يبني الكاتب تعليقه التالي على الأحداث الأربعة المسجلة في الجزء الكتابي من لوقا 8: 22-56، لذا ننصح بقراءة النص الكتابي لهذه الفقرة أولاً لفهم التعليق الذي يعنيه الكاتب.
أ- ضرورة الضيق في الحياة المسيحية
أنه لخطأ فادح أن نتصور أن الحياة المسيحية تحررنا من الضيق فحين يقول يسوع "إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً"، فإنه بكل تأكيد لا يعدنا بان نستثني من المواقف المؤلمة المعتادة في الحياة. إن من يتصور أنه منذ قبول المسيح فصاعداً، فإن الضيق لن يواجهه، فهذه هي بداية الكارثة لأن الضيق لابد أن يأتي، وحين يأتي فإنه سيقاد إلي الشك أو اليأس.
كلا، إن يسوع لا يعدنا بحياة خالية من الضيق، فالواقع ليس هو أن الضيق قد يأتي، أو حتى أنه سوف يأتي، بل أنه لابد أن يأتي. وفي الإصحاح التالي مباشرة نجده يذكر هذا "ينبغي أن ابن الإنسان يتألم .. إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني" (9: 22-23). والكنيسة التي أسسها الآباء الرسل تعلم نفس هذا الحق الصارم "بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله" (أع 14: 22). لذا فإن عنوان هذا الجزء ليس هو إمكانية الضيق ولا حتى حتمية الضيق إنما هو ضرورة الضيق في الحياة المسيحية.
إنه لا يمكننا تجنب الحقيقة أن يسوع كان يسيطر بالكامل علي كل سلسلة الإحداث في هذا الجزء. لقد عبر مع تلاميذه في البحيرة حيث كانت العاصفة ستهب عليهم، وأرسلهم للشاطئ الآخر حيث يقابلهم من به شياطين، ثم أعادهم إلي كفر ناحوم ولفت أنظارهم للمرأة المريضة وسط الجمع، وفي بيت يايروس أخذ معه ثلاثة منهم لمكان الصبية الميتة. لقد أصبحوا أخص مريديه وأعضاء في ملكوت الله، فهل تصوروا أنهم من الآن فصاعداً سيهربون من متاعب الحياة؟ أنه بدلاً من هذا الزمهم أن يواجهوا العاصفة والشيطان والمريضة والجسد الميت. وكآني به يقول لهم أنكم رغم تمتعكم بخلاصي إلا أنكم ما زلتم تعيشون في العالم الثائر المليء بالبشر، فكيف ستواجهونه؟
أن الريح العاصف في البحيرة يمثل الظروف المعاكسة التي لابد وأن تواجهنا، بما فيها العواصف الفعلية التي تواجه المسيحي في سفره كما حدث لبولس. ومجنون كورة الجدريين يمثل الشرور التي تتعب عقول البشر وشخصياتهم وهذه لن نُستثني منها حتى في أيامنا لوجود من بهم شياطين فعلياً. ونزيف المرأة يمثل أي مرض أو ضعف جسدي، وموت ابنة يايروس يذكرنا "بآخر عدو" ينتظر كل واحد منا. أن الرسول بطرس ولا شك قد رأى هذه الحوادث الأربع وهو يلخص هذا الدرس في رسالته الأولي "أيها الأحباء لا تستغربوا البلوى المحرقة التي بينكم حادثة لأجل امتحانكم كأنه أصابكم أمر غريب" (1بط4: 12) ، فمع أنه كان يتكلم بكيفية خاصة عن نيران الاضطهاد، إلا أنه كان يمكن أن يقول هذا عن أي نوع من الضيق، فعلي المسيحيين أن يتعلموا كيف يواجهون الضيق.
ب-النصرة علي الضيق في الحياة المسيحية
في هذه المجموعة من الأحداث نرى هذه الحقيقة بوضوح أكثر، أنه رغم توقعنا للضيق، إلا أنه يمكن الانتصار عليه. وقد ذكرت هذه الإحداث بسبب نهايتها السعيدة.
هل يعتبر هذا تشديداً علي شيء واضح حين نشير إلي من ينتصر علي المشكلة في كل حالة؟ إلا أن الكنيسة قد تكون بحاجة إلي التذكير، سيما بعد تثبيتها وتنظيمها وبدء عملها للتغلب علي مشكلات الضيق، إن يسوع هو الذي يمنح قوته للنصرة علي الشر. وقد يكون من الخير لنا أن نلاحظ أن أفضل تعاون للتلاميذ مع يسوع هو أن يصرخوا إليه طلباً للعون ( 8: 24).
إذا فالإجابة للسؤال "من الذي يستطيع الانتصار علي الضيق" هي "يسوع وحده" . وهذا يمكننا أيضا من الإجابة عن السؤال، وكيف تتم النصرة؟ بنفس العبارات العملية، فإن كان يسوع هو المنتصر، إذا فالحاجة الأولي لمن يواجهون الضيق هي، أن يجعلوه معهم بل أن يكونوا هم معه. بالنسبة لأولئك التلاميذ، كان يسوع حاضراً وكانوا يرونه، أما في حالتنا، فيجب أن يكون حاضراً أمام إيماننا، وفي كلتا الحالتين يكون داخل القلب البشرى "لأنه يجب أن الذي يأتي إلي الله يؤمن بأنه موجود وأنه يجازى الذين يطلبونه" (عب 11: 6). وفي شركة المحبة بين المؤمنين يقول "لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة بإسمى، فهناك أكون في وسطهم" (متي18: 20). إن المبدأ ثابت بالنسبة لنا، كما لهم، أنكم "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً" (يو15: 5). فنحن بحاجة لأن نعرف أنه موجود بالمعنى المزدوج للكلمة، فهو معنا هنا، ومعنا الآن. ثانياً، علينا أن نثق أنه إله الماضي أيضاً فقبل وصولنا إلي الوضع الحالي، كان قد رسم لنا الرحلة إلي جنيسارت والعودة إلي كفر ناحوم (لو 8: 22، 40) وكان قد رأى مقدماً الشرور التي ستواجهنا وما يمكن أن تسببه لنا من رعب، والانتصارات التي سيحققها، والدروس التي علينا تعلمها. فلأنه هو مؤلف القصة، لذا فأنه ليس مقيداً بتعاقب الزمن وتحرك عقول أولاده، فكلمات اللاهوت العظمى، تضيف مجداً خاصاً لعلمه السابق ونعمته ومصيرنا. فها نحن أينما كنا، فإننا لم نأت بغير علمه، ودون أن يعرف كيف يتمجد ويتبارك نتيجة وجودنا ههنا.
هذا يأتي بنا بسرعة للخطوة العملية الثالثة، وهي أن ندرك الحقيقة أن الله سيُخرج من الشر خيراً. فهو ليس فقط إله الماضي والحاضر، لكنه أيضا إله المستقبل نعم إن أمر مستقبلنا يتعلق كله بالإيمان إلا أن هذا الإيمان له أساس ثابت مما نعرفه عن مستقبل أجدادنا. مثل أولئك المسيحيين الذين خرجوا أخيراً من الاختبارات المؤلمة التي قد سجلها لوقا ـ علي سبيل المثال – هنا في الإصحاح الثامن. وسوف نرى بعد قليل ما أعده الرب لهم، وذلك حين نتأمل الهدف من الضيق في حياة المؤمن، إلا أن النتيجة لضيقاتهم، كانت بين يديه المقتدرتين، وهكذا لا شك في أن مستقبلنا ليس أقل ضماناً منهم. بهذه الطريقة يعلمنا يسوع كيف ننتصر من جانبنا علي الضيق. أما من جهة السؤال "كيف من جانبه يقوم به" فيجب أن ندرك أن أساليبه المذكورة هنا، هي فقط مجرد أمثلة تماماً كما أن الضيقات نفسها هي مجرد أمثلة. فهناك مشكلات أخرى وطرق أخرى للتعامل مع المشكلات. إذ نقرأ قصة الكنيسة الأولي نجد أنه كلما ذكر من بهم أرواح شريرة، فأن كل حالة منها قد تم شفاؤها. لكننا نجد أيضا أنه بالنسبة للأمراض، فإن هناك حالات معينة لم يجب الله عليها بشفاء معجزي. بينما بخصوص إقامة الموتى، فإن أغلب المؤمنين الذين ماتوا في القرن الأول لم يقوموا وظلوا أمواتاً. والعاصفة العظمي التي ظلت لمدة أربعة عشر يوماً، المذكورة في العهد الجديد تحطمت في نهايتها السفينة التي كان فيها بولس عند مليطة (أع 27).
إن يسوع قد لا يعطينا نوع النصرة التي نتوقعها، لكنه دائماً ينتصر علي المشكلة بكيفية ما، متى طلبنا ذلك منه. فاستجابته قد تكون إعطاء الراحة وسط ظروف التجربة ، وقد تكون أيضا قوة للاحتمال. ففي المرض قد يستجيبنا بنوال الصحة، وقد يقوينا لاحتمال المرض. قد تكون خطته أن ينقذنا من الدخول إلي باب الموت، أو قد يسمح بالحزن ويعطى معه رجاء جديداً. "لكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رو8: 37).
ج-هدف الضيق في الحياة المسيحية
ينبغي أن نتأمل في الإصحاحات التالية لنكتشف حاجة تلاميذ يسوع إلي تعلم هذه الدروس، لأننا فيها نري منظراً عظيماً كله تحدى. "ودعا تلاميذه الإثنا عشر وأعطاهم قوة وسلطاناً علي جميع الشياطين وشفاء أمراض وأرسلهم" (9 : 1-2). "وبعد ذلك عين الرب سبعين آخرين أيضاً وأرسلهم" (10: 1)
فالإعداد لامتداد إنجيل الكنيسة، كان يستلزم دروساً خاصة تستخرج من معجزات السيد. ما هي الرسالة التي ينطق بها تلاميذ المسيح؟ إنها ليست علي الشفاه فقط بل في حياتهم أيضاً، ما الذي تعلنه شهادتهم المشتركة لهذا العالم؟
ليست الكنيسة جماعة من البشر تسعد بحياة خالية من الضيق. فهي نفسها لم تختبر هذا قط ، وليس لها الحق أن تقدم هذا للآخرين. كما أنها من الجانب الآخر لا ينبغي أن تكون جماعة تغمرها الضيقات وليس لها قدرة، أكثر من غيرها ، للتغلب عليها. كلا فالمعجزة التي ينبغي علي كنيسة المسيح أن تجسدها وأن تنادى بها هي القوة للتغلب علي شرور الحياة فتلاميذ المسيح ليسوا أحراراً من الضيق ولا عاجزين أمام الضيق، لكنهم منتصرون على الضيق. ولنعود مرة أخرى لكلمات الرسول بولس، الصديق العظيم للوقا البشير، وهو يلخص هذا الدرس، ويعرفنا هدف الضيق في الحياة المسيحية، فيقول: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، أبو الرأفة واله كل تعزية، الذي يعزينا في كل ضيقتنا حتي نستطيع أن نعزى الذين هم في كل ضيقة بالتعزية التي نتعزى نحن بها من الله" (2 كو 1: 2-4).
مايكل ويلكوك
من تفسير "الكتاب المقدس يتحدث اليوم"
( إنجيل لوقا )