ننشر هذا المقال للدرس السيكولوجي والفكري كعادتنا رغم أن المقال في أساسه لا يهدف إلى ذلك، وهذا الدرس البيّن هو أن المفتاح لمعظم حياتنا الراشدة، حتى فيما تتحدث عنه الكاتبة، يكمن في التنشئة المبكرة التي يتعرض لها الطفل مع والديه.
كتبت الإعلامية السعودية نادين البدير تحت عنوان "كنيسة المسلمين" ما يلي:
كان عمري خمس سنوات، وعمرهما سبعة
في صباح العيد الباكر أزهو بملابس العيد الجديدة وأسير لمنزلهما المقابل لمنزل عائلتي. يخرجان ليلعبا معي. أرقب ما يرتديان. أندهش لملابسهما اليومية التي أعرفها جيداً.
كل عيد أسأل أمي؟ لم لا يرتدى أنطوان وإسماعيل ملابس جديدة مثلي؟
فترد: هو العيد ليس بالملابس الجديدة وبس.
وأرد: العيد بماذا إن لم يكن ملابس جديدة؟ وتجيب: لأنهم بيسمعوا كلام مامتهم، فلا يرتديان ملابسهما الجديدة حتى لا يوسخانها.
وفى يوم لا أعرف وقته من كل سنة كانا يوصلان لنا البيض الملون الذي صنعته أمهما. فأسأل أمي: لم لا تأتى لنا ببيض ملون زاه مثل هذا؟ وتقول: خالة خضرة بترسله كل عيد. خلاص كله واحد.
في ديسمبر أتسمر في بيتهما تحت شجرة الميلاد، منبهرة بالأغصان المزينة بأجمل حلة.
سألت أمهما: لماذا لا تضع أمي شجرة مزينة في بيتنا؟
قالت: بيتنا وبيتكم واحد، كلما أردت رؤيتها تعلمين جيدا أن البيت مفتوح لك طوال الوقت. لم أصدق خبرا وأمضيت معظم الشتاء بل معظم سنوات الطفولة في منزلهم الرقيق.
- عمري ثمانية.
التفت حول عنقي آيات الفلق، فيما تدلى من رقبة كليهما صليب صغير.
حمتنا قلاداتنا، مارست دورها.
كل قلادة حمت صاحبها، وخاطت بينه وبين الآخر رابطاً عميقاً وطفولة محبة.
- في عمر التاسعة.. لا تزال القلادة تلف رقبتي.
معلمة المدرسة تهلوس بكلام غير مفهوم.
أنا طاهرة والتوأم رفيق الطفولة نجس!!
أمضيت أياما أراقب تلك العائلة الرحيمة وأنا أفكر في الاكتشاف الجديد.
ننتمي لدينين مختلفين.
لذلك لم أرهما يرتديان لباس العيد يوماً، ولم يكن ببيتنا شجرة ميلاد وما زارنا بابا نويل قط، وتلك الصورة المقدسة لرجل وسيم جداً على جدار منزلهما، حلت محلها آية الكرسي الكريمة على جدار بيتنا. لذا كانت أمي، حين يؤذن مسجد الحي معلنا الصلاة، تهرع لتلتف بالشراشف فتركع وتسجد فيما خالة خضرة تقعد مستكينة.
هذا تفسير كل شيء.. أنا مسلمة وعائلة صديقىّ التوأم مسيحية.
صرت أدعو لرفيقى أن ينجيهما الله مثلما أنجاني.
لماذا نجوت أنا وغرقا في وحل الكفر؟
سمعتني أمي أقول: مسكينة هذه العائلة ستذهب إلى الجحيم.
نهرتني: من أين أتيت بهذا الكلام؟ قلت: من حصص المدرسة.
- انسي تلك الحصص، هذه العائلة مؤمنة جداً.
- مسيحية، ونحن مسلمون.
- مؤمنة ونحن مؤمنون.
لم أدافع أمامها عما تلقيته على يدي المعلمات وأحاديثهن غير المسئولة، كدن يسرقن منى صديقىّ ويرمينهما في النيران بكل بساطة.
فرق بين الدين والإيمان؟
نجت العائلة وستدخل الجنة لأنها مؤمنة، رغم تأكيد كل المناهج الدراسية وبالأدلة أن من يمتلك شجرة ميلاد بمنزله كافر، ومن يعلق تلك الصورة فقد انحرف عن سنة المسيحية الحقيقية.
مرت الدنيا من حولنا بأحداث كثيرة ومشادات كبيرة وحروب أديان.
اهتز كل شيء وانتشرت الشعارات والنظريات.. الحرب على الإرهاب، الغرب المستعمر، الحملات الصليبية تعود.. ولا تزال أمي وخالة خضرة تتبادلان الزيارات وكعك العيد. لا يزال بيتنا يؤمن بأن الله إخاء وسلام.
كنت أشعر كأنه منزل خارج الكون أو أنه الوحيد الذي يعيش حقيقة الكون.
لم يستطع أي داعية أو محدث دين أن يؤثر على إيمانه كما تأثرت منازل كثيرة فتحولت لمعابد متطرفة تكبر وتهلل وتصفق لمقتل الآخر أو سحله في الشوارع. حادثة عابرة واحدة تخللت ذلك الاطمئنان..
حين كنت في التاسعة عشرة، فاجأنا أحد التوأم وهو يتقدم لخطبتي، لم تعلم أمي ماذا تقول، فأفهمها أنه يعرف سبب الرفض.. لأنه مسيحي؟ لا يهم سأعلن إسلامي. لم يفرقنا شيء عندما لعبنا، سيحدث ذات الشيء حين نتزوج، حولت أمي الموضوع لدعابة لطيفة ونسيته بلحظتها ولم تفاتح والدته، وبقيت العلاقة كما هي.
****
- صرت في الخامسة والعشرين.
أنسى ارتداء القلادة، لقد أشبعتني حماية حتى تحصنت جيداً ضد الأذى وهتك الروابط.
كما أنها، لآخرين، مؤشر على أنى طاهرة، وأنا أكره المؤشرات والدلالات.
- قبل زمن، تعارفنا على العشاء في منزل صديقة لي.
له اهتمام عظيم بالموسيقى، اسمه إيلى كسروانى، في الأربعينيات من عمره، بروفيسور يدرس الموسيقى في جامعة لبنانية، كان يرتدى وقتها بزة أنيقة، وله شكل وسيم ووقور.
رجل ليبرالي، على اطلاع مذهل بشتى أشكال الموسيقى، بالنسبة له اللحن روحانية سامية أكثر من مجرد معزوفة.
طال حديثنا ساعات عدة، عن أشياء كثيرة: سياسة، موسيقى، رقصات، أسفار، شعوب... كل عبارة من عباراته كانت تزيد المكان وهجا تنويرياً، شيء لم نتطرق إليه.
الفارق الإيماني بيني وبينه (بحكم ليبراليته) حتى أنه لم يستشهد بالدين مطلقاً، لم نقل أكثر من رأينا بلحن أجراس الكنيسة التي تريحني وهواه لصوت المآذن العذبة ووصفه لها وفخره بها.
بعد أيام قالوا لي إن محدثي رجل في الأصل لاهوتي، مسيحي.
صرت وأبونا إيلى صديقين.. له رسالة واحدة في الحياة.. نشر الحب.
هو من النوع الذي تطغى روحه على جسده، لدرجة أنه بإمكانك أن تراها متجلية أمامك حين يتحرك ويحكى ويضحك ويدندن، لأول مرة في حياتي أشاهد روحاً.
قال لي إنه كان طفلاً صغيراً حين مر وأبوه من أمام مسجد تصدح منارته بالأذان. فسأل أباه: ماذا يحدث وما هذا البناء؟
أجابه: أنها كنيسة المسلمون.
****
لو لم أكن قابلت أمي أو خالة خضرة في طفولتي ويعانى، هل كنت سأكتب عن التوأم أنطوان وإسماعيل بكل حب اليوم؟
هل كان أبونا إيلى سيغدو من أعز أصدقائي؟ هل كنت سأختاره دون تفكير في دينه أو معتقده؟ ولو لم يكن أبوه قد أفهمه أن المسجد والكنيسة هما في النهاية مكان واحد.. أكان ممكناً أن يتحول لرجل دين مسيحي متطرف؟
هل كان سيحب المسجد ويعتبره كنيسة للمسلمين؟
نادين البدير
من جريدة المصري اليوم
15/ 1/ 2010