهم والاتهامات المضادة ولحظات الغضب المتفجرة أو المكبوتة والأحساد غير الصريحة والسرية، التي هي جميعها غالباً ما تكون جزءاً لا يتجزأ من هذه العلاقات المقهورة. ترى ألا تجد هذه الأمور جذورها في الإدعاء الخاطئ الشائع بأنّ كل وأحد منا ملزم بإزالة ما يشعر به الآخرون من الوحدة؟
في الواقع ليس هيناً أبداً أن نصدق ما سبق، فغالباً ما نذهب حاملين مشاكلنا إلى رجال ونساء لطفاء متأملين سرياً أنهم سيرفعون عنا حملنا ويحررونا من وحدتنا. وعندما نعود ثانية إلى أنفسنا كثيراً ما نجد أن خدمة هؤلاء لنا ما هي إلا إسعاف مؤقت ويؤدي إلى عودة الآلام ذاتها بوطأة أشد.
قد اختبرت مراراً في حياتي إحساساً قد يبدو غريباً، وذلك بأني أقرب إلى أصدقائي في غيابهم منه في حضورهم. فكانت تعتريني عند غيابهم رغبة قويّة في لقائهم ثانية، ولكنني لم استطع التغلب على شعوري بخيبة الأمل عند لقائنا.
فحضورنا الجسميّ بعضنا للآخر كان يمنعنا من التلاقي الكامل، إذ كنا نشعر كأنّ قيمتنا، بعضنا لبعض، أكبر ممّا يمكننا التعبير عنه، وكأنّ شخصيّاتنا الفردية كانت تقف جداراً تخفي وراءه كياننا الشخصيّ في عمقه. ومن ناحية أخرى، فإن البعد الذي خلقه غياب مؤقت لهم ساعدني على أن أرى ما وراء شخصياتهم وكشف لي عن أساس محبتنا بعضنا للآخر وسر عظمتهم وجمالهم الشخصيّ.
وفي مجال الصداقة كتب جبران خليل جبران: "إذا افترقت عن صديقك فلا تحزن، لأنّ ما أحببته فيه فوق كلّ شيء آخر، ينجلي لك أكثر فأكثر في بعده عنك، مثلما ينجلي الجبل من السهل لمن شاء أن يتسلّقه".
إنّ الحياة برفقة الأصدقاء هي مصدر فرح فريد، لكن حياتنا تكون يائسة إذا كانت رفقة الأصدقاء هي الهدف الذي نسعى إليه. والفريق المتجانس الذي يعمل أعضاؤه بقلب واحد وعقل واحد هو بحّق عطية من السماء، لكننا نكون تعساء إذا كان شعورنا بقيمتنا يستند إلى فريق كهذا. وحسن أن نتسّلم الرسائل من الأصدقاء، لكن بدونها علينا أن نكون قادرين على العيش سعداء، والزيارات هي كالهدايا التي لها قيمتها، لكن بدونها علينا ألا نقع في شرك المزاجية الكئيبة. والمكالمات الهاتفية لمجرد الترحيب قد تملأنا امتناناً، لكن عندما نسعى إليها كوسائل ضرورية لتهدئة مخاوفنا من أن نـُترك منعزلين، فسرعان ما نصبح ضحايا عدم رضانا. فنحن في حالة البحث الدائم عن الجماعة التي يمكنها أن تشعرنا بالانتماء، لكن من المهم لنا أن ندرك في ما يخص رغباتنا المشروعة، أنّ الوجود معاً في محل واحد وبيت واحد ومدينة واحدة وبلاد واحدة ما هو إلا أمر ثانوي. ذلك أنّ الصداقة والجمع هما قبل كل شيء من المزايا العميقة في الإنسان التي تجعل المعاشرة الإنسانية تعبيراً حيوياً عن شيء أكبر. ولا يمكننا أبداً أن نطالب بهما ونخطط لهما وننظمهما، بل يمكننا أن نهيئ لهما المكان في أعماق نفوسنا حيث نستطيع أن نستقبلهما استقبال العطايا.
إن هذا الإحساس الباطني بالصداقة والجمع يحررنا لنعيش حياتنا البشرية، حتى لو كنا منعزلين في غرفة بمفردنا، إذ من الضروري ألا يُبعَد أحد عن عزلتنا. ويدعنا هذا الإحساس نسافر من دون مشقة مسافات شاسعة، وذلك لأنّ الذين بدون خوف يشركون الآخرين في عزلتهم تصبح كل الأراضي الممتدة بينهم مقدسة.
على هذا، يمكن لوحدتنا أن تتطور إلى خلوة. فقد نمضي أياماً وأسابيع وحتى شهوراً وسنين ونبقى أثناءها تحت وطأة شعورنا بالوحدة، إذ يصعب علينا الاعتقاد أنّ خلوة القلب تلوح في أفقنا. لكن إذا ما شعرنا مرّة واحدة بمعنى هذه الخلوة، فلن نتوقف عن البحث عنها. وإذا تذوقنا مّرة واحدة هذه الخلوة، فيمكننا أن نعيش حياة جديدة، ويمكننا أن نكون متحرّرين من الارتباطات المزيّفة، ومرتبطين بعضنا ببعض وبالله بنحو جديد مدهش.
الأب: هنري نووين
من كتاب: "السعي إلى الأعماق"