قليلة هي الموضوعات التي ألهمت الشعراء والأدباء والمؤلفين وكتاب الأغاني أكثر مما فعله هذا السؤال العتيق: لماذا يبدو أن الرجال والنساء لا يفهم أحدهما الآخر؟ لعل عدد الأغاني التي تصف سوء التواصل القائم بين الذكور والإناث يفوق الحصر؛ ذلك إن نظرنا إلى أغنيات موسيقى "الروك آند روك" فقط.
ولننظر مثلاً إلى كلمات أغنية "سوء فهم" لفريق "جينسيس":
لابد أن هناك سوء فهم ما
لابد أن هناك خطأ ما
انتظرت تحت المطر لساعات
لكنك تأخرت
ليس من عادتي أن أقول الشئ الصحيح
لكن كان بإمكانك الاتصال لإعلامي بالأمر
بالطبع لم يقتصر الأمر على فرق موسيقى الروك فقط، فقد عبر كثير من المنظرين المشاهير في مجال الشخصية عن سخطهم من فشل جهودهم لفهم الجنس الآخر. ولا أدل على ذلك من أن أعظم خبراء السلوك الإنساني سيجموند فرويد أخبر ماري بونابرت (المحللة النفسية وحفيدة شقيق نابليون بونابرت):
السؤال الكبير الذي لم يجب عنه أحد قط، والذي لا أزال بعد غير قادر على الإجابة عنه، على الرغم من بحثي ثلاثين عامًا في خبايا النفس الأنثوية هو: "ما الذي تريده المرأة؟" (فرويد، منقول في كتاب جونز، 1955).
بالطبع، قد يخالط المرء شئ من الشك ان العديد من دراسي الشخصيات من السيدات يحملن وجهات نظر مشابهة لما يحمله الرجال.
إن الاعتقاد أن الرجال والنساء يتواصلون بأساليب مختلفة تمام الاختلاف، مما يؤدي إلى حالات سوء فهم دائمة، هو اعتقاد راسخ في الموروث الشعبي. فالعديد من المسلسلات التليفزيونية وأفلام الكرتون مثل: "عرسان شهر العسل" و"عائلة فلينستونز" وكذلك "عائلة سيمسونز" و"ملك التل" اللذان عرضا في وقت أحدث، تبرز على نحو مكثف اختلافات التواصل بين الأزواج والزوجات، وهي اختلافات تكون غالبًا ذات طبيعة ساخرة على نحو غير مقصود. تجد الرجال في هذه الأعمال يتحدثون عن الرياضة والطعام والصيد والمضاربة فيما تتحدث النساء عن المشاعر والصداقات والعلاقات والحياة المنزلية. بالإضافة إلى ذلك، تصوِّر هذه الأعمال عادةً الرجال على أنهم أقل فهمًا في الأمور العاطفية أو – كي لا نبالغ في الوصف – أقل اهتمامًا بها عن النساء.
وتشير الدراسات إلى أن طلاب الجامعة جميعًا يرون أن الرجال والنساء يختلفون في أنماط تواصلهم. وعلى وجه الخصوص، يرى هؤلاء أن النساء أكثر انخراطًا في الثرثرة من الرجال وأكثر مهارة منهم في ملاحظة التلميحات الخفية غير المنطوقة أثناء المحادثات (سويم، 1994).
بالإضافة إلى ذلك، إذا قرأنا كثيرًا من المكاتبات الحالية في علم النفس الشعبي فأغلب الظن أنه قد يغرينا الانتهاء إلى أن الرجال والنساء لسيوا فقط أناسًا مختلفين، بل نوعين مختلفين تمامًا من الكائنات. ويؤكد كتاب "أنت لا تفهم الأمر فحسب" (1991) لعالمة اللغويات البريطانية ديبورا تانين هذا الرأي عن طرق القول باختلاف أنماط الرجال والنساء في التواصل في النوع لا في الدرجة. وتجدر الإشارة إلى أن هذا القول بُنِيَ على ملاحظات شخصية وغير رسمية. تقول تانين: "تتحدث النساء وتسمع لغة للتواصل والألفة، ويتحدث الرجال ويسمعون لغة المكانة والاستقلالية." (ص 42).
بعد ذلك جاء جون جراي – أستاذ علم النفس الشعبي الأمريكي – ليدفع هذا الرأي خطوة إلى الأمام ويشبه الرجال والسيدات مجازًا بمخلوقات من كوكبين مختلفين. وقد عرض جراي لذلك في سلسلة كتب "المريخ والزهرة" التي تُصنف ضمن كتب مساعدة الذات التي حققت نجاحًا هائًلا، بدءًا بكتاب "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة" (1992)، مرورًا بمجموعة من الكتب الأخرى ذات الصلة التي تشمل كتاب "المريخ والزهرة في غرفة النوم" (1996) وكتاب "المريخ والزهرة في موعد" (1999) وكتاب "المريخ والزهرة في العمل" (2001) وكتاب "أسباب اختلاف المريخ والزهرة" (2008)، وأيد الرأي المتطرف القائل إن لكل من الرجال والنساء أنماطًا مختلفة تمامًا في التعبير عن احتياجاتهم، وهذه الأنماط من الاختلاف الشديد بحيث تسبب سوء فهم مستمر بين الرجال والنساء. كتب جراي (1992) يقول: "لا يختلف الرجال والنساء في طرق تواصلهم فحسب، بل يختلفون في طرق تفكيرهم وشعورهم وفهمهم وردود أفعالهم واستجاباتهم وحبهم واحتياجاتهم وتقديرهم للأمور. يبدو في الغالب أنهم من كوكبين مختلفين، يتحدثون لغتين مختلفتين." (ص 5). ويزعم جراي من بين أشياء أخرى أن لغة النساء تبالغ في الاهتمام بالألفة والتواصل فيما تركز لغة الرجال على الاستقلالية والتنافس (بارنيت وريفرز، 2004؛ دينديا وكاناري، 2006). وبالإضافة إلى ذلك، يقول جراي إنه عندما تغضب النساء يعبرن عن مشاعرهن، في حين يلوذ الرجال إلى "كهوف الكتمان" عندما يشعرون بالضيق.
بيعت 40 مليون نسخة من كتب "المريخ والزهرة" بـ43 لغة. وقد صنفت صحيفة "يو إس أيه توداي" كتاب جراي الصادر عام 1992 واحدًا من بين الكتب الخمسة والعشرين الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين. وطبقًا لأحد التقديرات جاءت كتب جراي في المرتبة الثانية من حيث إقبال الناس على شرائها بعد الكتاب المقدس أثناء فترة التسعينيات من حيث إجمالي المبيعات (http://www.ritaabrams.com/pages/MarsVenus.php) وقد افتتح جراي 25 مركزًا استشاريًّا في أنحاء الولايات المتحدة باسم "مركز المريخ والزهرة الاستشاري"، تهدف جميعها إلى النهوض بمستوى التواصل بين عالمي الرجال والنساء المختلفين، ويمكن للمرء أن يجد على موقع جراي على شبكة الإنترنت تعليمات تمكّن المستخدم من الوصول إلى خدمة مواعدة "المريخ والزهرة" وخط المساعدة الهاتفية (كاميرون، 2007). وفي 2007 حول جراي كتب "المريخ والزهرة" التي صنفها إلى مسرحية موسيقية عرضت في "برودواي".
يمكننا بالإضافة إلى ما سبق أن نطرح تساؤلاً إضافيًّا: ما حجم هذه الاختلافات على فرض أنها موجودة فعلاً؟ للإجابة عن هذا التساؤل، يلجأ علماء النفس غالبًا إلى مقياس الاختلاف الذي يمسى "كوين د" تيمنًا بعالم الإحصاء "جيكوب كوين" (1988) الذي نشر ذلك المقياس. ودون الدخول في التفاصيل الإحصائية المرهقة، يخبرنا مقياس "كوين د" أن حجم الاختلاف بين مجموعتين يتناسب مع حجم التنوع داخل هاتين المجموعتين. وكمعيار تقريبي تعتبر درجة "0,2" على مقياس "كوين د" صغيرة، ودرجة "0,5" متوسطة، ودرجة "0,8" أو أكثر كبيرة. ولتوفير بضعة مقاييس معتمدة من أجل إجراء المقارنة، فإن قيمة "كوين د" لمتوسط الاختلاف بين الرجال والسيدات في سمة مراعاة الضمير (التي يسجل الرجال فيها درجات أعلى) ما يقرب من "0,6" (هايد، 2005)؛ وفي سمة الطول (التي يسجل فيها الرجال درجات أعلى) نحو "1,7" (ليبا، 2005).
(1) "هل تتحدث النساء أكثر من الرجال؟" على الرغم من أن الاعتقاد بأن النساء تثرثرن أكثر من الرجال هو اعتقاد شائع منذ عقود، فقد منحته عالمة النفس "لوان بريزينداين" دعمًا جديدًا في كتابها الأكثر مبيعًا "عقل الأنثى" (2006). تذكر بريزينداين في ذلك الكتاب أن النساء يتحدثن في المتوسط عشرين ألف كلمة في اليوم الواحد مقارنة بسبعة الآف كلمة فقط يتحدثها الرجال، وسرعان ما تناقلت نتائج البرامج الإعلامية هذا الاختلاف على أنه صحيح إلى حد بعيد. مع ذلك، يوضح الفحص المتأني لذلك التقرير أنه مأخوذ كليًّا من كتاب في مساعدة الذات ومصادر أخرى رديئة، وليس من بحث منهجي أكاديمي (كاميرون، 2007؛ ليبرمان، 2006). وقد تخلت بريزينداين عن ذلك الادعاء في طبعة تالية من كتابها. وعندما جمعت عالمة النفس جانيت هايد (2005) بين نتائج 73 من الدراسات المتأنية في تحليل مقارن، وجدت أن إجمالي الدرجة تي تعكس ميلاً أكبر إلى الثرثرة بين النساء عن الرجال على مقياس "كوين د" هي "0,11". وغير أن هذا الاختلاف ضئيل للغاية ولا يكاد يكون ملحوظ في الحياة اليومية. بالمثل، أدلى عالم النفس ماتياس ميهل وزملاؤه بدلوهم فيما يخص قصة الثرثرة المزعومة في دراسة رصدت الأحاديث اليومية لأربعمائة من الطلاب الجامعيين الذين كانوا يحملون أجهزة تسجيل إلكترونية محمولة. وقد وجد العلماء ان النساء والرجال يتحدثون ما يقرب من 16000 كلمة في اليوم الواحد (ميهل فازاير، راميريذ - إيسبارزا، سلاتشر، وبينبيكر، 2007).
(2) "هل تكشف النساء أشياء عن أنفسهن أكثر مما يفعل الرجال؟" على العكس من الفكرة الشائعة أن النساء يتحدثن أكثر من الرجال في الموضوعات ذات الأهمية الخاصة لهن، وجد هياد (2005) أن درجة مقياس "كوين د" هي "0,18" في 205 دراسات. وهذه النتيجة ضعيفة للغاية وتشير إلى أن درجة كشف النساء عن الأمور الخاصة بهن تزيد عن الرجال ولكن بمقدار ضيئل جدًّا.
(3) "هل يقاطع الرجال الآخرين أكثر من النساء؟" نعم، على الرغم من أنه في 53 دراسة تناولت اختلافات النوع في الأحاديث، وجدت هايد ثانية (2005) أن الاختلاف بسيط جدًّا إذ يساوي على مقياس "كوين د" "0,15". ومع ذلك يصعب تفسير ذلك الاختلاف لأن الأبحاث تشير إلى أن مقاطعة الحديث وانتظار الدور في الكلام يعودان جزئيًّا إلى الحالة الاجتماعية. وفي الدراسات التي أجريت على سيدات في مواضع المسؤولية، وجد أن النساء يملن إلى المقاطعة وتوجيه دفة الحديث والتحدث مدة أطول من الرجال (أريز، 1996؛ بارنيت وريفرز، 2004).
(4) "هل النساء أكثر ملاحظة للإيماءات غير المنطوقة من الرجال؟" هنا الإجابة أكثر وضوحًا إلى حد ما، وهي "نعم" مقيدة. فالتحاليل المقارنة التي أجرتها جوديث هول على البالغين (1978، 1984) والتي تختبر قدرة المشاركين على رصد المشاعر الظاهرة على وجوه الآخرين أو التمييز بينها (الحزن والسعادة والغضب والخوف) تشير إلى درجة "0,4" على مقياس "كوين د" وذلك على الرغم من أن التحليل المقارن الذي أجرته إرين ماكلور على الأطفال والمراهقين يشير إلى اختلاف بقيمة أقل هي "0,13" فقط.
الحقيقة إذن أن الرجال والنساء يتواصلون بأساليب بينها اختلاف ضئيل، وعدد قليل للغاية من تلك الاختلافات هو ما يكون كبيرًا بقدر كافٍ يعطيه أهمية ما. مع ذلك، وللأغراض العلمية، تزيد درجة التشابه بين الرجال والنساء في أنما التواصل التي يتبعونها أكثر من درجة الاختلاف، وليس واضحًا إلى أي مدى تعود الاختلافات بينهم، إلى الاختلافات الفطرية بين الجنسين أم إلى اختلافات النوع فيما يتعلق بتفاوت القوة (بارنيت وريفرز، 2004؛ كاميرون، 2007). ففي الدراسات المختلفة، نادرًا ما تتعدى اختلافات النوع في التواصل النطاق الصغير لمقياس "كوين د" (أريز، 1996). لذلك، على الرغم من كتب جون جراي ومراكزه الاستشارية ومسرحياته الموسيقية التي عرضت في برودواي، فالرجال ليسوا من المريخ والنساء لسن من الزهرة. إنما، وكما جاء في كلمات باحثة التواصل كاثرين ديندايا (2006)، قد يكون أكثر دقةً أن نقول إن: "الرجال من داكوتا الشمالية، والنساء من داكوتا الجنوبية." (ص 4).
سكوت ليلينفيلد -ستنيفين جاى لين -جون روشيو- باري يايرستاين
من كتاب " أشهر 50 خرافة في علم النفس"