في أيامنا هذه تتعالى الأصوات بدعوة إلى الصيام و الصلاة طلبا ً لنهضة كبرى كالنهضة الكبرى الأولى بأمريكا والتي استخدم الرب فيها چوناثان إدواردز عام 1742. ولكن ليس جميع الوعاظ مثل چوناثان إدواردز في عنايته بحقائق النهضة، بالنظر إلى التاريخ وحرية الله و سيادته وسلطان كلام الله الموحى به والمتفوق على الانطباعات الذاتية.
تحذيرات «إدواردز» تناسب دعواتنا المعاصرة إلى الصوم و الصلاة
كان «إدواردز» يرجو أن تكون النهضة الكبرى آخِرَ حركة عظمى يُجريها روح الله حول العالم إيذانا ً بالعصر الذهبي لنشر البشارة قبل رجوع المسيح. فقد قال: «ليس مستبعدا ً أن يكون عمل روح الله، ذاك الفائق والمدهش، هو بداية – أو على الأقل مقدمة – لذلك العمل الإلهي المجيد الذي كثيرا ً ما تنبأ به الكتاب المقدس والذي بتقدُّمَه ونتيجته سوف يُجدَّد عالم البشر». لكنَّ ما توقعه إدواردز لم يحدث، وفي هذا كان مخطئا ً. غير أن نظرة إدواردز إلى حرية الله وسيادته لم تمكِّنه من التنبؤ بمدى النهضة، ولا بتاريخ حلولها، ولا بنطاقها العالمي. كما أن عدم حصول النهضة بالطريقة التي تمنَّاها لم يحمله على تغيير نظرته إلى الله ولا على الكلل في الاضطلاع بقضية الحق.
وفي أيام إدواردز بالذات جاوز بعضُهم آماله وتعبيراته المتـَّسمة بمزيدٍ من الحذر بشأن ما يُحتمل حصوله. فإنهم تكلـَّموا انطلاقا ً من إعلاناتٍ خاصة وانطباعات ذاتية زعموا أنهم تلقـّوها من روح الله. من جهة تلك الانطباعات بشأن النهضة أطلق «إدواردز» تحذيرا ً جريئا ً يناسب أيّامنا أيضا ً:
أناشِد شعب الله أن يكونوا حذرين جدا ً، في تقبـُّـلهـِم لمثل هذه الظواهر. فقد رأيتها تخفق في حالاتٍ كثيرة جدا ً، كما تعلمت بالاختبار أن الانطباعات الحادثة بقوة عظيمة، وفي أذهان أتقياء حقيقيِّين و بارزين، تـُعَد اختبارات فائقة لنعمة الله و للتمتع بعِشرته الطيبة، أو في أثناء تلك الاختبارات، مقترنة ٌ بآياتٍ من الكتاب المقدس ينطبع بها الذهن أقوى انطباع، تفتقر إلى ما يُثبـِت أنها إعلانات ٌ من السماء. ذلك بأنني لمستُ أن انطباعاتٍ كهذه خدَّاعة و قد أثبت الواقع بطلانها، رغم اقترانها في بعض الحالات بجميع المؤثـِّـرات المميَّزة.
وما يجعل هذه التحذيرات حاسمة ليس فقط شيوع الانطباعات الذاتية اليوم بشأن نهضة آتية محتملة، بل أيضا ً كون [سفر الأعمال 1:13-4]، كما يبدو، يقدِّم لنا نموذجا ً لالتماس إرشاد الله لنا مشتملا ً على الانطباعات الذاتية. فلنذكر أن [الآية الثانية] تقول: "و بينما هم يخدمون الرب و يصومون قال الروح القدس افرزوا لى برنابا و شاول للعمل الذي دعوتهما إليه". تـُرى، كيف «قال» الروح القدس ذلك؟ لسنا نعرف على وجه التحديد. و لكنها لم تكن المرة الوحيدة في سفر الأعمال حيث أعطى روح الله إرشادا ً مباشرا ً كهذا. فمثلا ً، نقرأ و في [19:10] نقرأ: «وبينما بطرس متفكر في الرؤيا قال له الروح هوذا ثلاثة رجال يطلبونك. لكن قوم و انزل واذهب معهم غير مرتاب في شيء لأني أنا قد ارسلتهم.»
أفي كتاب العهد الجديد خطوط ٌ عريضة تُعيننا كي نميِّز صحة كون مثل هذا الادعاء بسماع صوت الروح الإلهي في أيامنا هو من الرب حقا ً؟ ليس هذا سؤالا ً بسيطا ً عن اعتناق المرء آراء كاريزماتية (ذات علاقة بمواهب الروح القدس كلها) أو رفضه لهذه الآراء. حتى المؤمنون المحافظون يزعمون أحيانا ً أن «الروح أرشدهم إلى كذا و كذا»، أو أن «الله وجَّههم إلى هذا أو ذاك»، أو أن «الرب وضع في قلوبهم كيت و كيت». إنما السؤال هو: كيف نمتحن مثل هذه الإدعاءات، ولا سيما إذا انطوت على تنبؤ بشأن نهضة آتية، أو دعوةٍ لجماعة المسيح إلى الصوم؟
كيف نمتحن الانطباعات الذاتية؟
لأقترحُ بضعة خطوط عريضة. أولا ً، نُلاحظ في [سفر الأعمال 2:13] أن الروح الإلهي تكلم إلى خمسة معلمين وأنبياء كمجموعة. طبعا ً، كان في وسع الروح أن يكلم شخصا ً واحدا ً وحده. و لكن يبدو من الحكمة أن نقول إنَّه حيث يُلزَم عددٌ من الناس أكبرُ كلمة ٌ من الروح، يُعلِم الروحُ بها العدد الأكبر. فلا يظهر أن طريقة الروح في العهد الجديد هي أن يقيد ضمائر المؤمنين بالانطباعات الذاتية المعطاة للغير. إن السلطان الرسولي يُلزم ضمائرنا الطاعة الكاملة [رسالة غلاطية 12:1 ؛ رسالة كورنثوس الأولى 37:14 و 38 ؛ الثانية 8:10 ؛ 10:13؛ رسالة تسالونيكي الأولى 13:2 ؛ الثانية 6:3 ؛ رسالة بطرس الثانية 3 : 16،15،2،1]. و لكن الادعاءات الأُخرى بالإرشاد الإلهي ينبغي "اختبارها" [تسالونيكي 21:5]. و هذه الدعوة إلى الاختبار، أو الامتحان ، تناسب الرأي القائل بأنه حيث يُلزَم الأكثرون الاتبّاع، يُرشَد أكثرون إلى الأتبّاع. فليس لفردٍ واحد أن يُلزِم جسد المسيح (جماعته).
ثانيا ً، يتبع الارشاد المعتاد ، في كتاب العهد الجديد ، النموذج الموصف في [رسالة رومية 2:12] "و لا تشاكلوا هذا الدهر ، بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم ، لتختبروا ما هى إرادة الله : الصالحة المرضية الكاملة." و هذا لا يقصى بالضرورة التأثـُرات و الانطباعات من لدن الرَّب ، غير أنه يوحي بأن «فكر الرب» المعلن مجددا ً [رسالة كورنثوس الأولى 16:2] ، متشكِّلا ً بكلمة المسيح و مشبّعا ً بروح المسيح ، ستكون له السيادة في التجاذب بين الانطباع الذاتي و التفكير الروحيّ.
ثالثا ً، ينبغي للادعاء بحيازة انطباع من لدن الربّ أن يتناغم مع تعليم الكتاب المقدس، إما مع آيات محددة إن كانت ذات صلة مباشرة، وإما لفحوى الكلمة كلها وروحها و مسارها.
رابعا ً، إنَّ إساءة استخدام آيات الكتاب لدعم انطباعات مختلفة موافقة للكتاب تجعل المؤمنين الراسخين يتمهَّلون. فأحيانا ً يزعم بعضٌ حصولهم على إعلان ٍ خاص بشأن دعوة ٍ محددة لجماعة المؤمنين بالمسيح لا تخالف الكتاب المقدس، و لكن في سبيلها يُحمَّلون النص وجها ً لم يقصده أصلا ً قطْ. و هذا أمرٌ لا يُرجَّح أن يفعله الروح القدس. فلقد أوحى الروح بالكتاب المقدس، و يبدو أنه يستعمل كلماته بحسب المعنى الذي به أعطاها أصلا ً. وعليه، فحيث يُدَّعى أن الروح استحضر إلى الذهن آية ٌ أو أخرى، ثـُم يُساءُ استخدامها، يمكن أن نشكَّ أن إرشاد الروح تمَّ تصوُّره بطريقة صحيحة.
خامسا ً، يؤخذ بالحسبان السجلُّ الشامل لتاريخ الشخص المتكلـِّم عن الانطباع. إلى أي مدى ميَّز ذلك الشخص مثل هذه الانطباعات سابقا ً، من حيث الدقة و النفع؟ و هل برهن الاختبار أن الله استأمن ذلك الشخص على إعلام مسبَّق بأفعاله الإلهية في مرَّاتٍ سالفة؟ و ما مقدار ثبات ذلك الشخص وموثوقيته عموماً؟ وهل من قاعدة عقائدية عريضة على أساسها يُتوقـَّع من ذلك الشخص أن يكون مميزا ً بين الأفكار الصحيحة والباطلة التي تتنافس على الإقناع في أذهاننا جميعا ً؟
اختبار فاعلية [سفر أخبار الأيام الثاني 14:7]
أحاول هنا الإسهام في مراعاة التحريض الذي قدمه «إدواردز» بشأن وجوب الحذر الشديد إزاء الانطباعات الذاتية الحاصلة في أيامنا. فمثلا ً، ينبغي أن نتوخى الحذر حيال تلك الانطباعات الشائعة اليوم والقائلة بأن أمريكا سوف تشهد نهضة روحية كبرى في غضون زمن محدد (يُقال نفس الشئ في مصر). ذلك أن مثل هذا التنبؤ الذي طالما تكرر في تاريخ الإيمان المسيحي قد يؤدي إلى تبددٍ ضخم للوهم، إن كان لدى الله خُطة أخرى. وأكثرُ ارتباطا ً بموضوعنا الحالي أن الانطباعات الذاتية قد تدخل دائرة الخطر أيضا ً إذا أمْلَت – بين الفينة و الفينة – على جماعة المؤمنين أن هذا أو ذاك من التدريبات الروحية، كالصيام مثلا ً، هو المفتاح الكتابي لباب النهضة. و يُستفاد من أقوال «إدواردز» تنبيهُنا إلى أن انطباع أذهان أتقياء بارزين بآيات من الكتاب المقدس انطباعا ً شديدا ً ليس علامة أكيدة على أن استخدام تلك الآيات هو استخدام صحيح و دقيق.
و من الآيات التي كثيرا ً ما تـُتلى في سياق الرجاء بالنهضة الوشيكة [الآية 14 من الفصل السابع في سفر أخبار الأيام الثاني]: "فإذا تواضع شعبي الذين دُعيَ اسمي عليهم و صلوا و طلبوا وجهي، و رجعوا عن طرقهم الردية فإنني أسمع من السماء و أغفر خطيتهم و أبرئ أرضهم." فالاستخدام الخاطئ لهذه الآية يقلل من ثقتنا في التنبؤات التي يُدلي بها بعضٌ بشأن نهضةٍ آتية.
أولا ً، في النص الأصليّ ، حيث يقول الله هذه الكلمات للملك سليمان تشير اللفظة "شعبي" إلى شعب الله قديما ً، و تاليا ً تـُشير اللفظة "أرضه" إلى الأرض التي وهبها الله لهم بموجب العهد. و لكن حين نُطبِّق هذه الآية على وضعنا الحالي، نجعل اللفظة "شعبي" إشارة إلى الجماعة المسيحية التي لا يمكنها أن تقول، في أية أرض ٍ كانت، إن تلك الأرض هي لها حصرا ً. فليس لجماعة المسيح أرض، بالمعنى الذي به كانت لبني إسرائيل قديما ً. إذ أن الجماعة المسيحية شعبٌ سائحٌ في الأرض كلها. فإن المؤمنين بالمسيح "كغرباء و نزلاء" [رسالة بطرس الأولى 11:2]. وعليه، فالتطبيق الجائز [لسفر أخبار الأيام الثاني 14:7] ربما كان أنه إن تذللت جماعة المسيح وصلت والتمست وجه الله و تابت عن طرقها الشريرة، يتنازل الله و يشفي تلك الجماعة. ولكننا نُحّمل النص ما لا يؤكـّده إن قـُلنا إن أي بلدٍ تتذلل فيه جماعة المؤمنين بالمسيح سوف يشهد نهضة كبرى.
ثانيا ً، تـُرتكب غلطة أخرى حين يُرفع أي تدريبِ روحي معين باعتباره المفتاح الحاسم في مثل هذه النهضة. فمن شأن السوابق الكتابيـَّة و التاريخية أن تـُشجِّعنا على التماس النهضة والانتعاش من طريق الصلاة و الصوم. و لكن تلك السوابق نفسها تثنينا عن جعل أي نشاط روحي واحدٍ المفتاح الذي يفتح لنا باب النهضة المنشودة. ومن الشطط خصوصا ً أن ننيط الصوم مثلا ً بالآية الواردة في [سفر أخبار الأيام الثاني 14:7] كطريقة مضمونة حتما ً لتحقيق هذه الآية، وذلك لثلاثة أسباب على الأقل:
السبب الأول أن الآية المشار إليها لا تذكر الصوم صراحة ٌ. و الثاني أن المراجع التالية التي يتضمنها سفر أخبار الأيام الثاني حيث يُبارِك الله مَن يتذللون وفقا ً للآية عينها لا تشتمل على الصيام أبدا ً [6:13 و7و12؛ 26:32 ؛ 12:33 و13و19 ؛ 27:34]. و ليس في هذا البتة أي إنكار لكون الصوم طريقة مشروعة للتذلـُل أمام الرب. و إنما نقول إنه ليس من سند كتابي لحسبان هذه الآية دعوة ٌ إلى الصوم. أما السبب الثالث لعدم ربط الصوم بهذه الآية كمفتاح لها فهو أنه يمكنك أن تصوم صوما ً غير عادي دون أن تتذلَل و تصلي وتلتمس وجه الله و تتوب عن طرقك الشريرة. و هذا جليَّ من آياتٍ عديدة، منها مثلا ً:
"حين يصومون لا أسمع صراخهم، و حين يصعدون محرقة وتقدمة لا أقبلهم، بل بالسيف والجوع والوباء أنا أفنيهم." [سفر إرميا 12:14]
كلم كل شعب الأرض و الكهنة قائلا ً: "لما صمتم و نحتم في الشهر الخامس و الشهر السابع ، و ذلك هذه السبعين سنة ، فهل صمتم صوما ً لي أنا؟"
[سفر زكريّا 5:7]
"يقولون: لماذا صُمنا ولم تنظـُر، ذلـَّلنا أنفسنا ولم تلاحظ؟"
الصيام ستارا ً للخطية
في أوّل آياتٍ من سفر أشعياء 58 يوجِّه الله اتـِّهاما ً إلى شعبه قديما ً. فهو يوصي أشعياء بأن ينادي بصوت ٍ عال ٍ كاشفا ً لبيت يعقوب ذنوبهم. غير أنَّ خطاياهم مُغطـَّاة بستار ٍ مذهل من الحماسة الدينية. و هذا هو ما يصعقنا ويُوقظنا، ولا سيَّما نحن الذين نمارس تدريبات روحية ٌ كالصوم. وهاك الاتهام: "وإيَّاي يطلبون يوما ً فيوما ً، ويُسرّون بمعرفة طرقي كأمَّة عَمِلت برا ً، ولم تترك قضاء إلهِها." [الآية الثانية]. بعبارة أخرى، إنهم يتصرفون كأنهم أمّة بارّة و طائعة. وهم يُقنِعون أنفسهم زورا ً بأنهم يريدون حقا ً الله وطرقه. فيا له من وهم رهيب يعيش فيه المرء!
ثم يُردِف قبيل [الآية الثالثة]: "يَسألونني عن أحكام البرِّ. يُسرون بالتقرُّب إلى الله." إلا أنهم ليسوا صادقين. فهم يريدون من الله أن يتدخل لخيرهم بأحكام بِرِّه، لأن الأمور ليست على ما يُرام، كما سنرى بعد قليل. لكنهم لا يرون المشكلة الحقيقية. يحبُّون أن يتوافدوا للعبادة، و يتكلمون لغة التقرُّب من الله. حتى أنهم قد يحوزون اختبارات دينية وروحية مؤثرة في معرض سعيهم للتقرُّب من الله. و لكن ثمة خطبٌ ما!
حذار أن نحبَّ محبَّتنا لله بدل أن نحب الله
تحذيرٌ ذو صلةٍ وثيقة بالنسبة إلينا في أيام يشهد التعبُّد والتسبيح فيها فورة ملحوظة. فكثيرون يكتشفون فرحة لقاء الله في أوقات متطاولة من الترنيم للربّ ترنيما ً مشحونا ً بالعواطف الجياشة. وأنا شخصيا ً ألفى أوقاتا ً كهذه من المكوث في حضرة الرب فرصة للتمتع بحلاوة عشرته. غير أني أرى خطرا ً، ألا وهو أننا ننزلق على حين غِرَّة من أن نحب ُّ الله، في تلك اللحظات الطيّبة، إلى أن نحبُّ محبَّتنا لله، على حدّ تعبير أحد زملائي مؤخَّرا ً. بكلام آخر، نبدأ باستساغة الجوّ الذي يثيره التعبُّد، لا مجد الله بالذات. فإذا حدث ذلك نُعرِّض أنفسنا للنفاق. وتحت عباءة الحماسة الدينية البالغة، قد تبرز في حياتنا تناقضات ذاتية فتَّـاكة.
بدا كلُّ شئ جيِّدا ً جدَّا ً
ففي التعبُّد الموصف في أشعياء 58 كان هناك ثمة و خطأ. و قد عبَّر الشعب عن خيبة أملهم، في الآية الثالثة، لكنَّهم لم يعرفوا الخطأ. فإنهم يقولون لله: "يقولون: لماذا صُمنا ولم تنظـُر، ذلـَّلنا أنفسنا لم تلاحظ؟" وبالحقيقة أن [الآيتين 2 و 3] تذكران خمسة أنشطة دينية يعملونها باطلا ً. [فالآية الثانية] تفيدنا أنهم (1) يلتمسون وجه الله؛ (2) يُسرُّون بمعرفة طُرقه، (3) يسألون الله قرارات عادلة؛ (4) يبتهجون بالتقرُّب إلى الله. ثم تقول [الآية الثالثة] إنهم (5) يصومون و يتذلَّلون. و مع ذلك، فرغم كلَّ شيء يقول الله لأشعياء: "ناد بصوت عالٍ. لا تـُمسِك. ارفع صوتك كبوق [لا بصوت هادئ منخفض] وأخبر شعبي بتعدِّيهم." (الآية الأولى).
لقد كانوا يصومون، ويلتمسون وجه الله، ويصلـّـون. و كانوا يقومون بنوع من إذلال النفس الخارجي. وهذا كله يبدو تماما ً كما يُفتـَرض أن نكون قائمين به، بحسبما جاء في [سفر أخبار الأيام الثاني 14:7]. ومع ذلك كان هذا الصوم وهذه العبادة غير مُرضِيَين للرب. إنه النوع الذي لا نريده من الصوم والتعبُّد. غير أننا نسأل: ما الخطأ في طلب وجه الله، والابتهاج بمعرفة طُرقه، وسؤاله القرارات الصائبة، والسرور بالتقرُّب إليه، وصيامنا وتذلـُّلنا أمامه؟ ما الخطأ في هذه كلها؟ إنها تبدو تماما ً مثل الطريقة التي نصف بها العبادة على أفضل ما تكون! ألا يُصحِّينا هذا؟ ألا يجعلنا نرتعد؟ أوَلا يجعلنا نرغب في التواصُل مع الله على نحو حقيقيّ لا يحملنا البتة على الإجفال والهروب، حيث لا تُفضَح أفضل ممارساتنا الروحية المتسمة بالغيرة والحماسة، و خيرة ُ أشواقنا، على أساس كونها زائفة؟
ما وجه الخطأ في عبادتهم؟ عن هذا السؤال يجيب الله:
"ها أنكم في يوم صومكم توجدون مسرَّة،
وبكل أشغالكم تسخرون.
ها أنكم للخصومة و النزاع تصومون،
ولتضربوا بكلمة الشر.
لستم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاء.
أمثل هذا يكون صوم اختاره؟
يوما ً يُذلل الإنسان فيه نفسه؟
يحني كالأسلة رأسه ، ويفرش تحته مسحا ً و رمادا ً،
هل تسمي هذا صوما ً و يوما ً مقبولا للرب؟". [الآيات 3 ب – 5] فهذه هي القضية: أن ما يصحب الصوم والصلاة من عناصر خُلقيَّة و عمليَّة وعلائقيَّة هو الامتحان الحقيقي لأصالة الصيام و الصلاة. ويذكر الله الصُور الدينية الظاهرية المرافقة للصوم: التذلَّل أو تعذيب النفس (لا طعام)، حنَي الرأس كالأسلة وافتراش تحته مسح ورماد. ثم يذكر ما رافق الصوم من عناصر (غير) خلقيَّة: تنشدون مسرَّتكم (بطريقة أخرى غير الأكل)، وبكل أشغالكم تسخرون، تُستفزُّون وتتشاجرون وتتخاصمون، بل تتعاركون و تتضاربون. ويسأل الله: "هل تسمي هذا صوما ً و يوما ً مقبولا للرب؟". والجواب "لا"!
تناقض الصوم والانغماس الذاتي
وهكذا نجد هنا امتحانا ً آخر لكون الصوم و التعبد أصيلا ً أو زائفا ً. فقد قال المسيح إنك صمت كي يراك الناس استوفيت مكافأتك. ويقول أشعياء إنه إذا كان صومك يجعلك منغمسا ً ذاتيا ً في مجالاتٍ أخرى، قاسيا ً على موظفيك، سريعَ الغضب ومخاصما ًوعنيفا ً، فعندئذٍ لا يكون صومك مقبولا ً لدى الله. إذا ً، يحذِّرنا الله ، راحما ً ومنعما ً، من خطر الاستعاضة بالممارسات الدينية الشكلية عن عيشة التقوى والاستقامة.
أوّاه ، كم نحتاج إلى تدبُّر هذه الأمور! إنَّ النفاق آفة مقيتة تُصيب عبادة الله. فلتكن في قلوبنا مضامينُ العبادةِ الطويلة ُ الأمد، ولتتبدَّ جليَّة ٌ في حياتنا وجماعاتنا. فليست العبادة الصحيحة الحقيقية المرضية للربّ ذات علاقة بأي تعبُّد، من وعظٍ وترتيل وصلاة ودعاء وصوم، مهما كانت هذه جليلة وجميلة، إذا كانت تلك العبادة تجعلنا قـُساة ً على موظفينا يوم الاثنين، أو مخاصمين لشريكات حياتنا في المنزل، أو منغمسين ذاتيا ً في مجالات أخرى من حياتنا، أو غضابا ً بحيث نلكم أو نلطم أحدا ً. لا نغلط ُ في هذا المجال: فربَّما كان الصيام وسيلة يباركها الله للتغلب على قساوة وحدَّة الغضب. ولكن إذا حدث أن أصبح الصوم والتعبد عباءة للتقليل من شأن هذه المفاسد، و للسماح باستمرارها و استفحالها، فعندئذٍ يغدو نفاقا ً ورياءً وغرضا ً لعدم رضى الربّ.
العمل يومَ الاثنين محك ٌ للعبادة يوم الأحد
إن كيفية معاملتك للناس يوم الاثنين هي المحكُ لأصالة صومك وتعبدك يوم الأحد. فالصوم الذي يُبقي حياتنا اليومية على حالها من المعاصي و الذنوب محط ّ لتهكُّم الله: " أمثل هذا يكون صوم اختاره.... يحني [الإنسان] كالأسلة رأسه؟" [الآية 5]. بعبارة أخرى ، إنَّ إشارات هذا الصوم و التعبد لا تتفوَّقُ روحانيّة ٌ على قصبة محنية على ضفة مستنقع!
ويحا ً لصوم وتعبد يترك الخطية في حياتنا على حالها! فالصوم والتعبد الأصيل الوحيد ينطوي على هجمةٍ روحية منّا على خطايانا. أصومنا بالحقيقة جوع إلى الله؟ إننا نمتحن حقيقته بكوننا نجوع إلى الطهارة والقداسة. فأن نـُريد الله يعني أن نكره الخطية. ذلك أن الله قدُّوس، وليس ممكنا ً أن نحبَّ الله و نحبَّ الإثم معا ً. وما أضلُّ صوما ً وتعبدا ً لا يستهدف تجويع الخطايا، مع التمتـُّع بحلاوة عِشرة الله! فليس إلى الله نجوع حقا ً في صوم و تعبد كهذا. إذ إنَّ جوع الصيام هو جوعٌ إلى الله، واختبار ذلك الجوع كونُه يشتمل – أو لا يشتمل – على جوع إلى النقاوة و القداسة.
الاستهلاكية وفتى المدينة
إن الصوم في أمريكا و بلدان الغرب الأخرى المزدهرة (وربما طالنا هذا الأمر الآن بمدننا المتطورة في العالم العربي بسبب العولمة) أمرٌ يصعب إدراكه تقريبا ً لأن حضارة الاستهلاك قد غسلت أدمغة الناس. وهم يُعلـَّـمون أن يختبروا الحياة المريحة بالإقبال على الاستهلاك عوضا ً عن الإقلال منه أو التخلـِّي عنه. وعلى حدٌ تعبير «رودني كلابْ»: «يُربى المستهلِك على النَهَم، ويُعلـَّم أنَّ قِوام الإنسان الأساسي حاجاتٌ غير مُلبَّاة يُمكِن تسكينها باقتناء البضائع واستخدام السِلَع. وعليه، ينبغي أن يفكـِّر المستهلك أوّلا ً وقبل كلِّ شيء في نفسه و في سدِّ حاجاته التي يحسُّ بها». أما أن تكون "مغبوط ٌ هو العطاء أكثر من الأخذ" [سفر أعمال الرسل 35:20] فأمرٌ يكاد يستحيل تصوُّره. مِن ثَمَ قـَلـَّما يفكر أحدٌ بالصوم إلا كوسيلة دارجة لتخفيض الوزن أو كمعزِّز ٍ روحانيِّ لرفع الوعي إلى أعلى الدرجات كما يروِّج له دُعاة حركة «العصر الجديد» وكِلا هذين مترسِّخٌ في حضارة قائمة على الاستهلاك.
ويتبدّى شيوع الاستهلاك وسيطرته جليِّاً متى أدركنا أعماق تخلـُّلِه لكلِّ طبقات المجتمع، حتى تلك التي قلـَّما تستطيع الإنفاق. وعلامة ُ حضارة الاستهلاك البارزة أنها خفضت «الكينونة» إلى «الامتلاك» تخفيضا ً يُغذّيه التلفزيون يوميا ً. حتى إنَّ المراهقين، في أحياء المدن الداخلية، حيث الفقراء الذين يعجزون عن الإنفاق في حدَّه الأدنى، باتوا خُبراء بصرع الاستهلاك، متقبِّلين توّا ً شعارات الدعاوى التلفزيونية و صٌوَرها الباهرة:
وقد تشرَّبت لغتـُهم توافه العروض التلفزيونية، حتى أصبح كون المرء ذا «اعتبار» يُعرَّف بحيازته مظهرا ً أو صورة معينة. وكم من مراهق ٍ يتخلى عن عمله الصيفيّ في توضيب الخضار مثلا ً حين يُدرِك أن في ذلك خطرا ً على «صورته». ثم يُنفق الخمسة و السبعين دولارا ً التي يكسبها من عمل آخر لشراء جهاز ٍ خلويّ (موبايل)، كي يظهر بمظهر مروِّج المخدِّرات (مجارياً للعصر)، ولو لم تكن له أدنى علاقة بالمخدِّرات! ومن حين إلى آخر يحمل مسدسا ً ويتجر بالمسروقات، لأن تصرُّفات ٍ من هذا النوع تنفي عنه كونه «نكرة» وتجعله يظهر بمظهر صاحب الكيان والاعتبار (لدينا في الشرق صورة أخرى الشاب العصري ولكن تؤدي إلى نفس الغرض). وكثيرا ً ما يرتدي هو وأترابه ثيابا ً ذات «ماركات» معروفة سرقوها من مخازن المدينة، اعتقادا ً منهم أن «الثياب تصنع الانسان». والمؤسف أنَّ هذا الشعار يصحُّ هنا ، فإذا نُزِعت الثياب الشهيرة، لا يبقى وراء المظهر أيُّ جوهر. وهكذا يغدو المراهق مجرد مُقتن ٍ للسلع ومستهلك للمُنتجات.... لقد صدَّق هو وأصدقاؤه ما قيل لهم عن الصورة والمقام والمنافسة والتراتب وسيادة إشباع الذات. ويا له من اقتناع ٍ قتـَّال ٍ، للمراهقين أنفسهم بالدرجة الأولى!
إن فتى المدينة هذا وأصدقاءَه صورة ٌ جليَّة لهيمنة النزعة الاستهلاكية مع عسر الحال:
لدى الكثيرين من الأميريكيين (وقد اقتدينا بهم الآن في ذلك) السائرين في ركْب الأكثرية إيمانٌ أعمى بالمادية، ولكنْ تُلطـِّفه الفُرَص المُتاحة لهم (تربويا ً ومهنيا ً) لتأسيس هويّاتهم على سوى المظهر. وبينما هم مستهلكون أيضا ً، تُتاح لهم فرصة أن يصيروا أكثر من مجرَّد مستهلكين. إنما فتى المدينة ورفقاؤه، على النقيض، لا تُتاح لهم مثلُ هذه الفُرَص. في ذلك النطاق الضيِّق، يقتل المراهقون بعضهم بعضا ً، بالمعنى الحرفي، للحصول على سلسلة ذهبية أو سترة جلدية. وهكذا يكون إيمان المراهقين الأعمى بالاستهلاكية مُهلِكا ً بالفعل.
أمام هذه الستارة الخلفيَّة من شيوع الاستهلاكية المعاصرة، يبدأ الصوم الموصوف في الفصل الثامن والخمسين من سفر أشعياء باكتساب حدِّ أمضى. فأن يُدعى «صوما ً» نمط ُ حياةٍ أساسُه خدمة الفقراء بدلا ً من استهلاك سلعة جديدة ليس بالأمر الغريب في نهاية المطاف. ذلك أن معظم حياتنا إشباعٌ لشهيَّات ٍ تُضرَم صناعيا ً، واحدة ٌ تلو الأخرى. فأيُّ تحوُّل عن هذا النموذج في سبيل الخدمة هو «صيام»، بل صيامٌ من شأنه أن يسرَّ الله أكثر من تفويت مئة وجبة غداء على أمل تناول المزيد من فطائر البيتزا على العشاء.