أن مهمة الأنبياء ليست سهلة. فلكي تؤكد الكنيسة دوامها وثباتها الداخلي طورت كل الكنائس أنظمة هرمية. و أوجدت السلطة الهرمية أنظمة حكم، و أنظمة عقائدية و أخلاقية. و تأملت هذه السلطة في أفكار قانونية ولاهوتية من شأنها أن تنظم فكر حياة المؤمنين وتنظيمهم.
هذه الأنظمة التي تعتبرها السلطة الهيراركية (الهرمية) صحيحة ومعيارية "قانوناً" للوجود المسيحي، سميت "أرثوذكسية Orthodox (أي ذات تعليم مستقيم)". نقر أن استمرار المسيحية قد سهله هذا التطور وأن قيام العقيدة الأرثوذكسية الصحيحة تم بمعونة الروح القدس. غير أنه كان ظهر إلى جانب مفهوم "الأرثوذكسية" مفهوم "الهرطقة". و أصبح هذا المفهوم سلاحاً خطراً جداً وفعالاًً في أيدي السلطة. وكان ينبغي دائماً محاربة ما هو "هرطوقي"، ومخالف للممارسة و العقيدة "الأرثوذكسيتين". غير أن هذه المسألة قد أصبحت ذريعة عند السلطة لكي ترفض كل ما لا يروق لها وتتهم بالهرطقة، و أصبحت تهمة "الهرطقة" عبئاً ثقيلاً على كل نبوءة لا تعجب السلطة.
وعند البعض أنه لم يعد هناك حاجة للخدمة النبوية. في زمن العهد الجديد كانت هذه الخدمة تتم كوظيفة أساسية: كانت تفتح الطريق لسبر "أسرار الله" (1كو13:2). إلا أن "الأرثوذكسية" قد أوضحت، مع الوقت، هذه الأسرار وشرحتها ووضعتها في قوانين إيمان، وتشريعات ومجموعات لاهوتية يمكن الوصول إليها بدراسة معمقة ورصينة. هكذا سقطت الخدمة النبوية عن منبرها.
علينا أن نقول هذا الأمر: أحياناً تكون السلطة الدينية عدواً للخدمة النبوية، فتتهم الخدمة النبوية بالانحراف الفارغ وغير الأمين. فهي لا تحتمل فكرة أن الروح – تلك القوة الحرة الصادرة عن الله الحر- يمكن أن يظهر بحرية خارج الحدود المرسومة من قبل السلطة. في قلب الكنائس، يصعب على النبوءة أن تـُسمِع نفسها، وعندما نسمعها لا نصغي إليها.
لكن هذه الخدمة لم تختف كلياً. لا يمكنك أن تسكت الصوت النبوي. طوال تاريخ الكنيسة نسمع أصواتاً نبوية أخفتتها بقدر أكبر أو أقل من النجاح السلطة الكنسية. إذا رغبنا في سماعها علينا التوجه نحو الهراطقة والصوفيين، نحو الذين حاولت السلطة الكنسية أن تكم أفواههم.
هل يصمت الله
ماذا يحصل اليوم؟ لم ينته الصراع بين السلطة والكنيسة والنبوءة. نشهد في أيامنا إدانة من قبل السلطة الدينية لرجال ونساء يُسمِعون أصواتهم النبوية في كنائسهم.
ومع ذلك لم نضع بعد إصبعنا على العائق الأساسي الذي يحاول إيقاف تفتح الخدمة النبوية اليوم. لأن هذا العائق يكمن في مكان ما، في روح "الحداثة". إنه اللامبالاة العنيدة والمنتشرة بكثرة إزاء كل تسام حي و ناشط وحاضر.
بكلام آخر: إنها القناعة بأن الله، إذا كان موجوداً، لا يتدخل في حياة الناس، ولا في حياة كنائسه. هذا الإله الذي يدرك على نحو تأليهي (deism) لا يتكلم ولا يفعل، ويجهل كل شئ عن النبوءة. بالنسبة إليه، النبوءة ليست موجودة أبداً. هذه الفكرة الموجودة عند الذين لم يرفضوا الدين بعد بالكامل وهي فكرة تخنق النبوءة قبل أن تولد.
أن نصغي اليوم أيضاً
مع ذلك فالنبوءة موجودة. فالإله الحي يكسر دروع تأليهيتنا الصلبة. ولا تزال يد الله تستحوذ على الذين تريد أن تعمل من خلالهم في العالم وفي الكنائس. ويدفع روح الله، قوته الفائقة، أولئك الذين يدعون أنفسهم تتحرك بحضوره القوي. لأن هناك "مستنيرين" لا يؤمنون فقط بحضور الروح، ولكنهم يشعرون به وهو يعمل فيهم لأنهم يحيون به. هناك مسيحيون تخلق فيهم من جديد الكلمة التي أرسلها الله، منيرة وضعاً ما بنور كبير، ومظهرة المخرج في ما يبدو طريقاً مسدوداً.
هناك نساء ورجال يعرفون الله ليس من بعيد، أو بواسطة حديث علمي ولاهوتي، بل يعرفونه في قلوبهم، كما يعرفون عمق كيانهم الحميم الذي يبنون عليه حاضرهم.
هناك من يعيشون "التزامات جديدة" كان الله قد وعد بها إرميا.
هل تريدونني أن أسميهم؟ إنهم قربكم، في رعايتكم، ما عليكم إلا أن تفتحوا عيونكم، أو أن تعيروهم آذاناً صاغية.
كارل أ. كيللر
من كتاب "لقد جعلتني نبياً"