هناك مزمور أحبه كثيرا، وأريد أن أكشفه لك الآن، فهو يظهر لنا مدى عمق حب الله لكل فرد، حب يتعامل مع الإنسان في عمق كيانه. هذا المزمور هو المزمور 139، أتمني أن يحاول كل فرد درسه، علي أن يتأمل يومياً في آيه واحدة منه. وفي هذا المجال لن أستطيع تحليل المزمور كله، لكني سأركز علي بعض الأفكار التي وردت في بعض آياته.
"يا رب قد سبرتني فعرفتني ..." (الآية 1)
كلمة "عرف" في الكتاب المقدس قد تستخدم للدلالة علي معني معين: "وعرف الإنسان حواء امرأته فحملت وولدت قايين" (تك 4: 1) والعذراء مريم قالت للملاك، حين جاء يبشرها بالحبل المقدس: "كيف يكون هذا ولا أعرف رجلاً؟" (لو 1: 34) فكلمة "عرف" بالمعني الكتابي المقصود هنا تدل علي علاقة زوجية عميقة بين طرفين، و"عرفها" بمعني قابلها علي مستوى عميق، مستوى الحب والجنس، مستوى العلاقة الزوجية، عرف إنسان امرأة بمعني تعلق بها أعمق تعلق.
فحين يستخدم الكتاب المقدس كلمة "عرف" في الآية "يا رب قد سبرتني فعرفتني" يقصد أنه كما يعرف الزوج زوجته بالمعني العميق، كذلك يعرف الله الإنسان، يعرفه في الصميم، وكأنه عارٍ أمامه. فمعرفة الله لي تفوق كل معرفة، وأنا أمامه أكون شفافاً، وكأن نظرته إلى تخترقني. وقد شبهت معرفة الله للإنسان بالعلاقة الزوجية التي تقتضي أن يكون الشخص عاري الجسد أمام الآخر، وهذا العرى لا يصاحبه أي خجل حين يكون تعبيراً عن حب، فلماذا نجد الخجل خارج هذا الإطار؟ لأن الإنسان لا يستطيع أن يكشف ذاته أمام الآخرين إلا في جو معين من الحب والحنان والفهم والتفاهم. فممكن أن نقول أن الحب يستر عورتنا. هكذا خُلق الإنسان عاري الجسد والروح والنفس، عاري الوجدان بدون أن يخجل: "وكانا كلاهما عريانين، الإنسان وامرأته، وهما لا يخجلان" (تك2: 25) هكذا عاش آدم وحواء قبل الخطيئة، عاشا عريانين بدون خجل. وفي الإرشاد الروحي حين يأتي إلىّ شخص للاسترشاد، علي أن أقابله بنظرة حب وحنان و اهتمام، وهذا الجو سيشجعه علي أن يكشف أعمق أسراره بدون حياء. هكذا معرفة الله لنا تجعلنا في حالة شفافية أمامه سبحانه وتعالي، وهذه المعرفة تشكل الإنسان وتجعله كائناً نامياً.
ما زلت متوقفاً عند كلمة "عرفتني" أحاول توضيح بعض معانيها، فالإنسان يعرف الشيء لأنه موجود، لكن الله يوجد الشيء لأنه يعرفه، فمعرفة الله سابقة لوجود الشيء، أما معرفتنا فهي لاحقة لوجوده. لذلك هو يعرفني قبل أن أكون، حلم بي، شكلني في عقله قبل أن يوجدني بصورة محسوسة وملموسة. تماماً مثل الفنان الذي يقضي أياماً وليالي يقلب في خياله الشكل الذي سوف يخرجه، ويوماً ما يقفز من علي سريره، وفي لحظات يُخرج أفكاره علي اللوحة أو بالصلصال. وبذلك تنتقل من مرحلة الفكر إلى مرحلة الإنجاز، وهكذا الله عرفني منذ الأزل.
وكما ذكرت سابقاً، فقد تجسدت معرفة الله واتخذت شكلاً مادياً، فما هي المادة؟ في الحقيقة، هذا السؤال حير العلماء، فبعضهم يرى أنها تجمع من بروتونات و نيوترونات وإلكترونات. هذا هو الجواب المباشر عن السؤال، لكن بعضهم يرى أنها طاقة، لأن هذه الجسيمات الموجودة في النواة يمكن تفكيكها وتحويلها إلى طاقة نووية، بل من الثابت حالياً أن المادة تتحول إلى طاقة في المعمل، فإذا تساءلنا ما هي الطاقة، فمن الصعب تحديد طبيعة الطاقة، هل هي مادية أم معنوية، أم نفسية أم روحية، أم كل هؤلاء مجتمعة؟ أستطيع أن أجمل هذه الأفكار بأن الطاقة الإلهية تجسدت وأخذت شكلاً محسوساً وملموساً هو الخليقة.
"عرفت جلوسي و قيامي، فطنت من بعيد لأفكاري" (الآية 2)
فيما أنا جالس، يعرف جلوسي، وحين أقوم، يعرف قيامي، حين أسير، يتابعني، يتبع كل حركة من حركاتي ويهتم بكل خطوة من خطواتي، فكل اهتمامه ينصب عليّ بل شعرة واحدة لا تسقط بدون إذنه: " شعر رؤوسكم نفسه معدود بأجمعه" (لو12: 7)، فالإنسان ثمين في عين الله.
حتى تفهم أنت أفكاري يكون ذلك من خلال حديثي وحركاتي وتصرفاتي، لكن الله يعرف أفكاري من بعيد، من قبل أن أنطق أو أتكلم يعرفها. هنا يمكن أن نرجع إلى حب الأم ليساعدنا علي فهم ذلك. فليس من الضروري أن يتكلم الابن لكي تفهم والدته ما يدور بذهنه، فقد يحدث أن يعود من المدرسة، وتنظر الأم إلى ملامح وجهه فتعرف أن شيئاً ما قد حدث له، وتسأله عما به، وقد ينكر في البداية، ولكنها تلح في السؤال، وفجأة ينهار ويبكي ليقص عليها ما حدث له، فهي قد عرفت ذلك من خلال حاستها التي تسمي الحاسة السادسة، وهي حاسة روحية تخترق الظواهر.
"قدرت حركاتي وسكناتي وألفت جميع طرقي" (الآية 3)
هنا أتوقف لأن معرفة الله للإنسان، ويا للأسف الشديد، قد تم تزويرها وتحريفها وتشويهها في الماضي، فقد صورناه وهو ينظر إلينا نظرة الرقيب، أو نظرة مباحث أمن الدولة في النظم الديكتاتورية، هكذا صورنا الله وكنا نقول للطفل: كن حذراً .. الله يراك وينظر إليك. عين الله ذات النظرة الثاقبة التي كانت مرسومة داخل مثلث في بعض الكنائس، أوحينا للأطفال بأنه لا مفر منها. لو كانت نظرة الله إلى من هذا النوع، ولو كانت معرفته لي من هذا النوع فياويلي. لكن يجب أن نغير مفهومنا لمعرفة الله لنا. الله يعرفني بشكل آخر مختلف تماماً، معرفته لي هي معرفة حب، ونظرته إلى نظرة حنان.
"قبل أن يكون الكلام علي لساني أنت يا رب عرفته كله" (الآية 4)
هل يوجد حب مثل هذا بين البشر؟ أن يشعر المحب بمحبوبه إلى هذه الدرجة؟ وكما ذكرت سابقاً إن الله يفكر من خلالي، بل أنا أفكر بوحي من روحه. هذا يدل علي أن الكلمة التي أنطقها صادرة منه هو.
"من وراء ومن قدام طوقتني وجعلت عليَ يدك" (الآية 5)
فكما يتكور الطفل داخل حضن الأم، هكذا يحاصرني الله من الخلف ومن الأمام. لذا أنا لا أخشى أحداً، والإحساس بالله في حياتي يجعلني لا أخاف، فكلمة خوف غير موجودة في حياتي علي الإطلاق، وهذا الشعور أحاول أن أنقله إلى الآخرين. حين يأتي إلى أحدهم ويقول: فلان عمل لي عملاً، أنا لا أخاف من سحر ولا شيطان ولا إبليس، لا أخاف لأن الإيمان والحب الحقيقي يلغيان الخوف: "لا خوف في المحبة بل المحبة الكاملة تنفي عنها الخوف لأن الخوف يعني العقاب ومن يخف لم يكن كاملاً في المحبة" (1 يو 4: 18). "وجعلت علي يدك" هذه العبارة جميلة جداً، حين اقرأها أشعر بلمسة يد الله الحانية علي جسمي، يضع يده علي لا كاللص الذي يضع يده علي شيء ليسرقه، ولا كالسيد الذي يضع يده علي الخادم ليعنفه، بل يضع يده علي مثل الأم التي تضع يدها علي رأس طفلها وهو يرضع، تعطيه جرعة من الحنان والغذاء النفسي في الوقت الذي يتناول منها غذاءه الجسمي. من منا يشعر بيد الله عليه؟ يد الله علي يديك، علي جسمك، علي رأسك، وعلي كل كيانك. إن الكتاب المقدس لا يسعه في التعبير عن حب الله وعنايته إلا أن يستعمل أبلغ التعبيرات البشرية. ففي هذه الآية أخذ صورة الاحتضان (الحصار من الإمام والخلف) واللمس (وضعت علي يدك). إن الله يضمني إلى صدره ويلمسني لمسة حب. هذا هو عمق الصلاة الصوفية، أن أشعر بأن الله بداخلي وبجانبي، أن أشعر به وهو يضمني إليه.
"لم تخف عظامي عليك حين صُنعت في الخفاء وطرزت في أسافل الأرض" (الآية 15)
من يدرس في كلية الطب يستطيع أن يدرك جيداً مدى عمق هذه الآية، فمعجزة تكوين الجنين في بطن الأم هي بكل المقاييس معجزة خارقة، حيث يبدأ بخلية واحدة يقل حجمها كثيراً عن سن الدبوس، هذه الخلية تنمو وتتكاثر حتى يخرج منها مخلوق كامل الأعضاء، فكيف يتم ذلك؟ يتقابل الرجل والمرأة… وتشعر المرأة بشيء يتحرك في بطنها، ماذا فعلت حتى تكوّن هذا الجنين؟ لا شيء… أكلت وشربت وعاشت حياتها كالمعتاد، وفي نهاية الأشهر التسعة، تكوّن الطفل، وقد رأيت أمهات عند مشاهدة أطفالهن لأول مرة بعد الولادة، وملامح الدهشة تكسو وجوههن، وكأنهن يقلن: هل أنا التي عملت هذا؟! كلا، إنه الله الذي خلقه. فمعجزة الحمل والولادة هي معجزة بكل المقاييس، ولكن لتكرارها تعودناها حتى اعتقدنا أنها عمل طبيعي. فكيف نعتبر هذا العمل طبيعياً، وكل ولادة هي معجزة في حد ذاتها، وتكرارها لا يزيل عنها صفة المعجزة. الله هو الذي شكلنا في بطن أمي، وهو الذي احتضنني منذ الأزل، ولا يزال يتابع كل حركة من حركاتي.
"رأتني عيناك جنيناً" (الآية 16)
الله يراني، ونظرته إلىّ هي نظرة حب مثل نظرة الأم إلى طفلها، وليست كنظرة الرقيب أو الجاسوس. عين الله عليّ تعني أن العناية الإلهية لا تنفك تحرسني وتحميني وترعاني، ومهما تصرفت فعينه الحافظة علي مثل عين الأم، تراها جالسة تحكي مع جارتها وتسامرها، لكن عينها باستمرار علي ابنها الصغير، أين هو؟ وماذا يفعل؟ عينها لا تنفك تتابعه في كل تصرفاته. هكذا نحن أحياناً نعتقد أن الله مشغول عنا بأمور أخرى، لكنه دائماً ينظر إلينا ويتابع خطواتنا ويرعانا: "الرب راعي فما من شيء يعوزني" (مز 23: 1)
الأب هنري بولاد اليسوعي
من كتاب: "الإنسان وسر الوجود"