أنا لم أعرف بعد سبباً واضحاً لهذا الظلام الذي كان ولازال، أهو ظلام حقيقي، أم أن إغماض الأعين يجعلك تعتقد أن الدنيا ظلام. لا أعرف سبباً ولكني عرفت وجربت، وكلنا عرفنا وجربنا كيف يتسلل النوم إلينا بحيث ننام دون أن نعي أننا نمنا، وبالذات حين يكون الراديو مفتوحاً يكون متحدث واحد أو مطرب واحد قد انفرد بالميكروفون لمدة طويلة جداً، أطول مما يجب، بحيث يبدأ كلامه يفقد تضاريسه ويستحيل إلى أصوات لا معنى لها، ولكنها الرؤية المتصلة رغماً عنك تخدر حواسك، ثم وعيك، ثم تنام.
ولكن الكارثة أننا فعلاً لم ننم ولسنا نائمين، ولا مغمى علينا، ولا فقدنا الوعي. نحن شاهدنا ونشاهد كل شيء ورأينا كل شيء ومارسنا كل شيء، نتحدث ونتزاوج، ونكذب ونصدق ونسرق ونتكاسل وننشط. و لم نفقد الوعي أبداً، ولكني لا أعرف كيف أصور هذا، وهل من الممكن أن ينام جزء في مخ الإنسان وتبقى بقية الأجزاء صاحية. لابد أن شيئاً كهذا هو الذي حدث ولابد أن مركزاً هاماً جداً من مراكز عقلنا العام قد تعطل عن العمل، نام، أو نُوم، أو خدر أو اجتُث، وأن هذا هو السبب. ولا أعتقد أن أحداً يعرف بالضبط ما هو ذلك الجزء وما عمل ذلك المركز، ذلك لأن أحداً من الخارج لا يمكن أن يدركه، ولا يمكن أن ندرك وجوده نحن إلا حين يبدأ يستيقظ ويبدأ يتحرك. كل هذه احتمالات، مجرد احتمالات فنحن كما يحب دائماً الصديق "أحمد بهاء الدين" أن يشبه النملة حين تكون فوق ظهر الفيل، إنها حين تسير فوق ظهره أو ذيله لا يمكن تدرك أنه فيل، أي تدركه "كله". إننا إذاً كلنا نتحسس طريقنا إلى الحقيقة وإلى بالضبط كنه ما نحن فيه، إذ نحن لو عرفنا ما نحن فيه ولمسناه وأدركناه، لو عرفنا أنه فيل، أو ذئب أو جثة إنسان، بمجرد إدراكنا لأبعاد الشيء وكنهه ونوعه تنحل المشكلة.
لا نعرف بالضبط ما الذي نام فينا ولكن لا شك أن إرادتنا ليست طبيعية بالمرة. والمفروض والطبيعي تماماً أن الإنسان كائن ذو إرادة بمعنى أنه ينفرد بقدرته على التفكير المستقل وتحديد هدف مستقل والوصول إلى ذلك الهدف بقوة إرادته. بمعنى آخر الإنسان كائنا ذو (نية) تتحول بقدرته إلى (فعل) بتحقيق وجوده. الإنسان السوي تستحيل النية عنده دائماً إلى فعل يحقق به نواياه، وهذا ما يجلب له السعادة والراحة والرضا عن النفس، والقلق والتعاسة تنتج عن بقاء (النية) أو (الرغبة) مجرد رغبة لا يمكن تحقيقها (بالفعل).
إذا حال الحائل بين الرغبة في عمل الشيء وبين تحقيق هذه الرغبة (أي الفعل) يحدث للإنسان حالة يسمونها الإحباط. أو ذلك الشعور بالعجز الذي يرهق النفس ويدمس الإنسان.
ونحن لن نناقش التاريخ ولا الأسباب، لأننا نصبح حينذاك كالأطباء الذين يتركون المريض المشرف على حالة الموت ليناقشوا الإهمال أو الخطأ الذي أدى إلى المرض، ننقذ أنفسنا أولاً وبعد هذا أمامنا مئات السنين من المستقبل نشبع أنفسنا فيها جدلاً ونقاشاً واختلافاً ومحاكمة أو تقديراً ليس هذا وقته. الحالة الآن إن إنساننا في أزمة، لا نعرف كل أبعادها بعد، ولكن الذي لا شك فيه أنه محبط أو غير قادر على الفعل.
في الحقيقة لولا أن أجهزتنا تعمل بطريقة تلقائية أو بطريقة الدفع الذاتي ولولا أن الروتين يأخذ مجراه، ولولا أن العاملين لا يزالون (يؤدون) عملهم لتوقف الإنتاج تماماً. ذلك أن الرغبة في العمل ليست صادرة من أعماق أي منا أي رغبة إرادية في العمل، ولكنه واجب يؤديه لكي يأكل ويشرب ويظل يعيش. نحن نعاني بالتأكيد من حالة إحباط، المسافة بين (النية) عندنا وبين (الفعل) طويلة جداً تكاد تنتهي بتأجيل الفعل تماماً وإحالته إلى لا فعل. إرادتنا إذاً أصابها شيء رهيب. ربما من كثرة ما وجهت به من عقبات، ربما لأننا لم نعد بحاجة إليها لنعيش، ربما من قلة الاستعمال، ربما من كثرة الإرغام على عدم استعمالها. لإرادة مشلولة تماماً ونحن نؤدي الحياة ولا (نفعلها)، لا أحد منا يحيا كما يريد، بل إن رغبته في الإرادة نفسها، إرادة الأشياء والأهداف فقدت بريقها. ربما الإرادة الوحيدة الباقية هي إرادة طلبة الثانوية العامة في الحصول على مجموع، بل إنها في معظم الأحيان ليست إرادة خاصة نابعة من نفس الطالب وذاته بقدر ما هي نابعة من إرادة أهله مثلاً.
وماذا عن النساء؟
وإذا كان هذا هو حال الرجل، أو النصف الرجالي من المجتمع، فماذا يا ترى هو حال النصف الآخر. نصف المجتمع بأكلمة، المرأة. إذا كان هذا هو حال الرجل الذي تشكل الإرادة جزءاً لا يتجزأ من تكوينه، فبلا إرادة يصبح الرجل ماذا، مجرد جسد؟ الرجل هو السعي الدائب إلى هدف يحققه، بمعنى أنك إذا رأيت كائناً إنسانياً مندفعاً إلى هدف معين يحققه فهذه هي حالة (الرجولة). فليست الرجولة فحولة أو ذكورة أو شوارب، الرجولة حسم وإرادة وفعل وليس معنى هذا أن المرأة كائن بلا هدف أو بلا طموح. إن للمرأة هدفاً طبيعياً خالداً، ألا وهو إنتاج الحياة و استمرارها.
ولكن الحياة تعقدت وتشابكت وأدركت المرأة أنها لكي تحقق هدفها الخالد في استمرار الحياة، لكي يتحقق على وجه أكمل، فلابد من مشاركة الرجل في تحسين هذه الحالة والعمل على تطويرها، ومن هذا المنطلق تكونت المجتمعات الحديثة بإرادة مشتركة للرجل والمرأة معاً، بمعنى آخر أصبح للمرأة رأي في المسائل العامة، في اختيار الحكومة في التمثيل البرلماني، بل أصبحت جزءاً لا يتجزأ من عملية الإنتاج نفسها، بحيث لو أضربت المرأة في أي مجتمع حديث لحدث شلل كبير، وتوقف أقسام كبيرة من أقسام الإنتاج.
ولكن.. ماذا يحدث لو أضربت المرأة المصرية عن العمل؟
بالقطع لن يحدث خلل ليس من الممكن علاجه في ساعات، ذلك أننا برغم الأعداد الهائلة من النساء العاملات، وفي كافة المجالات، لا يزال إنتاجنا رجالياً تماماً أو في معظمه. صحيح أن الوقت سيجيء حالاً تلك الذي تصبح فيه المرأة عاموداً أساسياً من أعمدة الإنتاج ستجبرنا عليه الأزمة، ولكن الحادث الآن أن زراعتنا وصناعتنا لا تزال رجالية أطفالية وهناك في نهاية القائمة، نسائية.
كان مفروضاً بعد ثورة السفور وثورة التعليم أن تنشاً ثورة الاستقلال، فهكذا الحال دائماً في المستعمرات، لا يمكن أن تستقل مستعمرة وهي تعتمد اقتصادياً على مستعمرها.
مادامت هناك تبعية اقتصادية فمن المحتم أن تظل هناك تبعية سياسية ولقد نشأنا مجتمعاً رجالياً تعتمد المرأة فيه كي تأكل وتلبس وتعيش على الرجل، تماماً كشعب المستعمرة، والغريب أن المرأة تعلمت واشتغلت، ولكنها ظلت تعتمد اقتصادياً على الرجل، وأعرف والجميع يعرفون سيدات كن يعملن ولازلن، ولكن ماهيتهن تذهب إلى ملابسهن أو زينتهن ودخل الرجل هو الذي يعول الأسرة، صحيح أن هذا الوضع يتغير، ويتغير بسرعة شديدة، ولكن لا يزال الوضع بشكل عام هو وضع الاعتماد الاقتصادي شبه الكامل على الرجل. والمرأة في القرية تعمل وتفلح الأرض ولكنها عملياً لا تستطيع أن تستقل بزراعة أرض فهي إذن عاملة تابعة، والعاملة في المدينة والطبيبة في المستشفى، والمدرسة في المدرسة تعمل، ولكنها لا تستطيع أن تستقل بحياة بمفردها، إنها (تساهم) مع العائلة أو مع الزوج، ولكنها ليس لها حق (الاستقلال) التام عن الرجل.
هذا الوضع الاقتصادي استتبعه أوضاع فكرية بحتة منها النظرة إلى المرأة باعتبارها (عيب) أو (عورة)، أو (حريم)، أو كائناً ليس مساوياً بالتأكيد لهذا الكائن الآخر المسمى بالرجل، بل استتبع هذا طبقات فكرية كثيفة ومحاولات للخروج على هذا الوضع والتمرد، والثورة في الفناجيل، وروايات تٌقص تشغل الخيال، وراع غريب يقوم في نفس الفتاة أو المرأة التي أخرجوها إلى الشارع وعلموها وأنًثوها (بتشديد النون) وأعدوها، ولكن بقيت دائماً وأبداً مربوطة إلى الرجل.
كان مفروضاً إذاً أن يستتبع التعليم حركة نسائية واعية جماعية هدفها انتزاع حقها في الاستقلال والمساواة، أي ثورة سياسية نسائية، ثورة استقلال لم تحدث. وأيضاً أنا هنا لا أناقش لماذا لم تحدث، ولا موقف ثورة يوليو من المرأة برغم أنها أول ثورة مصرية أعطت المرأة حق الانتخاب.
المهم أنه بينما انشغل مجتمع الرجال، بالثورة وبالاستقلال وبالسياسة وبالأحداث الرهيبة المستمرة، على مسرح الوجود طيلة ذلك الوقت حتى وهم محبطون وبلا إرادة يهتمون ويناقشون، وعلى الأقل يتابعون، كان المجتمع النسائي لا طاقة له ولا جمل في هذا كله، لا أحد يأخذ رأيه للقيام بثورة، ولا أحد يأخذ رأيه لإصدار قانون.
وندخل الحرب ونخرج منها وتقوم الأمة وتقعد دون أن يأخذ أحد رأي المرأة أو يحفل بأن يأخذ ذلك الرأي. وليس معنى ذلك أن المرأة لم يكن أو ليس لها رأي، ولكن ما فائدة وما فاعلية وما جدوى رأي لا يسمع له أحد ولا يأخذ به أحد ولا يحفل به أحد، ساهمت المرأة أماً وزوجة وفتاة وعاملة وطبيبة ومدرسة وصحفية ومذيعة وطالبة وعالمة في حياتنا وأحداثنا مساهمة حقيقية هذا صحيح. بكت وتألمت وجاهدت، ولكنها أبداً لم (تصنع) هذه الأحداث بل لم تشارك في صنعها، إنما وجدت نفسها وسطها. إن هذا هو حال المرأة في معظم أجزاء العالم حتى في بعض بلدان أوربا نفسها، كل قادة العالم، كل نظرياته، كل حكوماته، كل تجارته وصناعته وزراعته، كل فنه وأدبه، وكل علمه وموسيقاه، كل شيء تقريباً مازال رجالياً.
وهكذا إذا كان الرجل نفسه محبطاً أو مشلول الإرادة فهناك أكثر من داع وسبب لكي تكون المرأة أكثر إحباطاً، أي أن المسافة القائمة بين ما تريده المرأة وما تستطيع تحقيقه مسافة طويلة جداً أو لا نهائية.
وهكذا أنا لا ألوم أحداً بالذات حين أقول إن مجتمع المرأة وعلى وجه التحديد مجتمع المرأة في الطبقات المتوسطة وهي الطبقات الواضحة على المسرح الآن، قد انغلق على نفسه أو بالأصح يكون للمرأة فيه اهتمامات مختلفة تماماً عن اهتمامات الرجل، تقاليد مختلفة وقيم مختلفة ونماذج مختلفة للسلوك، ومجتمع أبرز ما فيه أنه رسمياً وعلناً غير وجود وكأنه تنظيم تلقائي سري تتعارف فيه النساء والسيدات بسهولة وسرعة ويتصادقن من أول دقيقة، له جرائده السرية ومانشتاته ومحطات إذاعاته وبطلاته وشهيراته. وعلى المستوى العلني اختفت البطلات العاملات والعالمات وبدأ ظهور البطلات العوالم وأشباه العوالم وعدنا القهقرى إلى العشرينيات، ولكن على مستوى آخر: ليس ذلك المستوى المحدود في الكباريهات والصالات. وإنما المستوى الواسع في السينمات والتليفزيونات والإذاعات والمجلات وخلافه.
إني لا أريد هنا أيضاً أن أغوص أكثر وأكثر في أعماق المشكلة، أريد أن أعود إلى موضوعي، موضوع المرأة وثقافتها، بل حتى ثقافتها الثورية باعتبار أنها الطريقة الوحيدة للخلاص وليس التمرد الفردي، بل وليست القراءات العاطفية والقصصية، وهنا لا أستطيع إلا أن أتوقف، فمعظم الخطابات التي جاءتني تحاول أن (تبرر) موقف المرأة من هذه المسألة باعتبار أن الأعباء التي يلقيها المجتمع الرجالي على أكتافها أعباء من الصعب معها أن تقرأ المرأة أو حتى تستمع بلذة أن تخلو إلى نفسها.
وهذا هو وجه العجب والمؤاخذة، فصحيح أنه مجتمع رجالي ظالم وصارخ الظلم ولكن، هل معنى هذا أن تترك المسائل كما هي، باعتبار أن ليس أروع مما كان أو لا حل هناك أمام المرأة المصرية إلا أن تظل تفعل ما تفعل ونختلق لها الأعذار ونعاملها باعتبار أنها كائن مجني عليه ولا سبيل إلى التعاطف الشديد معه.
إني أرفض هذا، كل مشكلتي أني تصورت أن المرأة بعد خمسين أو ربما سبعين عاماً من بداية ثورة المرأة المصرية على وضعها أصبحت أنضج من أن تعامل ككائن غير مسئول، كائن يستحق المواساة والشفقة كائن يستحق أن نعامله كإنسان ناضج بلغ مرحلة من النضج لابد أن نعامله معها باعتباره أنه مسئول ولابد أن يتحمل المسئولية وأولها مسئولية أن يحرر نفسه من ظلم الرجل – إذا رأى في معاملة الرجل له ظلماً – أما أن يلقي بمسئولية تحرير نفسه من ظلم الرجل (ومزاجه) على الرجل نفسه فأعتقد أنه منتهى التخلي عن أبسط مكونات الكائن الإنساني الناضج المسئول.
أيتها المرأة لن يحررك التباكي والتشاكي والاتهامات المحمومة التي تكال إلى الرجل، بل لن يحررك ما أحس أن الحال قد وصلت بك إليه، التشبع بالمشاكل والمضايقات حتى الأنف.
وإنما سيحررك شيء آخر، أنت نفسك، ولا تسأليني كيف: فأنا أيضاً لا أزال لا أريد أن أعاملك كطفل يتعلم كيف يدفع الظلم عن نفسه.
عزيزتي حواء..
قبل أن نطالب بمنح المرأة حقوقها السياسية، بل وقبل أن ننشئ تنظيماً للمرأة، وقبل أن نتحمس لها ذلك الحماس الحقيقي أو حتى نتحمس ضدها، فلابد أن تتحمس هي نفسها لنفسها، أو على الأقل لعقلها وثقافتها، وبمثل ما تتقن التجمل إلى حدود تعجز عنها أية امرأة في العالم، أفليس أولى بها أن تتقن تجميل أعظم ما منحه الله لها، عقلها؟
إني لأحس بالحسرة حين أجلس في المترو في لندن أو باريس أو مدريد وأشاهد كل فتاة وكل سيدة منهمكة في قراءة كتاب أعمق الانهماك فإذا شاهدت واحدة بغير كتاب أو مجلة أو ما يشغلها بالمرة غير التطلع فيمن حولها خمنت على الفور أنها مصرية ودائماً ما يكون تخميني صحيحاً.
إن الرجل المصري أيضاً أقل رجال العالم قراءة، والمرأة المصرية أقل مكونات مجتمعنا قراءة، ونحن للأسف نحيا في عالم قارئ، عالم يلتهم الحروف والكلمات والآراء، عالم يلهث وراء المعرفة.
ونحن نلهث أيضاً، كل الفرق أننا نلهث وراء فراخ الجمعية.
لو وضعت الأسرة المصرية – وحين أقول الأسرة أعني المرأة – واحداً – على مائة من الزمن الذي تنفقه لإعداد الطعام وتحبيشه، لتحبيش عقلها وعقول أولادها وبناتها، لما أصبحنا على ما نحن فيه الآن، مجتمع بلا ثقافة وبلا نظام، فالمرأة أو الأم مدرسة، إذا أعددتها شعباً مثقفاً، نظيفاً، منظماً.
يوسف إدريس
من كتاب "خلو البال"