تشكل معايير السلوك التي يسير عليها المجتمع شخصية أعضائه الشخصية الاجتماعية. وفي المجتمع الصناعي تتلخص هذه المعايير في الآتي: كل من يستطيع أن يحصل على ممتلكات ويحقق أرباحًا يكون موضع إعجاب وتقدير، باعتباره كائنًا أرقى.
ولكن لما كانت الأغلبية الساحقة من الناس لا تملك أي ملكية، بالمعنى الحقيقي لرأس المال والسلع الرأسمالية، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف يمكن لهؤلاء الناس أن يشبعوا شهوتهم، أو أن يرووا ظمأهم للحصول على أي ملكية والتعلق بها، أو كيف يمكن أن يخلقوا في نفوسهم شعورًا مثل شعور المالكين، بينما هم -في الحقيقية- محرومون من أي ملكية تذكر؟
الإجابة الواضحة، طبعًا، هي: حتى أفقر الفقراء لابد من أنهم يملكون شيئًا ما.. أي شئ، وهم يعتزون بممتلكاتهم الضئيلة هذه ويتعلقون بها، مثل ما يتعلق مالك رأس المال بملكيته. وهؤلاء الفقراء، مثلهم مثل كبار المالكين، تتملكهم رغبة شديدة في المحافظة على ما يملكون، وزيادته –ولو بقدر بالغ الضآلة- مثل توفير درهم من هنا أو فلسين من هناك.
أكثر من هذا، ربما يكون أكبر متعة هي امتلاك الأشخاص، لا امتلاك الأشياء المادية. ففي المجتمعات الأبوية يمكن لأتعس الرجال في أفقر الطبقات أن يكون ذا ملكية، وذلك في علاقته بزوجته وأطفاله وحيواناته حيث يمكن أن يشرع بأنه السيد بلا منازع. وهكذا، في المجتمع الأبوي. وبالنسبة للرجل، على الأقل، يكون إنجاب الأطفال هو الوسيلة الوحيدة لامتلاك كائنات بشرية دون حاجة إلى العمل والكدح اللازمين لامتلاك الأشياء، ودون حاجة لاستثمار إلا أقل القليل من رأس المال. وإذا أخذنا في الاعتبار أن عبء الحمل والولادة يقع بكامله على كاهل النساء يصبح لا مجال لإنكار أن إنتاج الأطفال في المجتمعات الأبوية ليس إلا عملية استغلال فظ للنساء. ولكن للنساء، بدورهن، شكلهن الخاص من الملكية، وذلك هو ملكية الأطفال الصغار. وهكذا تتكون الدائرة الخبيثة التي لا تنتهي. الرجل يستغل امرأته، وهي تستغل الأطفال الصغار، والذكور البالغون سرعان ما ينضمون للرجال في استغلال النساء، وهكذا.
لقد استمرت سيطرة الرجل، في النظام الأبوي، حوالي ستة آلاف سنة أو ربما سبعة آلاف، ولا تزال سائدة في البلاد الفقيرة وفي الطبقات الأشد فقرًا. غير أن هذه السيطرة تتناقص، وإن يكن تناقصًا وئيدًا، وفي المجتمعات الأكثر رخاء. ويبدو أن تحرير النساء والأطفال والمراهقين يكون بقدر ما يرتفع مستوى الحياة في المجتمع.
إن تحرير المرأة شرطاً أساسياً لكي يصبح اﻟﻤﺠتمع إنسانياً. لقد بدأت هيمنة الرجال على النساء منذ حوالي ستة آلاف عام فحسب، بعد أن سمح تحقيق فائض الإنتاج الزراعي بتأجير العمال واستغلالهم، وتنظيم الجيوش، وإقامة الدولة المدنية القوية – بعدئذ تمكنت الجهود المتضافرة للرجال من السيادة، لا على حضارات الشرق الأوسط وأوروبا فحسب، ولكن على أغلبية حضارات العالم، وأخضعت النساء لهيمنة الرجال. هكذا قام انتصار
الذكر على الأنثى لدى النوع البشري على النفوذ الاقتصادي للرجال، والجهاز العسكري الذي بنوه. إن الحرب بين الجنسين قديمة قدم الحرب بين الطبقات، ولكنها اتخذت أشكالاً أكثر تعقيداً، فالرجال بحاجة إلى النساء، لا كحيوانات كادحة فحسب ، وإنما أيضا كأمهات وحبيبات وأنيسات. قد تتخذ الحرب بينهما أشكالًا مكشوفة وفظة، ولكنها غالباً ما تكون مموهة وغير معلنة. لقد خضعت النساء للقوة المهيمنة، ولكنهن لم يتوقفن عن الحرب بأسلحتهن الخاصة، وفي مقدمتها السخرية من الرجال والضحك عليهم.
لقد تسبب إخضاع نصف الجنس البشري بواسطة النصف الأخر، ولا يزال يتسبب، في أضرار جسيمة لكليهما: فالرجال يلبسون أثواب المنتصرين، بينما تلبس النساء مسوح الضحايا. ولا توجد علاقة بين رجل وامرأة مبرأة
من اللعنة، لعنة إحساس الرجل بالتفوق وإحساس المرأة بالنقص. هذه اللعنة الموجودة حتى الآن، وحتى بين أولئك الذين يقفون ضد سيطرة الرجل عن وعي كامل. (مع مزيد الأسف، افترض فرويد، ويعد من بين المؤمنين إيماناً قاطعاً بتفوق الرجل، افترض أن إحساس الأنثى بالضعف يرجع لجزع مزعوم بسبب حرمانها من عضو الذكورة، وأن عدم الإحساس بالأمان عند الرجال يرجع إلى خوف مزعوم لديهم جميعاً من الخصي. ولكن ما يعنينا في هذه الظاهرة هو أعراض ومظاهر الحرب بين الجنسين وليس الفروق والاختلافات البيولوجية والتشريحية في حد ذاتها).
ويدل كثير من الظواهر على أن هيمنة الرجال على النساء تشبه، من وجوه عديدة، هيمنة جماعة من السكان على الأغلبية المستضعفة. لنتأمل مثلا صورة الزنوج في الجنوب الأمريكي منذ حوالي مائة عام، وصورة
النساء هناك في الوقت نفسه، بل حتى وقتنا هذا، حيث تجري المقارنات الدائمة بين كليهما وبين الأطفال، فهم جميعاً يوصفون بالعاطفية والسذاجة وفقدان الإحساس بالحقيقة، ومن ثم لا يمكن أن يؤتمن أي منهم على اتخاذ
قرار وهم لا يتحملون المسؤولية رغم أن لهم سحرهم الخاص (ويضيف فرويد إلى كتالوج المواصفات أن ضمير المرأة أدنى تطوراً من ضمير الرجل، وأنها أكثر نرجسية).
إن ممارسة السيطرة على المستضعفين هي جوهر الهيمنة الرجالية البطريركية (الأبوية) اليوم، كما هي جوهر الهيمنة على الأمم غير الصناعية، وعلى الأطفال والمراهقين. إن الحركة المتعاظمة لتحرير المرأة لها دلالة هائلة، حيث هي خطر على مبدأ الهيمنة الذي يعيش عليه اﻟﻤﺠتمع المعاصر (الرأسمالي والشيوعي على السواء)، هذا إن كان واضحاً في أذهان النساء أنهن يعنين بتحريرهن رفض مشاركة الرجال في الهيمنة على الجماعات الأخرى، مثل الهيمنة على الشعوب المستعمر. وإذا أمكن لحركة تحرير المرأة أن تطابق بين دورها ومهمتها وبين فكرة الوقوف ضد الهيمنة والسيطرة في جميع صورها فإنه سيكون للمرأة دور حاسم في معركة بناء اﻟﻤﺠتمع الجديد.
ويمكن أن نقول إن تغييرات تحررية كبيرة قد حدثت بالفعل، فربما يكتب بعض مؤرخي المستقبل أن أكثر الأحداث ثورية في القرن العشرين هو بدء تحرير المرأة وسقوط هيمنة الرجل. غير أن النضال من أجل تحرير
ا لمرأة لا يزال في بدايته، ولا مجال للتهوين من مقاومة الرجال. فعلاقات الرجال بالنساء بما في ذلك علاقاتهم الجنسية تقوم كلها على أساس تفوقهم المفترض، وقد بدأوا بالفعل يشعرون بالقلق وعدم الارتياح تجاه أولئك النسوة اللواتي يرفضن أسطورة التفوق الرجالي.
وعلى صلة وثيقة بحركة المرأة نلحظ اتجاه الجيل الناشئ اتجاها مناهضا للهيمنة. وقد وصل هذا الاتجاه إلى الذروة في أواخر الستينات. أما الآن، وبعد عدد من التغيرات، فإننا نشاهد عودة عدد كبير ممن تمردوا على "المؤسسة المهيمنة"، إلى الحظيرة، ليكونوا "مواطنين صالحين" مرة أخرى، ولكن بعد أن كان قد تم تذويب النشا الذي كان يغلف العبادة السابقة للسلطات المهيمنة، ويبدو من المؤكد أن "الرهبة" القديمة منها لن تعود.
وإلى جوار التحرر من الهيمنة السلطوية يوجد التحرر من الإحساس بالإثم بشأن الجنس. من المؤكد أن الجنس يبدو أنه لم يعد موضوعاً مثيراً للإحساس بالاثم ، والحديث محظور عنه. وعلى الرغم من الاختلاف بين الآراء حول الأوجه اﻟﻤﺨتلفة للثورة الجنسية إلا أن أمراً واحداً أصبح مؤكداً هو أنه لم يعد من الممكن إثارة ذعر الناس من الجنس، ولم يعد من الممكن استخدامه في إحداث إحساس بالإثم، ومن ثم حمل الناس على الاستسلام والخضوع.
إريك فروم
من كتاب "الإنسان بين الجوهر والمظهر - أنتملك أم نكون؟"