(ملحوظة للمتصفح: هذه الفكرة طويلة، ونظراً لأهميتها لم نستطع اختصار أي جزء منها. يمكنك نسخها ولصقها بملف خاص على جهازك لقراءتها في وقت لاحق)
يقول لوكونت دو نوى Lecomte du Nouy: "الحرية ليست امتيازاً بل محنة".
نظن أنه من السهل علينا أن نكون أحراراً. لكننا ما أن نجد أنفسنا وحيدين مع ذواتنا لاتخاذ قرار حتى نتراجع، لأننا نشعر حينها بأن الحرية حمل أو نير. أنها تهدد أمان وجودٍ منتظم جداً، حيث يتم توقع جميع الأمور مسبقاً، وحيث لا يكون علينا إلا التسليم والانقياد والانجراف. فتفاهات الحياة اليومية تعفينا عموماً من المسيرة الشخصية التي تضايقنا وتثقل كاهلنا وترعبنا.
حينئذ، نلجأ إلى السلبية، ونعود مرتاحين إلى أغلال العادات والتقاليد والشريعة والتراث التي يريد المسيح أن يحررنا منها، وكأن الحرية تخزنا، فنسعى إلى التخلص منها بأسرع ما يمكن. أننا نسعى بارتياح إلى طرحها عند أقدام أيّ كان، والي التنازل عنها لأي إنسان يقول لنا ما علينا أن نفعله.
لاشك في أن الكنيسة شاركت في هذه اللعبة عن طيبة خاطر. فمطالبتها بالسلطة "علي الطالع والنازل" لا تخلو من الالتباس، كما أنها ليست بعيدة عما في الإنسان من تواطؤ مع هذا الأمر. فالكنيسة وجدت نفسها مقحمة في سلطة مفرطة استعملتها في غالب الأحيان، وبالغت في استعمالها، بحكم القدسية التي تحيط بكل سلطة دينية. علينا أن نقر بأن موقفاً كهذا لا يستند كثيراً إلى الإنجيل.
ألم تـُبق الكنيسة المسيحي في حالة الطفولية بحجة الإيمان القويم والطاعة والخضوع؟ ألم تجعله عبداً لسلطة خارجية؟ ألم تولد فيه موقف عدم الالتزام واللامسئولية، وكانت نتيجة هذا زوالاً حقيقياً للأنسنة؟
لقد أتي المسيح ليعيد الإنسان إلى حريته، لكن الكنيسة أعادته إلى الوصاية، وفرضت عليه نيراً مثل نير العهد القديم في إكراهه. لقد أتي ليعيد الشريعة إلى الوصية الكبرى في المحبة، فعادت الكنيسة إلى العناصر القديمة في الحلال والحرام، وصنفتها بطريقة أدق من تصنيف القوانين الموسوية. أتي المسيح ليهبنا الروح القدس الذي "يعلمنا كل شيء"، فأبدلت الكنيسة هذا الدليل الداخلي، وجعلت مكانه أنماطاً شتي من المقالات الأخلاقية والأحوال والقوانين الكنسية، مما يضاهي تشريعات كتابَي الأحبار وتثنية الاشتراع. ووجد الإنسان نفسه ثانية محبوساً في نظام أشد تصلباً من النظام القديم.
تُعتبر العصور الوسطى وعصر النهضة ذروة هذه الحركة. فقد تجاوزت سلطة الكنيسة حينها كل ما يمكننا أن نتصوره، إذ أصبحت الكنيسة سلطة عليا لا اعتراض عليها، وسادت علي الملوك والأباطرة كما علي الشعب المسيحي الطيب الوديع، فخضع لها واحترمها. ولكي لا يفلت شيء من قبضتها، اخترعت أكثر وسائل القهر غرابة، وهي تباين بين السجن والتعذيب إلى الحرق والتهديد بجهنم. فأصبحت سيطرتها حينذاك أشد من أقوى الأنظمة الاستبدادية التي عرفها التاريخ. كانت طبيعة سلطتها أخلاقية وروحية، أي يكفلها الله نفسه. وكانت تفرض علي أعمق ما في القلوب والضمائر من حميمية.
ما من شيء يوضح ما قلناه أكثر من ملحمة محاكم التفتيش للكاتب دوستويفسكي في قصته "الأخوة كرامازوف".
فأحداث القصة تجرى في القرن السادس عشر بأسبانيا. كانت محاكم التفتيش في أوجها، وكانت غاية عناصر مخابرات الكنيسة هؤلاء هي اكتشاف جميع أنواع الهراطقة والقبض عليهم وجعلهم يقرون"بأخطائهم" بالتعذيب إذا تطلب الأمر ذلك، وإسكات العنيدين منهم بالحرق إذا رفضوا التراجع.
إنها أشد عصور تاريخ الكنيسة سواداً. عصور علينا أن نتحلى بالجرأة لنحدق فيها ونقر بها مع كل فظائعها. وأننا نتساءل عن العلاقة بين هذا النظام وتعليم يسوع، بين هذا القمع الأخلاقي المنتظم والإنجيل.
كان رئيس هذه الشرطة، ويسمى كبيرالمفتشين، يوحي بالذعر والاحترام في آن واحد. إنه صاحب رتبة كنسية عالية، حازم، وقح، غاطس في مهمته "المقدسة" بأن يلاحق الخطأ ويطارد الهرطقة، لا يثق بإنسان ولا بروح الله، مقتنع بأنه يعمل لخير الإنسانية، ويعتقد أن الإنسان بحاجة إلى من يقوده لكي يعيش سعيداً، وأن الله بالغ في تقديره حين خصه بالحرية.
وذات يوم ظهر في أشبيلية إنسان مجهول لا ندرى من أين أتى. وبدأ يشفي المرضى ويستقبل المنبوذين ويقيم الموتى. وأعلن الحرية للجموع، وأعلن أن الإنسان هو المقياس الأعلى والمرجع الأخير. فهب الناس و انتفضوا من خمولهم، وجعلوا يرجون ثانية. وعرفوا فيه يسوع الذي كان يقبل الأطفال قبلاً في فلسطين، ويعلن ديانة المحبة وحرية الروح.
تقول القصة: "هوذا ينزل إلى الشوارع الملتهبة للمدينة الجنوبية، حيث حرق في الأمس كبير المفتشين حوالي مئة هرطوقي لمجد الله الأعظم بحضور الملك وجلسائه والفرسان والكرادلة وحسناوات البلاط. وظهر الرجل خفية من دون أن يلفت الأنظار إليه. ويا للعجب، فقد عرفه الجميع.
مر صامتاً بين الجمع، وهو يبتسم ابتسامة كلها شفقة. كان قلبه يلتهب حباً وعيونه تطلق نوراً وعلماً وقوة، فيشع علي المحبة في القلوب ويوقظها. ومد يده وباركهم. كانت الفضيلة المخلصة تنبثق من ملامسته وحتى من ثيابه.
وشفى عجوزاً أعمي، وأقام أبنة أرملة. فابتهج الشعب ونادى الناس به. في تلك اللحظة، مر كبير المفتشين من الساحة، تحيط به شرطته. وعض علي شفته حين رأى الجموع المحتشدة. أتُراه يسوع حقاً وقد عاد قبل أوانه؟ ما الذي أتي ليفعله، أهذا الهرج والمرج؟ أإثارة الفوضى ثانية والبلبلة؟ وقطب حاجبيه الثخينين، ولمعت عيناه ببريق كإرثي، وأشار إليه بإصبعه، وأمر الحراس بالقبض عليه. ولما كانت سلطته كبيرة جداً، والشعب تعود الخضوع له وطاعته وهو يرتعد، ابتعدت الجموع أمام شرطته بصمت يشبه صمت الأموات. فقبض هؤلاء عليه، وأخذوه. وانحنى الشعب إلى الأرض انحناءة رجل واحد أمام كبير المفتشين. فباركهم من دون أن ينبس ببنت شفة، وتابع طريقه.
واقتيد المعتقل إلى المبني القديم الداكن للمحكمة المقدسة، وحُبس في زنزانة ضيقة مقببة. وانتهى النهار وحل الليل… وفي الظلمة، انفتح باب الزنزانة فجأة، وظهر كبير المفتشين وبيده مشعلاً. تفحص الوجه المقدس، ثم أقترب ووضع المشعل علي الطاولة وقال له:
- أهذا أنت؟ أنت؟ وإذ لم ينل جواباً أردف قائلاً: علي كل حال، ما الذي تستطيع قوله؟ أعرف ذلك تماماً. لا يحق لك أن تضيف علي ما قلته قبلاً. لم أتيت تزعجنا؟ فأنت تعرف أنك تزعجنا…
هل تعرف ما سيحدث غداً .. سأحكم عليك وستحرق مثل أسوأ الهراطقة. وهذا الشعب نفسه، الذي كان اليوم يقبل قدميك، سيسرع غداً، بإشارة مني، ليغذى محرقتك بالحطب. أتعرف هذا؟ وتمتم العجوز مفكراً وهو يحدق بسجينه: ربما! ..
لقد نقلت كل شيء للبابا، فلا تزعجنا إذا قبل الأوان علي الأقل… من خمسة عشر قرناً، كنت تجعل حرية الإيمان فوق كل شيء. ألم تقل مراراً: أريد أن أجعلكم أحراراً؟ وأضاف العجوز بلهجة ساخرة: حسناً لقد رأيت هؤلاء الناس الأحرار. وتابع كلامه وهو يحدق في وجهه بقسوة: أجل لقد كلفنا هذا الأمر غالياً. لكننا أنهينا باسمك هذا العمل أخيراً. لقد احتجنا إلى خمسة عشر قرناً من الكد لنقيم الحرية. وها قد تم الأمر. تم علي ما يرام ألا تصدقني؟ أتنظر إلى بوداعة حتى من دون أن تشرفني بسخطك؟ اعلم يا هذا أن البشر لم يظنوا قط أنهم أحرار مثل الآن. ومع ذلك فقد وضعوا حريتهم عند أقدامنا. الحق يُقال، إن هذا عملنا. فهل هذه هي الحرية التي تحلم بها؟
تريد أن تذهب إلى العالم خاوي اليدين لتعظ الناس عن حرية يمنعهم غباؤهم الطبيعي وشعورهم بالعار عن فهمها، حرية تخيفهم لأنه ما من شيء قط لا يغتفر للإنسان والمجتمع أكثر من هذا… ما من هَم أكثر ديمومة وأكثر إلحاحاً عند الإنسان من هَم البحث عن كائن لينحني أمامه.. فحاجة الجماعة إلى السجود هو الألم الأساسي لكل فرد وللإنسانية بكاملها منذ بداية العالم...
أعيد عليك وأكرر ما من هم للإنسان أشد إلحاحاً من أن يجد وبأسرع ما يمكن كائناً يوكل إليه عطية الحرية هذه التي جلبها معها الشقي عند ولادته… فبدل أن تستولي علي الحرية البشرية زدتها نشراً. فهل نسيت أن الإنسان يفضل الراحة، وحتى الموت، علي حرية تمييز الخير من الشر؟ ما من شيء أكثر جاذبية للإنسان من حرية الاختيار، وما من شيء يؤلم أكثر منها أيضاً … (دوستويفسكي، الإخوة كرامازوف).
لقد تعودت البشرية منذ بداياتها علي أن يقودها سادة أو كهنة أو زعماء أو ملوك أو أباطرة أو مستبدون مثلما يُقاد قطيع الغنم.. فالشعب تابع بطبيعته، وينقاد مثل الطفل، ويرى أن تسليم شخص آخر مهمة الاختيار بدلاً منه والرغبة لأجله وأخذ القرار مكانه هو أريح بكثير.
وفي أيامنا، يسلك ميل الإنسان هذا طرقاً أخرى. فلنحاول أن نحلل بإيجاز مختلف الطرائق التي أخضع بها إنسان اليوم حريته ورهنها أو تخلي عنها.
في المجال الاقتصادي، أصبحنا سجناء الشركات الضخمة – اتحاد احتكاري – اتحاد منتجين – شركات متعددة الجنسيات – تمد شبكة مجساتها علي الكرة الأرضية بكاملها، وتسعي إلى السيطرة علي العالم. إنها تعرض علينا مختلف أنواع المنتجات والقطع بوساطة غزو الدعاية واستبدادها، فتتوصل إلى إقناعنا بأن كل هذا ضروري لنا، وأنه مفتاح سعادتنا. ويجعلنا المجتمع الاستهلاكي هذا تابعين لأنماط زائلة و احتياجات اصطناعية نسعى إلى إشباعها بأي ثمن. فننجر من أعناقنا ونسقط في الفخ بخزي. وعندما ندخل في اللعبة وننجرف في النظام، نصبح عبيداً له.
لقد أخترع المجتمع الرأسمالي أيضاً طريقة أخرى لاستعبادنا، وهي طريقة التأمينات. فشركات في منتهى الجدية تقترح علينا جميع أنواع الضمانات التي تشمل مختلف مجالاتنا الحيوية ومراحل حياتنا، بما فيه الموت نفسه. إن إنسان اليم خائف: خوف من المخاطرة، خوف من المجهول، خوف من الحرية، وهو يطلب من المجتمع أن يحميه ويشعره بالأمان ويؤمنه و يطمئنه. ويعرف رجال الأعمال هذا جيداً ويستغلون هذا الشعور، ويبنون عليه مشاريع مربحة.
في الماضي، كانت الكنيسة هي التي تقوم بهذا الدور، وتستفيد منه مادياً كانت هناك ضمانات الحياة الأخرى: غفرانات كاملة، غفرانات لعدد من الأيام والأشهر والسنين. لازلت أذكر نصاً يُشار إليه في آخر بعض الصلوات: "غفران لسبع سنوات وسبع أربعينات…"
علي المستوى الاجتماعي، يحاول كل واحد أداء دوره البسيط ليظهر في مظهر لائق من خلال توافقه مع القواعد المرعية في المجتمع. إن هذه الحاجة إلى التوفيقية موجودة عند المراهق الذي يهتم بمعرفة كل ما يخص الشباب، كما عند البالغ الذي يهتم بصورته وبمقامه. نحن نتبنى إذاً هذه النظرة أو هذه الطريقة من التصرف أو التفكير أو التعبير أو تسريحة الشعر أو اللبس وفقاً لما تفرضه علينا المجموعة التي ننتمي إليها. ننبطح خائفين أمام رأي الآخرين، عبيداً لـ"ما الذي سيقولونه عني؟" نتوافق مع الذوق السائد، ونتبنى الإقبال اللحظيّ على آخر نزوات الموضة لكي نكون أبناء عصرنا ونكون مقبولين. وقليلون، قليلون جداً، من لديهم الشجاعة في تأكيد ذواتهم، والجرأة في التمايز.
إن خوف الإنسان من أن يكون حراً، الخوف من أن يكون على طبيعته، يحثه على الذوبان في حشدٍ عديم الهوية، على التوافق مع قواعد الوسط المحيط، على خيانة فرادته، على إخضاع شخصيته، على إهمال تفكيره الخاص. وقد تكلمت مع كثيرين على الإنسان الأحادي البعد وصاحب الفكر الوحيد والأفكار الجاهزة.
نجد هذا الميل في النهضة الحالية للنزعة الوطنية أو الإقليمية أو القطرية، التي تصبو إلى أن تعيد للفرد شعور الهوية والأمان والانتماء. ففي الوقت الذي تميل فيه الحدود السياسية إلى الزوال، نرى هذه الحدود تظهر على الصعيد النفسي، سواء على مستوى المجموعات أو الأفراد. خوف من مواجهة الغريب، خوف من استقبال المجهول، ميل إلى التقوقع والانغلاق القطيعي وإلى التعصب الهويّاتيّ، وإلى "الشرنقية" الحامية.
من المخطئ؟ نحن، نحن المستعجلون في بيع أنفسنا أو في عدم الاكتراث للأمور العامة. نحن الميالون إلى التنازل عن حريتنا وإلى مقايضتها بالأمان والراحة، وطرحها عند أقدام حكامنا.
ما كان للفاشية أو للنازية أو الأنظمة الاستبدادية أن تظهر وتنمو وتثبت لو لم تجد فينا تواطؤاً خفياً. فالشعب المرتعد، الشعب الخانع، الشعب المستسلم، لا يستحق الحرية. يقول محلل النفس الألماني الأمريكي الشهير إيريك فروم Erich Fromm في كتابه المعروف "الخوف من الحرية"، إن المستبدين يقيمون سلطتهم على رغبة البشر الغريزية في أن يُسادوا. فبدون هذا الرضى الضمني، ما كان باستطاعة أي مستبد أن يهيمن. "فلأنه كان هناك شعب لا يرغب إلا بأن يحكمه مستبد، وُلِدَ هذا المستبد, لولا ذلك، لما استطاع أن يتسلم زمام السلطة، وأن يتمادى هذا التمادي."
الأنظمة الاستبدادية موجودة لأن الإنسان يشعر في أعماقه بالخوف والاستسلام. فالرغبة الخفية في أن يُساد، والميل المكتوم إلى الخضوع، والخوف من المسؤولية، والمازوخية اللاواعية، و"غريزة الموت" كما يقول فرويد، تحث الإنسان على البلادة والانسحاب.
وفي مجال آخر، وهو مجال الجنس، حيث يمتزج النفسي بالجسماني، تحث الشهوانية المنفلتة الإنسان على الاستسلام لهيجان المتعة في رغبة لاواعية بالذوبان في الآخر أو الالتحاق به. حلم بهيج في تلاشي الذات بنوع من الامتزاج الأولي. ويتشابه الجنس والمخدرات في هذا الشأن لأن الغاية واحدة، وهي فقدان الذات في كلٍ لا مبالٍ، والعودة إلى لاوعيٍ عديم الهوية، واختبارُ من النمط الحلمي والذوباني. يقول علماء النفس أن هذه المحاولة، اليائسة غالباً، في الغوص داخل كلٍ شامل، هي نوع من الحنين إلى أحشاء الأم من خلال انحلال الفردانية وذوبانها.
على المستوى الديني، نجد الميل نفسه. فإنسان اليوم، إذ أنزل الله عن عرشه، خلق لنفسه آلهة جديدة. ففي نفسه احتياج عميق إلى العبادة، وغريزة أساسية تحثه على نكران ذاته وإلغائها والتضحية بها وإفنائها في ما هو أكبر من الذات. وحلت مكان الأصنام القديمة – الآلهة والتماثيل والصور والحيوانات والكتل الصخرية والتمائم – أصنام جديدة، هي التنجيم والمرشد الروحي وسادة الفكر ومعبودي الجماهير من نجوم الرياضة والسينما والغناء.
في الماضي، كانت تـُعلق على الجدران صور المسيح والعذراء والقديسين، واليوم، تـُعلق صور النجوم والأبطال والفنانين.
إن احتياجاً مشابهاً لهذا يؤمّمن نجاح عدد من المعلمين الروحيين أو باعة الحكمة. فهؤلاء "المرشدون الروحيون" القادمون من أسيا أو من كاليفورنيا، يجمعون عشرات الآلاف من الأتباع. فروحانياتهم وطريقة تقشفهم وتقنياتهم في التأمل تسلب ألباب الغرب. وتقوم بعض البدع بإجبار الشباب على التخلص من تأثير أهاليهم والتخلي التام عن حريتهم. وحين يزرعون عقائدهم في عقولهم، يطالبونهم بالتخلي الكامل عن أموالهم وممتلكاتهم وحساباتهم البنكية وحقهم في الميراث، ويتطلبون منهم خضوعاً غير مشروط لأوامر رئيس البدعة، وهو رئيس يعبدونه عبادة حقيقية.
لا يحق لنا أن نترك مسئوليتنا البشرية ولا أن نتخلى عن حريتنا، حتى وإن كان حملها يسحقنا. فهذه الحرية هي قوام عظمتنا وكرامتنا. إنها ليست ترفاً أو امتيازاً أو أمر زائد. إنها واجب ودعوة وفرض. أن يكون المرء إنساناً، يعني أن يختار، أن يكون حراً، أن يرغب في أن يكون حراً، أن يختار أن يكون حراً.
كان الإنسان في الماضي منقاداً نوعاً ما بالعادات والتقاليد، ولم تكن لديه البتة فرصة لأن يختار، أو و كانت لديه فرصة قلقة جداً. واليوم، مع تسارع حركة التاريخ والتغير السريع الذي يميز عصرنا، نجد أنفسنا كل يوم في مواجهة أوضاع جديدة، ومجبرين على اختيارات صعبة ولا سابق لها أحياناً.
أمام تعقيد هذه الاختيارات، يكمن الخطر في اللجوء إلى "اختصاصيين". إنها تجربة جديدة، مفر جديد، طريقة جديدة في التخلي عن الحرية. والخطر الكبير الذي يهددنا اليوم هو السماح لحفنة من التكنوقراطيين بإدارة الكرة الأرضية وتقرير مصير الإنسانية، بحجة أن المشكلات معقدة جداً، ولا يمكن لأيّ كان أن يفهمها ويديرها. فنميل بسهولة إلى الإقرار متواضعين بعدم كفاءتنا.
إليكم بعض الأمثلة:
تستطيع الطاقة النووية أن تبني العالم أو تدمره. فمن يقرر استعمالها؟ أبعض رؤساء الدول؟ أحفنة من العلماء؟ أطبقة محدودة من التكنوقراطيين؟ لكن المسألة تخصنا جميعاً. إنها تخص العالم بأسره. لا يحق لنا أن نتهرب وأن نتملص من مسئوليتنا تجاه رهانات كهذه. لذا، علينا أن نقرأ ونستعلم ونفكر. لا يُطلب منا أن نعرف أسرار الكواركس لنكون قادرين على مناقشة الاختيارات التي تقحمنا فيها الطاقة النووية. فالتحجج بالجهل أو عدم الكفاءة هو هروب من المسئولية. من المفروض علينا أن ندلي برأينا، وأن نلتزم بالمناقشات السياسية.
المشكلة الثانية أقل خطورة، وهي التلاعب بالمورّثات الجينية. لقد قام العلم والتكنولوجيا بقفزة كبيرة مما يجعلنا قادرين قريباً على أن نفعل بالحياة والإنسان ما يحلو لنا. فما الذي نريده؟ ومن يقرر ذلك؟ وإلى أي مدى نستطيع المضي في الهندسة الوراثية؟ هل من حقنا أن نعدّل في الكائن البشري؟ ولما؟ وكيف سيكون إنسان الغد؟ كيف نريده أن يكون؟ هناك اختيارات تفرض نفسها. فمن يختارها؟
ما كان كان للإنسان قط سلطان على الطبيعة مثل سلطاننا، وما كانت اختياراته قط بهذا الشكل القاطع، وما وجد نفسه قط أمام أراء بهذه الجذرية. فنحن في وضع فريد من نوعه في تاريخ البشرية، ويصيبنا الدوار أمام التسلط الذي نكتسبه على الطبيعة. هل يجب إيقاف البحث؟ منع التقدم؟ وهل المسألة هي تقدم حقاً؟ ويتساءل الإنسان: "كيف سيكون الغد؟" لكن الغد يتعلق بإجابتي اليوم واختياري الآن وقراري الحالي. فلا يحق لي أن أستسلم. فالتاريخ سيكون كما أفعله وكما نفعله، ولا وجود للقدرية ولا للمصير المحتوم.
لا نستطيع أن نتحجج بصعوبة الاختيارات التي نواجهها اليوم لكي نتهرب، ولا يحق لنا الانسحاب أمام خطورة المساءل المطروحة على ضمائرنا ولا قبول اختيارات الآخرين بسلبية.
أسباب عديدة تدفعنا في مصر إلى السلبية والانسحاب، وربما ننميها مع شئ من الرضى .. إليكم هذا المثل: اختيار حرفةٍ أو مهنة. إلى متى سيظل الأهل يقررون مستقبل أولادهم؟ إلى متى سيجبرونهم على دراسة هذا النوع من الدروس وعلى اختيار الجامعة من دون أخذ ميولهم أو قدراتهم في عين الاعتبار؟ ما أكثر الشباب الذين انساقوا على هذا النحو من دون أن يُستشاروا إطلاقاً! ما أكثر الشباب الذين أُرغِموا على أن يصبحوا أطباء أو مهندسين أو تجاراً من دون أي ميل إلى هذا الاتجاه أو أي دعوة! ما أكثر الشباب الذين يسلكون طريقاً خطه لهم الآخرون خوفاً من المغامرة وما هو جديد، وخوفاً من المستقبل والمواجهة!
إن الحرية منتهكة في جميع مجالات الوجود. فباختيار التهرب أو القبول السلبي نتنازل عن إنسانيتنا. ومن دون انتفاضة حقيقية، قد نتحول إلى آلات أو رجال آليين. فلنتحلَّ بالشجاعة ونتساءل:
أين أنا من حريتي؟
أين أنا من قدرتي على الاختيار؟
أين أنا من إرادتي في أخذ القرار؟
من المهم أن نشير هنا أن الإنسان لا يصل إلى الحرية بمسار خطيّ مستقيم متجانس، بل بسلسلة من الانفصالات التي تمكنه تدريجياً من نيل استقلاله.
الانفصال الأول هو انفصال الولادة: لا ينال الوليد استقلاليته إلا باقتلاع مؤلم، بموتٍ حقيقي. الانفصال الثاني هو الانفصال الخدمي: على الرضيع أن ينفصل عن ثدي أمه الحنون اللطيف لكي يعتمد فقط على فكيه. الانفصال الثالث هو الذهاب إلى المدرسة: فيه تكف الخلية الأسرية الحامية عن أن تكون حاضرة ليشعر الطفل بالأمان. وفجأة، عليه أن يواجه وسطاً غريباً عجيباً. الانفصال الرابع هو اختيار المهنة أو الوظيفة. الخامس هو الزواج، حيث يبتعد المرء نهائياً عن الوسط الأسري. وهكذا، يحقق الإنسان نفسه من انفصالٍ إلة انفصال، ويصبح فرداً وشخصاً، ويبني هويته ويكتسب فرادته.
ألم يبدأ تاريخ الخلاص برحيلٍ إلى المجهول؟ "وقال الرب لإبرام: انطلق من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك" (تك 12: 1)
كل دعوة هي اقتلاع ونداء من أجل التخطي. وهو النداء نفسه الذي يوجهه يسوع إلينا:
"قم وامش!"
"انطلق! إذهب! إرحل!"
"تعال اتبعني!"
إن هذه الدعوة إلى المخاطرة هي شرط لتحقيق الذات. "من أراد أن يحفظ حياته يفقدها، ومن فقدها حفظها".
إن المسيح يقتلعنا من راحتنا وثقلنا وضمانتنا وقناعاتنا وميلنا إلى النظر نحو الوراء وتعلقنا بالماضي وتقهقرنا نحو فتور الحشا الوالديّ. إنه قوة اقتلاع تهز خمولنا، وتشجب انسحابنا، وتكشف أعذارنا، وتحطم أغلال عاداتنا، وتحررنا من عبودياتنا. لهذا، فإنه يرسل إلينا روحه الذي يساعدنا من الداخل على أن ننمو، ويحثنا على النضج، ويعيد إلينا حريتنا المسلوبة، ويعيدنا إلى إنسانيتنا، وينهضنا، ويدفعنا إلى الانخراط في مغامرة الحرية الكبرى.
لقد غامر يسوع هذه المغامرة بنفسه قبل أن يدعونا إليها، وقد كلفه الأمر غالياً. لأنه تجرأ أن يعلن كلمة عدل في وجه جميع التسويات والالتباسات، كلمة حق، كلمة حرية، فأصبح القوة الثورية الكبرى في التاريخ.
كان رمزاً للمعارضة، ومات في الثالثة والثلاثين من عمره لأنه تجرأ على الالتزام بهذا الطريق.
ونحن أيضاً، إذا كانت لدينا الشجاعة في أن نتبعه، فلنعلم أننا سائرون بدون شك نحو المجابهة. "ما كان الخادم أعظم من سيده" (يو 13: 16). فمن يريد خوض معركة الحرية، عليه أن يعرف أنه سيواجه العقبات والمعارضة والمقاومة والرفض والاضطهاد: "فكما أنهم اضطهدوني، كذلك سيضطهدونكم" (يو 15: 20). فهل أنا مستعد لقبول التحدي؟ هل أنا مستعد لمواجهة مجتمع غارق في التسويات ومبني على الكذب، وقد أفسدته سلطة المال؟ هل أنا مستعد للانخراط في المعركة الكبرى للإنسان، وأن أقول أنا أيضاً كلمة عدالة وحق وحرية.
الأب هنري بولاد اليسوعي
من كتاب: " لا للقدر – كيف أكون حراً"