الذكاء العاطفي (مع تركيز على العلاقات الأسرية)

د. مصطفى حجازي ١٤ نوفمبر ٢٠١٣

تمهيد:

أصبح الذكاء العاطفي ينافس الذكاء العقلي التقليدي في احتلال صدارة معايير النجاح في الحياة والقدرة على إدارتها. إنه مفهوم جديد في الاقتدار يمتزج فيه كل من الطاقات الذهنية والحياة العاطفية ويتكاملان، بحيث يزيد هذا التكامل من مهارة إدارة الحياة الفردية والأسرية والمهنية.

ذاع صيت الذكاء العاطفي في العقدين الأخيرين وانتشرت الكتابات فيه، وتكاثرت برامج تنميته والتدريب عليه للكبار والصغار على حد سواء، في الأسرة والمدرسة والعمل، وكل مجال يتطلب مهارات إقامة علاقات إنسانية وتواصل وتفاهم، وتكيف مع متطلبات الحياة المتكاثرة وسريعة التحول بما يُشكل تحديات كبرى تتطلب التبصر بالذات وأحوالها والتبصر بدوافع الآخرين وتفهم مشاعرها.

 

أولاً: الذكاء العاطفي: النشأة، الأسس، والنماذج

  • نشأة الذكاء العاطفي وأهميته:

طار صيت الذكاء العاطفي في التسعينيات، واحتل غلاف المجلات المشهورة في أميركا، وقدمت تعريفات يصعب حصرها له. وأصبح الذكاء العاطفي بمثابة دلالة على روح العصر، نوع من الموضة التي تشغل المهتمين والإعلام، باعتباره يُشكل منظومة من سمات الشخصية التي تُعتبر هامة في النجاح في الحياة وإدارة علاقاتها. كما يُشكل من منظور آخر منظومة من القدرات القابلة للتنمية من خلال التدريب في مجال معالجة قضايا الحياة الانفعالية. ولذلك أخذ يُعتبر راهنا أحد أهم عوامل النجاح في الأسرة والمدرسة والعمل.

تعود أصول شهرة الذكاء العاطفي إلى بروز نزعة تشكك في طغيان العقلانية في الثقافة الغربية ومجتمعاتها الصناعية، حيث نُصّب العقل بمثابة السيد غير المنازع في أمور العمل والحياة (هيمنة سلطان العقل) على حساب تجاهل حياة العاطفة والانفعال وازدرائها، باعتبارها تُشكل معّوقًا أمام التفكير العقلاني السديد والفاعل والمجرد عن كل مشاعر وأهواء.

إلا أن العقلانية المفرطة هذه أخذت تكشف عن مأزقها على صعيد العلاقات الإنسانية في مختلف مجالات الحياة. لقد بدأ يظهر أن التفوق في الذكاء العقلي لا يكفي وحده لاتخاذ قرارات تتميز بحسن التقدير. وتكررت الشواهد على حالات من الأشخاص متفوقي الذكاء لا يستطيعون التكيف اجتماعيًّا، ويفشلون في مجال العلاقات الإنسانية والتفاعل مع الآخرين.

وتعددت الشواهد الطبية على أناس يمتلكون ذكاءً عقليًّا متقدمًا إلا أنهم يفتقرون إلى القدرة على التعبير العاطفي فيدخلون في مشكلات العلاقة والتفاهم والتوافق مع الذات والآخرين، وخصوصًا على صعيد الحياة الزوجية والأسرية ويعيشون حياة باردة نفسيًّا. فالعاطفة والمشاعر تُعطي التفكير بطانته الوجدانية التي تسبغ عليه دلالة ومعنى. كما أن حياة العاطفة تدفع بدورها النشاط العقلي من خلال الدافعية النفسية وإسباغ الحماس والسرور والإقدام حين الظفر، والإحساس بالمرارة ومختلف المشاعر السلبية في حالات الفشل أو الخسارة. ولذلك أخذ العلماء يعتبرون أن العاطفة هي الترموستات الذي يُنظم وتيرة النشاط الذهني إقدامًا وإحجامًا. فهل يمكن تصور حياة زوجية وأسرية وعلاقات بين الوالدين والأبناء بدون بطانة وجدانية ومشاعر حب ورقة وتقبل؟ وهل يمكن تصور إدارة حياة أسرية ناجحة وسعيدة تقوم على الحسابات العقلانية والمنهجيات الإجرائية وحدها؟ وهل يمكن تصور علاقة بين اثنين في الأسرة والعمل والحياة عمومًا بدون رباط عاطفي، وبدون انفعالات سارة تُشكل لحمة العلاقة، أو انفعالات سلبية تُشكل أساس النزاع والخصام؟

وفي مقابل العقلانية المفرطة التي تُحول الإنسان إلى مجرد آلة حاسبة وبرنامج حاسوب وتجعل الحياة باردة، هناك فرط الانفعال والوقوع تحت تأثير نزواته واندفاعاته وفقدان الضوابط والسيطرة والتعرض لسورات الغضب أو اندفاعات العدوان أو الانخراط في مغامرات غير محسوبة تفتقر إلى التبصر في العواقب وتعرض للوقوع في مآزق لا تخلو من الخطورة. تلك هي حالات الناشئة أو الراشدين الذين يقعون في إشكالات سوء التكيف الأسري والمدرسي والمهني، وقد يصطدمون بالقانون من خلال ارتكاب أفعال نزوية تفتقر إلى التبصر بالنتائج وحسن تقدير العواقب. لقد اتضح من الأبحاث النفسية على الجانحين أن هؤلاء يظلون أسرى انفعالاتهم وفوراتها ونزواتها فينخرطون في سلوكات تسبب الأذى للآخرين ولهم أنفسهم قد يندمون عليها لاحقًا. إنهم يظلون أسرى تحرك حالات انفعالية تفتقر إلى ما يوازنها ويضبطها من تفكير عقلاني وتبصر بالمواقف وتنبؤ بالنتائج. الظاهرة ذاتها تنطبق على الحياة الزوجية وصراعاتها، والتي تتلخص جلها في معادلة اختلال التوازن ما بين العاطفة والعقل وتكاملهما في العلاقة والسلوك، اختلال التوازن ما بين فورات الانفعال والغرق في اللحظة الراهنة، حيث الانفعال السلبي المتصف بالشطط من مثل انفجار نوبة الغضب وبين نشاط التحليل العقلي وموازنة معطيات الواقع وصولاً إلى التبصر بالعواقب، هو ما يؤدي عادة إلى كوارث العلاقة والسلوك المعروفة.

 

  • الحياة الزوجية والأسرية ومعادلة العاطفة – العقل:

هناك العديد من أشكال سوء التوافق الزوجي والصراعات الزوجية اليومية العابرة منها أو الأكثر دوامًا تعود في غالبيتها إلى قصور الزوجين أو أحدهما في إدارة الحياة العاطفية، أي إدارة عواطفه وعواطف الآخر، مما يمثل أحد مقومات الذكاء العاطفي أي الموازنة المتبادلة ما بين الانفعالات والأفكار. سوء التفاهمات الزوجية وصراعاتها أصبحت تربط بدورها بقصور فاعلية الذكاء العاطفي: من مثل النقد القاسي الموجه إلى الشخص وليس إلى السلوك، والتهجم المحمل بالاحتقار أو الاشمئزاز حيث يطلق الشخص العنان لانفعالاته تتحكم بالموقف في حالة من تراجع تفهمه لانفعالات الشخص الآخر. إنه دلالة إصدار حكم صامت (موقف عقلي) يصطبغ بصبغة انفعالية سلبية، حيث يحجب الانفعال مزايا الآخر ويضخم من سيئاته أو عيوبه أو أوجه قصوره.

كذلك هو الحال في ترك الانفعالات السلبية من إحباط وغيظ وغضب ومرارة، أو قلق، تتراكم بشكل تلقائي بدون محاولة النظر في الذات والتواصل مع مشاعرها ووجداناتها. إنه من أبرز أسباب الصراعات الزوجية. ذلك أن التراكم الانفعالي يؤدي عادة إلى حالة "طفح الكيل" المعروفة في علاقات الصراع. وحين يطفح الكيل تنفجر ردود الفعل الانفعالية الغضبية في حالة من تعطيل سيطرة العقل وضبطه، مما يؤدي إلى سلوكات مؤذية أو مدمرة للحياة الزوجية. وقد يطفح الكيل نتيجة أسلوب تجنب المكاشفة الانفعالية، أو المجابهة. تتراكم المشاعر السلبية حين تبقى القضايا بدون تعبير، تعتمل في النفس وتدخل المرء في نوع من التصعيد الانفعالي المتراكم. وهو ما يؤدي إلى كل أشكال الأفكار التحريفية وأساليب التفسير السلبية لسلوك الآخر وإرجاعه إلى نوايا سوء أو أذى يضمرها، أو بروز أفكار تحريفية تتخذ طابع "إنه يريد استفزازي، وإزعاجي، أو النيل منى". وحين تتعطل آلية محاكمة الأفكار الافتراضية هذه والتي قد تكون مغلوطة أو لا واقعية، نكون بصدد قصور في تشغيل الذكاء العاطفي.

بينما أن تحليل المشاعر والانفعالات الذاتية والسيطرة عليها وحسن توجيهها من ناحية، وتحليل انفعالات الآخر واستيعاب حالاته الوجدانية ومشاعره والقدرة على التعامل معها، يفتح الباب أمام تصفية القلوب وتهدئة النفوس وتصحيح الأفكار المحرفة. وهي عملية تدخل في صلب مهارات الذكاء العاطفي الذي يمهد السبيل للتلاقي الفكري والوجداني وتعزيز التقارب والوفاق. ومن أبرز مقومات الذكاء العاطفي التي تساعد على تعزيز الرباط الزوجي والتوافق الأسري الوعي بأن عواطف الآخر وانفعالاته ومشاعره تختلف عن عواطفنا وانفعالاتنا ومشاعرنا. وهي اختلافات تعود إلى خصائص كل من الجنسين. فالزوجات مثلاً يبحثن عن العلاقات الحميمية والحوار والتعبير عن المشاعر والمشاركة في الوجدانيات، نظرًا لتكوينهن البيولوجي النفسي. هذا التركيز الوجداني لدى الإناث هو من صلب مكونات الأنوثة التي تتصف بالبحث عن التقارب والتوادد لأنها حيوية جدًا للقيام بوظائف الأمومة على الصعيد النفسي بما يوفره للمولود الجديد وللطفل بشكل عام، هذا المناخ الحميم والدافئ الذي يؤسس لصحته النفسية وحسن نموه وانفتاحه على الدنيا. بينما أن الطبيعة التطورية للرجال تذهب بهم في اتجاه الفعل. يُشكل هذا التباين في الطبيعة العاطفية البيولوجية – النفسية لكل من الجنسين أحد أسباب الشكاوى الزوجية. عواطف المرأة تريد شد الرجل إلى الحياة الداخلية، وعواطف الرجل تريد منها أن لا تحاصره في هذه الحياة الداخلية. وهنا يلعب الذكاء العاطفي المتمثل في فهم خصائصنا العاطفية وميولنا الفطرية الذاتية من ناحية وفهم خصائص وميول القرين من ناحية ثانية، والعمل على إدارة هذه الفروق في الخصائص أحد أبرز مقومات الذكاء العاطفي كذلك. من يتمتعون بهذه القدرات سيتمكنون من بناء حياة زوجية سعيدة ولها نصيب كبير من إمكانية الاستمرار والنماء.

كذلك الأمر في تفهم الفروق النوعية في العواطف والمشاعر الناتجة عن التاريخ الشخصي لكل من الزوجين وتنشئته وخصائصها في إيجابياتها وسلبياتها، وموروثه النفسي الأسري. وهنا يلعب الذكاء العاطفي دوره الهام في تفهم الذات وتفهم الآخر والمواءمة بين خصائصهما. وينجح الذكاء العاطفي حين يتمكن كل من الزوجين من إدراك النظرية الشخصية الذاتية، ونظرية الآخر الشخصية والعمل على المواءمة بينهما. وينسحب الأمر ذاته على تفهم كل من الزوجين لتوقعاته وتوجهاته الحياتية ومشروعه الوجودي من ناحية وممارسة التفهم نفسه لعالم الآخر وتوقعاته ومشروعه الوجودي. ممارسة الذكاء العاطفي تفتح هنا أيضًا باب اللقاء والتقارب على صعيد العواطف والمشاعر والأفكار والرؤى، بحيث يشكل كل من الزوجين سندًا للآخر، ويتشاركان كلاهما في إنجاز مشروع حياة الأسرة.

تعاق حياة الأسرة ووظائفها، من خلال السيطرة والاستبداد وغياب الأخذ والعطاء. بينما أن التفاهم المتبادل والتعاون والتوافق حيث يجد كل فرد ذاته موقعه ومكانته يُعظم إمكانات المجموعة ويُعبئ طاقاتها ويطلق مواهبها في إيجاد الحلول لقضاياها وتفتح آفاق البناء والنماء. وبالعكس فإن أي مجموعة مهما كانت مؤهلاتها لا تقدم أفضل ما عندها مع تدني الذكاء العاطفي وما يصاحبه من برود وتباعد أو تسلط وتفرد أو غضب وإحباط وغيظ واستياء وتنافس. الذكاء العاطفي يساعد على التحفيز الذاتي وتعبئة الإمكانات والطاقات الذاتية، وكذلك تحفيز الآخرين، مما يؤدي إلى تكوين وحدة في الرؤية وشراكة في الهدف وتضافر الجهود في المساعي.

 

  • العلاقات الوالدية ونمو الذكاء العاطفي لدى الطفل:

الأسرة هي المدرسة الأولى للتعلم العاطفي. في محيط الأسرة الحميم يتعلم الأبناء كيف يشعرون بأنفسهم ويعون مشاعرهم ويعبرون عن أمالهم ومخاوفهم، ويدركون كيف يشعر الآخرون تجاههم. كما يتعلمون كيف يقرأون المشاعر، من خلال العلاقات والحوار والحديث والتواصل غير اللفظي الذي يطلق عملية المنذجة (المحاكاة): كيفية تعامل الوالدين مع أبنائهم تعلمهم كيف يتعاملون مع أنفسهم ومع الآخرين. إذا اتسم تعامل الوالدين مع بعضهما ومع الأبناء بالذكاء العاطفي فذلك يمثل نعمة فعلية للأبناء ويضع أسس الذكاء العاطفي والكفاءة العاطفية في شخصيتهم: الوالدان الأكثر كفاءة في الزواج هما الأكثر كفاءة في التعامل مع الأبناء. نمو التعلق العاطفي ما بين الطفل ووالديه يُنمي كفاءته العاطفية. وينمو هذا التعلق العاطفي إذا أقام الوالدان علاقات حميمة مع الطفل وقدما له الحماية والرعاية، ووفرا حاجاته إلى الأمن والأمان والتواصل وتفهم حاجات الطفل ورغباته. وهو ما يؤسس للطمأنينة القاعدية التي تجعله على وفاق مع ذاته وتساعده على الانفتاح على الدنيا: يشعر الطفل أنه بخير، وأن الآخرين بخير والدنيا بخير؛ مما يرسي أسس الكفاءة العاطفية والكفاءة الاجتماعية، (شابيرو، 2003).

هناك أربعة أساليب من العلاقة ما بين الوالدين والأبناء، لكل منهما تأثيره النوعي على نمو الطمأنينة القاعدية والذكاء العاطفي.

هناك في المقام الأول أسلوب التعلق الآمن بين الوالدين وبينهما وبين الطفل. العلاقات إيجابية والتفاهم قائم وكل طرف يهتم بحاجات الطرف الآخر. هنا ينمو الذكاء العاطفي في جميع مكوناته، ويعبر الطفل إلى الاستقلالية.

وهناك في المقام الثاني التعلق غير الآمن بالوالدين الذي يقوم على خلفية من القلق وانعدام الطمأنينة. يبحث الطفل عن التعلق إنما يسيطر عليه القلق والخوف من الانفصال، مما لا يساعد على نمو الذكاء العاطفي حيث تسيطر على عالمه الذاتي الهواجس من أخطار انفصال ممكنة. ويندرج ضمن هذه الحالة العلاقة التملكية ما بين الأم والطفل التي تجعله أسيرًا فلا هو ينضج نفسيًّا، ولا يستطيع أن ينفتح على الآخرين والدنيا بالثقة اللازمة. يقع الطفل أسير التذبذب ما بين الإحباط والغضب وبين مشاعر الذنب الذي يدفع به إلى التعلق القلق والرضوخي. تقوم هذه الحالة على خلفية من قلق الوالدين (خصوصًا الأم) ومن نزعتها إلى إقامة علاقة تملكية ذوبانية مع الطفل مما يحول دونه وتنمية مرجعية ذاتية.

وهناك في المقام الثالث علاقة التباعد ما بين الوالدين والطفل. يتصف أسلوب علاقة الأهل بالطفل بالبرود العاطفي واللامبالاة وتجاهل مشاعر الطفل (دعه وشأنه) أو الحط من قدر مشاعره. تسود العلاقة حالة من البرود، او عدم الاهتمام. هنا ينكفئ الطفل على ذاته ويتجنب العلاقة مع الوالدين بدوره. وهو ما يؤدي إلى الجفاف العاطفي لدى الطفل الذي يشكل أحد المعوقات الكبرى أمام نمو الكفاءة العاطفية والكفاءة الاجتماعية. ويغلب أن تقوم هذه العلاقة على خلفية التباعد العاطفي بين الوالدين ذاتهما. وقد ينتقل هذا الموروث النفسي الأسري إلى علاقة هذا الطفل الزوجية في سن الرشد.

وهناك أخيرًا نمط العلاقات المتصدعة ما بين الزوجين والتي تعمم على العلاقة مع الأبناء. تصدع العلاقة الزوجية يؤدي إلى الصراع الخفي أو الصريح مما ينعكس على جو الأسرة والعلاقة لديهم ويعرضهم إلى مختلف أشكال سوء التكيف الدراسي والاجتماعي، على خلفية من تراكم مشاعر الإحباط والغضب والعدوانية تجاه الذات وتجاه الدنيا والناس.

أظهرت الدراسات حول الموضوع أن أطفال الوالدين المتمتعين بالذكاء العاطفي والمشبعين عاطفيًّا يتمتعون بدرجة أكبر من التوافق مع الذات والدنيا والآخرين. يصبحون أقل إثارة للتوتر، وأكثر قدرة على التعامل مع عواطفهم، وأكثر فاعلية في معالجة الإحباطات والضغوط والتوترات التي تصادفهم، وأكثر قدرة على ضبط شهواتهم وتأجيل إشباعها لحين توفر ظروف أكثر ملائمة، وهم أكثر قدرة على التركيز والاستيعاب في دراستهم، وأكثر نجاحًا في التعلم وفي الرياضيات. كما أنهم أكثر شعبية على الصعيد الاجتماعي، لأنهم أكثر انفتاحًا على الآخرين وأقدر على إقامة علاقات دافئة ووثيقة معهم.

 

  • الأسس الدماغية العصبية للذكاء العاطفي:

قبل الخوض في التعريفات والمقومات لابد من وقفة سريعة حول الأسس الدماغية العصبية للذكاء العاطفي، (جولمان، 2000).

بينت أبحاث Le Doux أستاذ علم الأعصاب في جامعة نيويورك أن اللوزة Amygdala وهي كتلة صغيرة في الدماغ الأوسط مسؤولة عن التعلم الانفعالي وتخزين الذكريات الانفعالية. هي أول ما يتلقى المثيرات الحسية الواردة من الجهاز الداخلي أو من الخارج، أو بكلمة أدق أن هناك حزمة عصبية فرعية تنقل إليها هذه المثيرات، بينما تتوجه الحزمة العصبية الرئيسية إلى القشرة الدماغية ما قبل الجبهية. تقوم هذه القشرة بتحليل المثيرات وتبيان دلالتها وتحديد الاستجابة المعرفية والسلوكية المناسبة لها. إلا أن اللوزة تستجيب بشكل مباشر ولا واع للمثيرات التي قد تحمل أخطارًا أو تهديدات (سلوك الهروب، أو الغضب المفاجئ والعفوي على سبيل المثال). وهي استجابات حيوية لها قيمة تكيفية حاسمة في مواجهة التهديدات الداهمة التي لا تحتمل تأجيلاً أو تفكيرًا.

إلا أن القشرة الدماغية حين تقوم بالتفكير والتحليل تجاه هذه المثيرات التي تصلها قد تجد أنها لا تُشكل تهديدًا أو هي تقرر سلوك المجابهة المناسب، على عكس اللوزة التي تستجيب بالقتال أو الهروب بشكل آلي خارج عن السيطرة (إفلات الخوف أو الغضب من السيطرة). هذه السلوكات الانفعالية الآلية قد لا تكون متكيفة في الحالات اليومية المعتادة. ولذلك فإن القشرة الدماغية تقوم عادة بضبط ردود الفعل الآلية الصادرة عن اللوزة. وهما يعملان في الحالات العادية بشكل متكامل. فاللوزة تمد النشاط الفكري للقشرة الدماغية ببطانته الوجدانية والانفعالية والتي لولاها لأتى هذا النشاط باردًا محايدًا لا حياة فيه. والقشرة تلك هي الآلية العصبية لما يسمى الذكاء العاطفي، أي تكامل وتآزر عمل كل من نشاط اللوزة مع النشاط المعرفي العقلاني للقشرة الدماغية. وبالمقابل فإن خلل هذا التكامل هو الذي يؤدي إلى اضطراب الذكاء العاطفي وتدنيه حيث يصبح الشخص أسير انفعالاته المختلفة التي تسيطر على سلوكه بدون ضبط أو توجيه من قبل العمليات المعرفية الإدراكية: تلك هي حالات انفجار الغضب أو العنف أو السلوكات الجانحة أو العدوانية، أو الانخراط في مآزق سلوكية منفلتة من السيطرة. ومن هنا أهمية فهم الذكاء العاطفي والتدريب عليه، لما يؤديان إليه من توافق مع الذات، وتكيف فاعل ومؤثر مع العالم.

 

  • مفهوم الذكاء العاطفي:

بما أن مصطلح الذكاء العاطفي يُعتبر من المفاهيم الحديثة نسبيًّا في التراث السيكولوجي، لذا نجد الكثير من الباحثين والدارسين يجتهدون في وضع تعريف واضح المعالم لذلك المصطلح، حتى يسهل على الباحثين تحديد دلالته الوظيفية والإجرائية. نحاول فيما يلي إلقاء نظرة متعمقة على ما يُعرف بالذكاء العاطفي، (جاسم، 2006).

في آخر تعريف لماير وزملائه وسالوفي يشير الذكاء العاطفي إلى قدرة الفرد على التعرف على الانفعالات المختلفة وفهمها، والاستدلال العاطفي، وحل المشكلات ذات الصبغة الانفعالية. كما يتضمن قدرة الفرد على إدارة الانفعالات.

أما جولمان فيُعرّف الذكاء العاطفي في كتابه الذكاء العاطفي كسمة شخصية تتضمن التحكم بالذات، والحماس، والدافعية الذاتية، والتحكم بالعواطف، والقدرة على قراءة عواطف الآخرين، والتعامل بسهولة مع العلاقات. وفي نفس الكتاب يُضيف جولمان المهارات العاطفية المتعلقة بالوعي بالذات، وتعريف العواطف، والتعبير عنها وإدارتها، والتحكم بالرغبات وتأجيل الإشباع وأخيرًا التحكم بالضغوط والتوتر. هذا التعريف يُعتبر شاملاً لأنه يتضمن مظاهر معرفية، وشخصية، ودافعية. إنه القدرة على معرفة المشاعر الذاتية ومشاعر الآخرين، لتحقيق الدافعية الذاتية والتحكم بالمشاعر العلاقات الشخصية. وبحسب جولمان فإن الذكاء العاطفي يتكون من خمسة أبعاد ضمن قدرتين أساسيتين هما التعاطف والمهارات الاجتماعية.

وأما بار-أون فيُعرف الذكاء العاطفي على أنه مجموعة من المهارات غير الذهنية التي تؤثر على قدرة الفرد في النجاح. ومن ناحية أخرى يُعرف بار-أون الذكاء العاطفي على أنه قدرة الفرد على فهم ذاته، وفهم الآخرين من حوله، وتقديره لمشاعرهم، وتكيفه ومرونته تجاه التغيرات المحيطة به، والتعامل بطرق إيجابية مع المشكلات اليومية بما يمكنه من تحمل الضغوط النفسية التي يتعرض لها، والتحكم في مشاعره وإدارتها بكفاءة.

يُلاحظ أن كلام من تعريف بار-أون وجولمان يركز على آثار ونتائج الذكاء العاطفي، ودوره في متطلبات النجاح في الحياة العملية، وكذلك فإن كلاً منهما ينظر إلى الذكاء العاطفي على أنه كيان مستقل بذاته عن سمات الشخصية. كما تتفق التعريفات السابقة في أن مفهوم الذكاء العاطفي ينتمي إلى مجال القدرات العاطفية المعرفية، أي تكامل نشاط المجال المعرفي والمجال العاطفي في السلوك والعلاقات والمواقف من الذات والآخرين.

 

  • نماذج الذكاء العاطفي:

6-1 نموذج جولمان:

يقود جولمان الحركة الشعبية في فهم الذكاء العاطفي، حيث أثار كتابه اهتمام العامة بذلك المفهوم وأدى إلى انتشار هذا المصطلح بشكل سريع وسطهم، نظرًا لجماهيرية عمله، وطرق تطبيق الذكاء العاطفي. سوف نقوم بإلقاء الضوء على نموذجه بالرغم من الانتقادات التي وجهت إليه لجهة ميله إلى الدعاية التجارية والتبسيط العملي، (جاسم، 2006).

في نموذج جولمان هناك خمسة أبعاد للذكاء العاطفي، كل منها يترتب على الآخر، حيث يبني كل بعد على مهارات تم تعلمها في البعد السابق.

-الوعي بالعواطف الذاتية: أي معرفة الفرد لعواطفه التي تتمثل بالقدرة على التعرف على المشاعر مثل السعادة، الحزن إلخ... ينظر جولمان لهذا البعد على أنه حجر الأساس للذكاء العاطفي.

-إدارة العواطف: أي مهارة الفرد في معالجة المشاعر المختلفة (مثل القلق) بطرق مناسبة، فالأفراد الذين لديهم مهارات ضعيفة في هذا البعد نراهم يخضعون لتلك المشاعر، وعلى العكس من ذلك فإن الأفراد الذين يمتلكون مهارات عالية في هذه الناحية نرى أن لديهم القدرة على الوقوف على أقدامهم بسرعة بعد الخبرات المرهقة.

-حفز الذات: أي القدرة على التركيز على إنجاز هدف مقبول. ويعرفه جولمان بأنه القدرة على إرجاء الإشباع والاندفاع.

-التعاطف: أي القدرة على معرفة عواطف الآخرين، عن طريق التناغم مع الإشارات الاجتماعية الصادرة من الأفراد والتي تُبين ما يريدونه أو يحتاجونه.

-التعامل مع عواطف الآخرين: أي المهارة في إقامة العلاقات الاجتماعية، حيث يكون الفرد قادرًا على التعامل مع عواطف الآخرين. فبالنسبة إلى جولمان فإن الكفاءة الاجتماعية تتضمن مهارات القيادة، والشعبية، والفاعلية الشخصية.

6-2 نموذج بار-أون:

يقدم بار-أون نموذجه في محاولة لفهم سبب قدرة بعض الأفراد في النجاح بشكل أفضل من البعض الآخر. ويعرف الذكاء العاطفي على أنه مجموعة من القدرات العاطفية والشخصية والاجتماعية التي تؤثر في قدرة الفرد على التأقلم مع متطلبات وضغوط البيئة. تبعًا لهذا النموذج فإن الأفراد الذين يتمتعون بذكاء عاطفي، تكون لديهم القدرة على التمييز، والتعبير عن العواطف، امتلاك احترام إيجابي للذات، إبراز إمكانياتهم الكامنة بشكل واقعي، وبذلك يعيشون حياة سعيدة. كذلك تكون لديهم القدرة على فهم كيف يشعر الآخرون، وتكوين العلاقات الاجتماعية المتبادلة المسؤولة والحفاظ عليها دون أن يصبحوا اتكاليين. هؤلاء يكونون عامة متفائلين، مرنين، واقعيين، وناجحين في حل المشكلات، مواجهة الضغوط دون فقدان السيطرة، Bar-On and Parker, 2000).

يتكون هذا النموذج من خمسة أبعاد، ينقسم كل منها إلى مجموعة من القدرات والمهارات.

  • البعد الشخصي الذاتي، ويتضمن:

-الوعي بالعواطف الذاتية: القدرة على التعرف على مشاعر الذات وفهمها.

-تأكيد الذات (التوكيدية): القدرة على التعبير عن المشاعر، والاعتقادات، والأفكار.

-احترام الذات: القدرة على التقييم الدقيق للذات.

-تحقيق الذات: القدرة على معرفة إمكانية الذات.

-الاستقلال: القدرة على الاستقلال الفكري، العاطفي والسلوكي.

  • البعد الاجتماعي، ويتضمن:

-التعاطف: القدرة على وعي، وفهم، وتقدير مشاعر الآخرين.

-المسؤولية الاجتماعية: القدرة على إثبات الذات كعنصر فعال، ومتعاون، ومساهم في المجتمع.

-العلاقات الاجتماعية: القدرة على بدء علاقات اجتماعية متبادلة ومرضية محددة بالتقارب العاطفي والحفاظ عليها.

ج. بعد التكيف، ويتضمن:

-اختبار الواقع: القدرة على إثبات مصداقية العواطف الذاتية.

-المرونة: القدرة على تعديل العواطف، والأفكار، والسلوك بما يناسب التغييرات التي تطرأ على المواقف والحالات.

-حل المشكلات: القدرة على تعريف وتحديد المشكلة وتوليد أفضل الحلول الممكنة.

د. بعد إدارة الضغوط، ويتضمن:

-تحمل الضغوط: القدرة على مقاومة الأحداث المعاكسة، والتعامل بشكل إيجابي مع الضغوط والأزمات والمحن.

-ضبط الاندفاع : القدرة على مقاومة أو تأجيل الاندفاعات والتحكم بالعواطف.

ھ. بعد الانطباع الإيجابي، ويختص بالحالة المزاجية العامة، ويتضمن:

-التفاؤل: القدرة على رؤية النواحي الإيجابية في الحياة، والحفاظ على النظرة الإيجابية عند مواجهة الصعاب.

-السعادة: القدرة على الشعور بالرضا عن الذات، والاستمتاع بالحياة. پری بار-أون نموذجه على أنه متصل بإمكانيات النجاح عوضًا عن النجاح بحد ذاته، ويشير بار-أون مؤخرًا لهذا النموذج " بنموذج الذكاء العاطفي الاجتماعي "كمنظور أوسع لهذا المفهوم عوضًا عن الذكاء العاطفي أو الذكاء الاجتماعي، ويعرف هذا النموذج على أنه التقاطع بين الكفاءات العاطفية والاجتماعية، والمهارات والميسرات التي تحدد عملية كيف نفهم ونعبر عن ذواتنا. نفهم الآخرين ونتواصل معهم، والتعامل مع المتطلبات اليومية، (Salvoy and others, 2004)

 

ثانيًا: الكفاءة العاطفية والكفاءة الاجتماعية

تتلخص المقومات السابقة في نموذجي كل من جولمان وبار أون في كفاءتين عامتين متلازمتين وتعززان بعضهما بعضا، في التطبيق والممارسة العملية، مما يوفر الصحة النفسية والنماء والقدرة على إدارة الحياة الذاتية ولعب دور إيجابي بنّاء في العلاقات الاجتماعية وتفاعلاتها وأنشطتها. وهما مجتمعان يمثلان جواز سفر النجاح في الحياة ويفتحان أبواب فرصها (حجازي، 2012 "ب").

 

  • الكفاءة العاطفية:

تتمثل الكفاءة العاطفية في امتلاك الفاعلية الذاتية في إطهار العواطف في التبادلات الاجتماعية وفي الوعي بالعواطف الذاتية وتقويمها وتوجيهها بما يُحقق أهداف الفرد. فالفاعلية الذاتية تعني في الأساس اعتقاد المرء بامتلاكه الكفايات والمهارات اللازمة لإنجاح مساعيه. وبالتالي فالكفاءة العاطفية في الأسرة تتمثل في قدرة أفرادها على إبداء استجابات عاطفية وتطبيق معرفتهم وتعبيراتهم العاطفية في علاقاتهم مع بعضهم بعضًا ومع الآخرين، بحيث يتدبرون سبل تنظيم خبراتهم الانفعالية وصولاً إلى تفاهمات مشتركة وتحقيق أهداف مشتركة من ضمن الالتزامات الخلقية والقيمية والتصرف بحكمه: ماذا يتعين أن يكون، وكيف يجب أن نتفهم مشاعرنا ومشاعر الآخرين ونتحكم بها.

وهكذا يعني الشخص المنخرط في بيئة الأسرة وفي محيطه الاجتماعي ردود فعله الانفعالية ويوازنها في تعامله الفاعل مع الآخرين: متى يجب أن أنفعل ومتى يجب أن أكظم غيظي، ومتى أتعاطف أو أتشدد، أو أتجاهل لإفساح المجال للتبريد الانفعالي. ومتى يجب أن أستوعب انفعالات الآخرين بردود فعل رزينة ومهدئة للموقف.

كما تتضمن الكفاءة العاطفية القدرة على التعلم من الخبرات الانفعالية السابقة وأثرها في إدارة الانفعالات الحالية والمستقبلية. ويتم ذلك من خلال تقويم ردود فعلنا الوجدانية الإيجابية منها كما السلبية وصولاً إلى مزيد من التحكم بالانفعالات وتكييفها لمتطلبات الموقف مستقبلاً.

وهكذا تتضمن الكفاءة العاطفية عدة مكونات: مكون ذكاء عاطفي عام (البطانة الوجدانية العامة) ومكون إدراكي (إدراك الانفعالات الذاتية وانفعالات الآخرين). ومكون فهم (فهم مصادر وأسباب انفعالاتنا وانفعالات الآخرين) ومكون إدارة وتوجيه لانفعالاتنا وانفعالات الآخرين.

يتمثل مكون الإدراك في التبصر بحالاتنا العاطفية، بما فيها إمكانية معايشة مشاعر متناقضة أو مختلفة أو متعددة تجاه موقف معين، أو في الاستجابة لانفعال شخص آخر. ويشمل هذا التبصر إمكانية الوعي بعواطف وانفعالات لا واعية: من مثل الوعي بأن انفعالاً ظاهريًّا معينًا قد يخفي انفعالاً مناقضًا في نفوسنا أو لدى الآخرين. فقد تشعر الأم أو يشعر الوالدان بخوف شديد على أحد الأطفال، أو باندفاع للخضوع لرغباته كرد فعل دفاعي ضد ميل انفعالي خفي ذي طبيعة نابذة لذلك الطفل، مما يحدث في حالات الأطفال ذوي الإعاقات.

ويتمثل مكون الفهم في القدرة على قراءة مشاعر الآخرين وانفعالاتهم الخفية من خلال قراءة لغة الجسد: تعابير الوجه، لغة العيون، لغة العضلات وتوترها أو تراخيها. نحن هنا بصدد تفهم المشاعر الجوانية التي تتعرض للإخفاء والتمويه ولا يتم التعبير عنها والتي قد تتعارض مع المشاعر الصريحة، وأخذها في الحسبان في استجاباتنا الانفعالية وفي تعاملنا مع هؤلاء الآخرين. كما يتضمن الفهم بالضرورة الوعي بتأثير انفعالاتنا على الآخرين وعلى مشاعرهم الصريحة أو الضمنية وأخذها في الاعتبار في إدارة انفعالاتنا من مثل: لقد جُرح أو تأثر من تعبيري الانفعالي الذي كان شديدًا! كما يتضمن الوعي بآثار تعبيراتنا الانفعالية المتكررة تجاه سلوكات الشخص الآخر على المدى البعيد عليه هو ذاته وعلى توازنه كما على علاقتنا معه. كأن نقول لأنفسنا علينا أن ننتبه لعدم إلحاق الأذى بالآخر ودفعه إلى الثورة أو التمرد أو الانسحاب والتباعد، أو الانكسار الذي يؤذي توازنه النفسي.

ويندرج ضمنها كذلك مهارة التعامل المتكيف مع الوضعيات العصبية والمنفرة انفعاليًّا من خلال ممارسة التحكم الانفعالي والتوجيه الانفعالي. من مثل القول لأنفسنا: على أن أحافظ على هدوئي، على أن لا أسترسل في الانفعال، الموقف يتطلب مني التعقل وإعمال البصيرة وتجنب الانجراف في ردود الفعل المؤذية لي أو للآخرين، أو التي تحول دون تمكني من التعامل الفاعل مع الموقف.

ويندرج ضمن هذا المكون أو المهارة القدرة على الاسترخاء والتخفف من الاحتقان النفسي، وعدم الوقوع ضحية فيض الانفعالات المؤذية. ويتوج هذه الكفاءة الانفعالية مهارة التفهم المرحب وتنمية التعاطف والتواصل والمشاركة الوجدانية مع الآخرين من أفراد الأسرة أو الأصدقاء، وتقدير مشاعرهم واحترام تجاربهم الوجدانية، ليس من باب المسايرة أو المجاملة، وإنما انطلاقًا من تعاطف حقيقي يقوم على تقبل شخصية الآخر، حتى ولو اختلفنا معه في هذا التصرف أو ذاك. إننا بصدد ممارسة الأصالة العاطفية التبادلية والتشاركية، مما يؤدي إلى البرح المتبادل: إذ كل مشاركة وجدانية للآخر سيقابلنا بمثلها من جانبه، والعكس صحيح.

وهكذا فالفاعلية الذاتية على صعيد الكفاءة الانفعالية تساعدنا على أن نرى ذاتنا بأننا نشعر كما نود ونرغب أن نشعر، وبالتالي نتمكن من قبول تجربتنا الانفعالية التي تنسجم مع مفهومنا عن ذاتنا ومع قيمنا الموجهة لسلوكنا وعلاقاتنا. وبذلك نفكر من خلال قلوبنا، ونعيش عواطفنا وانفعالاتنا من خلال تفكيرنا ووعينا وتبصرنا.

 

  • الكفاءة الاجتماعية:

الكفاءة الاجتماعية هي الابنة الشرعية للكفاءة العاطفية. ولقد تم التحول في مجال الحياة الاجتماعية من التركز على اكتساب المهارات الاجتماعية إلى التركيز على ممارسة هذه المهارة وصولاً إلى تحقيق نتائج اجتماعية مرغوبة. ذلك أن امتلاك المهارات الاجتماعية لا يعني بالضرورة حسن توظيفها لغايات طيبة. وبذلك تكون الكفاءة الاجتماعية هي توظيف المهارات الاجتماعية لتحقيق التفاعل الإيجابي مع الآخرين وتحقيق نتائج إيجابية للطرفين، ضمن إطار التقدير الاجتماعي المتبادل، (حجازي، 2012 "ب").

وتعرف الكفاءة الاجتماعية على أنها تكامل التفكير والمشاعر والسلوك لإنجاز مهام ونتائج اجتماعية تحظى بالتقدير في السياق الثقافي بما يحمله من قيم وتوجهات. إنها تمثل مهارة ممارسة الحياة التوافقية مع الآخرين ومع مختلف الوضعيات والبيئات.

يضمن المستوى المعرفي في قراءة الموقف وخصائصه: إدراك المفاتيح الاجتماعية وتحليل مؤشرات الموقف الداخلية (المشاعر) والخارجية (التصرفات) بما يؤدي إلى تفسير هذه المؤشرات ودلالاتها (الأسباب، والنوايا)، ومن ثم الانتقال إلى التقدير الواقعي للإمكانات والعوائق أمام الأهداف المرغوب تحقيقها وصولاً إلى اتخاذ القرار الأنسب للفعل.

ويتضمن المستوى العاطفي تشغيل مقومات الكفاءة العاطفية وإدارتها بما يخدم الأهداف الموضوعة. ويتضمن هذا التشغيل تعبئة الدوافع للعمل وشحنها بالطاقة العاطفية والوجدانية (الحماس، التفاؤل والأمل، الثقة بالفاعلية الذاتية). ويتمثل الركن الثالث للكفاءة الاجتماعية في اختيار السلوك الأنسب والأوفر حظًا في التحرك نحو الهدف. وتتضمن الكفاءة الاجتماعية على هذا الصعيد الوعي بآثار السلوك ومترتباته على الذات وعلى الآخرين وعلى تحقيق الهدف. نعي وننتبه إلى ما يحسن عمله، وما يجب تجنبه، أي الوعي بالآثار المرغوبة وغير المرغوبة، وبالمعايير الثقافية التي تحدد المستحسن والمستهجن، المقبول والمحظور.

ويشمل هذا الوعي كذلك التنبه لآثار اللامبالاة وعدم عمل شيء، بل ترك الأمور على عواهنها. ويتضمن السلوك مراقبة التقدم نحو الهدف، وتعديل المسار أو تصحيح الانحراف عندما يبرز في فترة مبكرة وقبل الوقوع في المآزق. كما تتضمن الكفاءة الاجتماعية المرونة في الاستجابات والسوك بحيث تفتح المجال أمام البدائل فإذا فشل سلوك أو تعثر يمكن استبداله بسواه الأكثر ملاءمة.

تلعب الكفاءة الاجتماعية دورًا هامًا في الأسرة والمدرسة والعمل والبيئة المحلية، ومع الآخرين وصولاً إلى تعزيز المكانة الذاتية والروابط مما يُعزز التحصن الذاتي ضد الشدائد والتعامل معها (من خلال العلاقات والانتماءات واحتضان الأصدقاء والأحبة)، وسرعة الشفاء من الأمراض (على عكس العزلة والوحدة)، إضافة إلى تعزيز الصحة النفسية وجهاز المناعة.

أما تنمية الكفاءة الاجتماعية، من ضمن برنامج تنمية الذكاء العاطفي عند الأولاد فتتضمن نتائج هامة أبرزها القبول من الرفاق وبناء الشعبية، والقبول من الكبار (أهل ومدرسين)، والتكيف الدراسي والصحة النفسية، وتجنب الاصطدام بالقانون، والانخراط في سلوكيات تعزز الصحة، وتجنب السلوكات المؤذية (تسرب، إدمان، ...).

كل ذلك في إطار لعب دور بناء ومشارك وقيادي في جماعات الانتماء (البيت، المدرسة، البيئة المحلية، وجماعات الرفاق). إنها باختصار إغناء لحياة الأسرة وأعضائها: والدين وأولادًا.

ليس هناك كفاءة عاطفية أو اجتماعية شاملة معممة. فكل إنسان وحسب نشأته وتكوينه وخبراته كفؤ في مجالات، ومع بعض الناس، وغير كفؤ في سواها.

الأمر الهام في الموضوع هو أنا ليست قدرًا مقسومًا، وإنما هي قابلة للتنمية منذ الطفولة الأولى حيث تلعب الأسرة الدور الحيوي التأسيسي، وتليها بقية مؤسسات التنشئة والحياة. كما أنها قابلة للتنمية في كل الأعمار (في الطفولة واليفاعة، كما في سن الرشد) من خلال برامج أثبتت فاعليتها.

 

من كتاب": الأسرة وصحتها النفسية"

مصطفى حجازي