إن العائلة العربية توجه الفرد منذ الطفولة نحو الأشخاص أكثر مما توجهه نحو الأشياء، فأول تدريب يتلقاه الطفل هو فن المعاشرة: "قل مرحباً لعمو". قل مع السلامة جدو..الخ. وهكذا فإن الطفل ينمو ويكبر دون أن يجد نفسه وحيداً في أي وقت من الأوقات، لأنه دائماً مُحاط بالناس.
فما أن يستيقظ من النوم حتى يجد من يتسلمه ويأتي به ليجتمع بالآخرين، وإذا اتفق له أن يسترسل في النوم فإن والدته تقلق عليه وتقول لأحد من أفراد البيت: "روحي شوفي إذا كان الولد فاق من النوم أو بعد". أما إذا كان مستيقظاً (وهو يلعب فرحاً أو يرقب العالم من حوله في هدوء) فسرعان ما يُؤتى به إلى مكان الاجتماع بحيث تستولي العائلة على حياته الخاصة منذ ذلك الحين.
إن تدريب الطفل على المعاشرة يتم بإشراكه في الحديث وفي الحفلات الاجتماعية، وكلما كبر الطفل ازداد تدريبه لتمثيل الأدوار الاجتماعية. إنه يعتاد قبول نفسه دون انقطاع كفرد من الجماعة، كما يعتاد النظر إلى بقائه وحيداً كأمر غريب أو شاذ. وهكذا يدفع الطفل إلى القبول بحاجة توكيد نفسه في اللقاءات الاجتماعية على أنها أمر طبيعي. وبالتالي فهو يشرع في محاكاة الكبار في إيماءاتهم وطريقة حديثهم، فالطفل الذي يبقى صامتاً يصبح هدفاً للاستهزاء لأنه لا يشترك في الحديث فيقولون عنه: "مسكين ها الولد له تم (فم) ياكل وما له تم يحكي".
وبالرغم من أن الأطفال العرب يشعرون عامة بالخجل أمام الغرباء. فلا عجب أن يعتادوا في خلال نموهم على التهذيب والدماثة والتملق. وبما أنهم يبدءون بالتعامل مع الناس في سن مبكرة سرعان ما يتعلمون فن إرضاء الآخرين ومسايرتهم، بحيث أن الطفل المرضي عنه هو الذي يعرف كيف يتفوه بالقول المناسب أمام الأقوياء والضيوف.
وإذا سلمنا مع لسلي هوايت (Lesile White) "إن المعرفة هي القدرة على التصرف بصورة ملائمة في وضع معين" فإن أثمن معرفة في بيئة كبيئتنا هي معرفة أصول التعامل مع الناس. فالقول أن سمير "ولد شاطر" يعني أنه يعرف كيف يتدبر أمره مع الآخرين، أي كيف يتعامل مع بيئته المؤلفة من والديه وأشقائه وأقربائه وجيرانه.
ولكن الطفل العربي إذا وجد في بيئة أخرى، في الطبيعة مثلاً، شعر بالارتباك (إلا إذا ترعرع في القرية) لأن ما ينقصه بالضبط هو القدرة على التعامل مع الأشياء.
إن التدريب على فن المعاشرة هو في الواقع تدريب على المسايرة، والمسايرة تعني حرفياً أن يسير المرء مع الآخر ويرافقه ويتلاءم معه. والمسايرة من حيث فن التلاؤم والتسوية ذات وظيفة اجتماعية تؤدي من جهة إلى تخفيض توتر التفاعل الاجتماعي، ومن جهة أخرى إلى تقوية حب المعاشرة. إن وجهها الإيجابي هو في تلك الدماثة والضيافة اللتين يتصف بهما مجتمعنا ككل، إنها وضع اجتماعي يسحر الغرباء لأنها تزيد من لذة التفاعل الاجتماعي وتدعم الميل نحو التسلية والتآنس أو المؤانسة.
ولكن للمسايرة مساوئ اجتماعية عديدة، فمما لاشك فيه أن العمل الاجتماعي الذي تسيطر عليه روح التسلية والمجاملة لا يمكنه أن يؤدي إلى نتيجة فعالة. فمعالجة المشكلات المطروحة معالجة فعالة أمر صعب التحقيق عندما يكون التعامل الاجتماعي مطبوعاً بالمسايرة والأدب الشكلي. والواقع أن المسايرة تضع عراقيل هائلة في طريق العمل والتنفيذ، بحيث يتعذر التعبير عن الخلافات أو حلها عند لقاء الناس وجهاً لوجه وبحيث أن المعارضة المكبوتة تستمر في الغليان، فتصبح القضايا مرهونة بالأشخاص أنفسهم، وهكذا فإن التمييز، في الحياة العامة بين الناس وأفكارهم يبقى تمييزاً مستحيلاً.
والمسايرة أكثر من مجرد سلوك تقليدي، فهي تفترض موقفاً ذهنياً من المواجهة المباشرة ومن معالجة المشكلات في جذورها، موقفاً يفتش عن الحلول في تسويات مؤقتة. والطفل إذ يتعلم كيف يتكيف مع الناس يفعل ذلك لا لتعلم ما يلاءم من أسلوب الحديث والتصرف وحسب بل أيضاً لتكييف ذاته نفسياً مع فن التعامل الاجتماعي.
ولاشك في أن الإفراط في المعاشرة الاجتماعية يولد حساسية مرهفة تجاه الناس، فالطفل، الذي يحاول بطبيعته لفت الانتباه إليه، يتحول إلى ممثل. إنه يصبح واعياً لذاته ويقظاً، ولكن ما يهمه ليس معنى الكلمات، بل كيفية تمثيل دوره بصورة عامة. كذلك نجد أن المتكلم في حديث عادي أو في مناقشة خاصة أو عامة يميل إلى توكيد ذاته بالاستحواذ على انتباه الآخرين وإعجابهم. وأسوة بالطفل الصغير الذي يسمع درساً يتقنه فإن المتكلم الراشد حريص على انتباه كسب إطراء الناس سواء بهز الرأس دليلاً على الموافقة أو الابتسام دليلاً على الإعجاب أو بالتعليق بصورة ملائمة. ومن الشائع جداً في اللقاءات الاجتماعية أن يتبارى المتكلمون وأن يقاطع بعضهم بعضاً. إن العدوانية في حالات كهذه تنبع من حاجة الفرد إلى توكيد ذاته، وبالتالي فهي تعزز ما في المناقشة من "تمثيل".
إن المستمع الصبور لا مكان له في إطار كهذا، فهناك انتقاص لدور المستمع لأن الصمت يعتبر تقصيراً وبالتالي نقصاً في المكانة الفكرية "وقوة الشخصية".
إن الدور الذي يمثله المتكلم يتصف إلى حد كبير بردود الأفعال التي يتخيلها المتكلم عند المستمعين. فالأفكار والإيحاءات تتبدل بحسب رد الفعل المفترض من جانب المستمعين، والإطراء الذي يبديه هؤلاء لا يعكس مجرد استجابة موضوعية للأفكار، بل حكماً على قيمة المتكلم الممثل ككل. وبالتالي لا يمكن للنقد أن يكون موضوعياً بل هو سلاح هجوم، ذلك إن ما هو أقل من الإطراء الشديد يعتبر نوعاً من الذم والاستخفاف، وهكذا نجد بوضوح أن المسايرة، في مجتمعنا، لا تسيطر على اللقاءات الاجتماعية فحسب بل أيضاً على المناخ الفكري للمثقفين.
إن الرياء الذي ترتكز عليه المسايرة يؤدي بصورة تلقائية إلى تغذية الروح العدوانية التي تظهر خاصة في الاغتياب، أي في النيل من سمعة الآخرين. وبالإضافة إلى أن الاغتياب وسيلة للتفريج عن العدوانية المكبوتة، فهي تدعم الميل إلى المعاشرة. فالطفل يتعلم الاغتياب عندما يلاحظ أن والديه وغيرهما من الكبار ينالون من سمعة أشخاص يعرفهم، وهو، إذ يتعلم كيف يخاطب الناس، يتعلم أيضاً كيف يغتباهم. والواقع أن الاغتياب هي الوجه الآخر للمسايرة، ونتيجة من نتائجها الحتمية.
يمكن الاستنتاج من ذلك أن التوافق الظاهري الذي تحققه المسايرة يؤدي في الواقع إلى توتر مبطن وبدلاً من أن يتيح الناس لخلافاتهم وتناقضاتهم أن نتحل بصورة صريحة وواضحة نجدهم يكتمونها ويجعلونها تتأزم في نزاع باطني، ولذلك فإن التفاعل الاجتماعي لا يجري إلا على مستوى المجاملات. أما سائر مستويات التفاعل فهي كلها مستقطبة حول العداء والمخاصمة والنزاع.
إن الميل إلى المعاشرة ما هو إلا نمط حضاري آلي في خدمة الامتثال الاجتماعي. وكما رأينا سابقاً، فالطفل يجري تدريبه على الانتماء إلى الجماعة عن طريق الرضوخ إلى إرادتها، وقبل كل شئ إلى إرادة أبيه الذي يعبر عن هذه الإرادة ويجسدها. وإذا كان في البيت أشخاص آخرون يحاولون تمثيل دور الأب، فالطفل يصبح عندئذ فريسة دوافع فوضوية في نفسه عليه أن يصارعها ويقمعها. ومن الواضح أنه في ظروف كهذه يحتاج إلى كثير من الحظ ومن طاقة الاحتمال ليبني في ذاته استجابات اجتماعية فعالة ومنسقة وشخصية متزنة قادرة على مجابهة العالم ومخاطره.
إن الميل إلى المعاشرة يجمع بين الناس في علاقات التسلية ويفرق بينهم في علاقات العمل. وأسوة بالاغتياب والرياء فإن سوء الظن هو جزء لا يتجزأ من الموقف الناتج عن الميل إلى المسايرة والمعاشرة. إنه الموقف القائل بأن "الناس والأشياء ليست كما تبدو".
ونجد أن الفرد، في التعامل الاجتماعي، لا يثق عفوياً في كلام الآخرين لأنه يعي نوعية الستار الاجتماعي الذي يختبئ الجميع وراءه وهذا ما يؤدي إلى تغليب الشك والاغتياب في ما يتعلق بنوايا الآخرين ودوافعهم، كما رأينا سابقاً.
وباستثناء حالات الصداقة الحميمة فإن الفرد لا يقبل الآخرين على الشكل الذي يظهرون فيه ولا ينظر إلى تعهداتهم على إنها ملزمة. كذلك من الصعب الإجابة بالرفض في لقاءات الناس وجهاً لوجه، وحتى في اللقاءات العملية، كما إنه من السائد النظر إلى تعهدات الآخرين نظرة استخفاف، كما في القول "هذا حكي بحكي" أي إنها كلمات لا تلزم صاحبها بالفعل. كذلك نجد أن القول "إن كلمته لا يمكنها أن تصبح كلمتين (كلمته واحدة/ما بتصير تنتين)"، أي أن الوعد ملزم، هو في الواقع إشارة على الاستثناء بالنسبة إلى القاعدة المتعارف عليها ضمناً.
وكما ذكرنا سابقاً فإن ما يقال عن الفرد وما يعلمه هو أو ما يظنه من قول الآخرين فيه يمثل دوراً حاسماً في تعيين مواقفه تجاه الآخرين وتجاه نفسه. إن سوء الظن ينبع من وعي الاغتياب، وبما إنه يتعذر التمييز بين الصواب والخطأ فيما يقال عن شخص من الأشخاص فإن موقف الفرد يصبح موقفاً ازدواجياً. فهو إما أن يلقي ثناء ومديحاً وإما أن يذم ويحط من قدره، وفي كلتا الحالتين تنشأ عنده صورة مشوهة عن رأي الآخرين فيه. ونتيجة ذلك، من الناحية النفسية، إن الفرد مدفوع إلى القبول بعالم الأشخاص والأشياء ليس كما يراه هو. بل من خلال إطار كلامي كثيراً ما يكون بعيداً عن الحقيقة. إنه يبث في واقع التجربة معاني وأهدافاً لا تظهر بوضوح في ذلك الواقع. ومما لاشك فيه أن شعور الفرد نحو الآخرين (محبته لهم أو كرهه إياهم) هي عوامل تسهم في عملية التشويه، إلا أن جذور هذه العملية موجودة في الازدواجية الأساسية التي تجري التعبير عنها في تفاعل الفرد مع الآخرين.
إن التعامل مع أشخاص من خارج العائلة هو، بالنسبة إلى الطفل، تعامل مع غرباء، ولذلك فإن سوء الظن الذي يتعلمه في محيط العائلة يصبح قاعدة لتعامله في المجتمع، وذلك مع شئ من المبالغة. وهكذا فإن الفجوة القائمة بين العائلة والمجتمع تزداد سوءاً، فما إن يدخل المرء في الحياة الاجتماعية حتى يشعر بعدم الاطمئنان، كما يشعر بأنه في تعامله مع الآخرين دائماً مخدوع أو مستغل ومعرض للانسحاق إذا لم يتخذ موقف الهجوم والسيطرة. إن تجربته عن العالم الخارجي تجربه تخيب آماله فتعيده إلى كنف العائلة، وهذا ما يجعل العائلة تقوي قبضتها عليه عندما يكبر فتمنعه من تحقيق الاستقلال الذاتي، وبالتالي من تنمية وعيه الاجتماعي ونضوجه النفسي.
ومما يسهل مهمة العائلة هذه أن المجتمع في تركيبه القائم يضطهد الفرد ويلفظه إذا ما استقل عن العائلة أو العشيرة أو الطائفة، والواقع أن سوء الظن الذي أشرنا إليه من حيث هو موقف نفسي ونمط من أنماط السلوك يؤدي إلى دعم العلاقات الاجتماعية القائمة على العائلة والعشيرة والطائفة وهي التي ينبثق منها هذا الموقف.
وهكذا فإن التحالف بين المجتمع والعائلة يبدو كوسيلة أساسية تلجأ إليها الثقافة الاجتماعية المسيطرة لضبط التغيير والمحافظة على استقرار النظام الاجتماعي الذي هو بدوره مبني على النمط السائد في تركيب العائلة وفي توزيع الثروة والسلطة والمكانة الاجتماعية في المجتمع العربي.
د. هشام شرابي
من كتاب: "مقدمات لدراسة المجتمع العربي"