1- المساكين بالروح (5: 3)
المسكين هو المقهور العاجز عن إنقاذ نفسه، فيلجأ إلى الله طالبًا الخلاص، مدركًا أنه لا يستحقه.
فلكي تكون مسكينًا بالروح، يجب أن تقرَّ بعجزك وفقرك وإفلاسك الروحي أمام الله، لأنه كلنا خطاة واقعين تحت غضب الله المقدس، ولا نستحق إلا دينونته، ولا يوجد لدينا شئ نقدمه أو ندافع به عن أنفسنا، أو نشتري به رضى السماء.
وكما كتب "جون كالفن Calvin": "المسكين بالروح هو الذي يُدرك أنه لا شئ في ذاته، ويعتمد تمامًا على رحمة الله".
2- الحزاني (5: 4)
المسكنة بالروح والاعتراف بها شئ، والحزن والنواح على هذا شئ آخر، أو بلغة لاهوتية: الاعتراف شئ والندم وانكسار القلب شئ آخر.
علينا أن ندرك أن الحياة المسيحية، طبقًا لفكر المسيح، لسيت كلها فرحًا وضحكًا.
وليس المطلوب أن نبكي على خطايا الآخرين فحسب، بل نبكي على خطايانا.
وإني أشعر أن المؤمنين الذين يُنبرّون كثيرًا على النعمة، يستخفون بالخطية ويستهينون بها، ولا يحزنون عليها حزنًا كافيًا.
هؤلاء الحزاني الذين ينوحون على خطاياهم، سيتعزون. لكن العزاء الوحيد الذي سيخرجهم من حزنهم هو غفران الله المجاني لهم، فإن "أعظم عزاء هو إعلان الغفران لكل خاطئ تائب منتخب".
ويسكب المسيح زيت نعمته على جروحنا، ويعزي بسلامه ضمائرنا المجروحة الممزقة، إلا أننا سنظل نبكي على خراب الموت والمعاناة الناتج عن الخطية والذي ينتشر في العالم أجمع. ولا نتوقع عزاء المسيح الكامل، إلا في حالة المجد الأبدية، حيث لن توجد خطية "ويسمح الله كل دمعة من عيونهم" (رؤ 7: 17).
3- الودعاء (5: 5)
الكلمة اليونانية (Praus) التي تُرجمت "وديع" تعني "مُتضع، وعاقل، ولطيف، ورقيق". وأعتقد أن "د.لويد جونز Dr.Lloyd-Jones" كان محقًا عندما ركز على أن الوداعة تتطلب فكرًا متضعًا تجاه الآخرين، يحدده تقديرنا لأنفسنا.
وقد لخص "لويد جونز" هذه بطريقة جميلة، عندما قال: "الوادعة أساسًا هي نظرة صادقة للنفس تظهر في فكرنا وسلوكنا تجاه الآخرين. والشخص الوديع هو الذي يتعجب من صورته الجميلة أمام الله والناس ويتعجب من أنهم يعاملونه معاملة فاضلة!". وهذا يجعل الوديع رقيقًا متواضعًا حساسًا صبورًا في كل معاملاته مع الآخرين.
4- الجياع والعطاش إلى البر (5: 6)
وهذا الجوع الروحي هو أحد صفات شعب الله الذي تتجه طموحاتهم السامية – لا إلى الماديات بل إلى الروحيات. فليس المؤمنون كالوثنيين، غارقين في جمع الثروة، لأنهم يطلبون أولاً ملكوت الله وبره (مت 6: 33).
والبر في كلمة الله له ثلاثة معان: قضائي، وأخلاقي، واجتماعي:
فالبر القضائي، هو ما نراه في التبرير، أي العلاقة الصحيحة مع الله.
والبر الأخلاقي، فهو الذي يظهر في الصفات والسلوك المرضيين عند الله. وبعد أن أنهى المسيح التطويبات قارن بين بر المؤمن وبر الفريسيين (عدد 20) فبر الفريسيين بر الشكل الخارجي وإتمام الطقوس، أما بر المؤمن فهو البر الداخلي في القلب والفكر والدوافع.
والبر الاجتماعي، إنه أن نطلب تحرير الإنسان من الظلم والقهر، ونعلن حقوق الإنسان، ونطالب بالعدالة في القضاء، والنزاهة في العمل، والشرف في البيت والأسرة. وعلى المؤمن أن يكن في حالة جوع للبر في الجتمع الإنساني، لأن هذا سيُرضي الله البار.
وللتخليص: نقول أن التطويبات الأربع الأولى توضح لنا طريق التدرج الروحي، فالطريقة أشبه بسلم نتسلقه درّجًا وراء درّج. فنجد البداية في أن نكون "مساكين بالروح"، نعترف بعجزنا وإفلاسنا الروحي المطلق أمام الله. ثم بعد ذلك، (حزن) على (الفقر الروحي)، الذي هو سبب هذه الحالة، لأننا خطاة، وخطيتنا ناتجة من طبيعتنا الفاسدة الساقطة. ونحزن أيضًا على مُلك الخطية والموت وسيادتها على العالم. ثم الخطوة الثالثة، علينا أن نكون "ودعاء" متواضعين شفوقين على الآخرين لنسمح لفقرنا الروحي (الذي نعترف به نائحين)، ليُشكل سلوكنا تجاه الآخرين وتجاه الله. ثم الخطوة الرابعة، ينبغي أن تكون لنا صفة "الجوع والعطش إلى البر". فما هي فائدة الاعتراف والبكاء على خطيتنا أمام الله والناس، إن لم نتركها؟! إن الاعتراف بالخطية يقودنا إلى الجوع للبر.
وفي الجزء الثاني من التطويبات (التطويبات الأربع الأخيرة)، نتحول من تأمل موقفنا تجاه الله إلى تأمل موقفنا تجاه الناس.
5- الرحماء (5: 7)
إن "الرحمة" هي إظهار الشفقة للمحتاجين، وقد فرّق "ريتشارد لينسكي Lenski" بينها وبين النعمة. فكلمة "رحمة" في اليونانية (eleos) تتعلق دائمًا بما نراه من ألم وبؤس وشقاء سببته الخطية. لكن كلمة "نعمة" في اليونانية (charis) تتعلق دائمًا بالخطية والذنب في حد ذاته. "فالرحمة تقدم معونة" بينما "النعمة" تقدم (تسامحًا). "الرحمة" تشفي وتساعد، لكن النعمة تطهر وتبرئ.
6- أنقياء القلب (5: 8)
يقول التفسير الشائع أن "نقاء القلب" هو النقاء الداخلي، بمعنى التطهير من الدنس الأخلاقي، ولكن أكون أكثر تحديدًا، نقول إن الرب يشير هنا أساسًا إلى الإخلاص، كما يقول (مز 24: 4) "الطاهر اليدين والنقي القلب الذي لم يحمل نفسه إلى الباطل ولا حلف كذبًا". فالنقي القلب في علاقته بالله وبالناس يخلو من الكذب، وهو "المُخلص تمامًا"، صاحب الحياة الخاصة الشفافة أمام الله، والشفافة العامة أمام الناس. قلبه الداخلي، بما فيه من أفكار ودوافع نقية لا يشوبه الخداع أو الفساد أو السوء أو الرياء أو الخداع. فهذه كلها مكروهة لديه، وهو بلا لوم.
7- صانعو السلام (5: 9)
طبقًا لهذه التطويبة، على كل مؤمن أن يكون صانع سلام، سواء في الجتمع أو في الكنيسة. ومن المدهش أن البركة الخاصة التي ارتبطت بصنع السلام كانت "أبناء الله يدعون"، لأنهم يجدّون في عمل ما يعمله أبوهم، فيحبون الناس بمثل محبته.
وكلمة "سلام" وكلمة "هدنة" ليستا مترادفتين، لأن سلام الله ليس سلامًا بأي ثمن. وقد صنع الله سلامنا بثمن غالٍ جدًا هو دم ابنه الوحيد. والتشبيه مع الفارق الكبير، سنجد نحن أن صنع السلام عملية مكلفة. وكان "ديتريتش بوهوفر Bonhoffer" يردد عبارة "النعمة الرخيصة" وأظن أن هناك أيضًا "سلامًا رخيصًا" فالذي ينادي: "سلام. سلام" عندما لا يكون هناك سلام. يكون نبيًا كذابًا، لا مؤمنًا كارزًا.
ونستطيع أن نرى أمثلة كثيرة عن السلام من خلال الألم.
وقد لا نكون أطرافًا في نزاع أو خصام، لكننا نجد أنفسنا في موضع ينبغي فيه أن نصالح شخصين (أو مجموعتين) متخاصمتين ومتباعدتين. وهنا سنختبر ألم الاستماع، وألم تجريد أنفسنا من الانحياز لأحدهما، وألم محاولة فهم وجهات النظر المتناقضة، وألم عدم فهمنا، وألم نكران الجميل، أو ألم الفشل.
وقد صلى المسيح لأجل وحدة شعبه، كما صلى لحفظهم من الشرير ولتقديسهم في الحق، ولكنه لم يكلفنا أن نحفظ الوحدة على حساب قداسة التعليم والسلوك. وإن كانت هناك "وحدة رخيصة" ستكون هناك أيضًا "كرازة رخيصة" فنكرز بالإنجيل بدون أن ندفع ثمن التلمذة، ونقبل الإيمان بدون توبة. مثل هذه طرق ملتوية تحوّل الكرازة إلى خداع، وتجعل الإنجيل رخيصًا، وتدمر قضية المسيح.
8- المضطهدون من أجل البر (5: 10-12)
إن الاضطهاد ببساطة هو صراع بين قيمتين لن يتصالحا أبدًا. فأحيانًا تصعب محاولة صنع السلام مع من يرفضون أن يعيشوا معنا في سلام، ولا تنجح كل محاولات المصالحة، فالبعض قد يبادر بمقاومتنا.
ولكن، نرى ما هي ردود الأفعال التي توقعها المسيح من تلاميذه إزاء الاضطهاد؟! "افرحوا وتهللوا (عدد 12). نحن لا ننتقم مثل غير المؤمنين، ولا نتجهم مثل الأطفال، ولا نلعق جروحنا ونندب حظنا مثل الكلاب، ولا نتحملها ونسخر منها مثل الرواقيين، ولا نتظاهر بأننا نتمتع بها مثل الذين يحبون تعذيب أنفسهم..
إن الاضطهاد يدل على أصالة المؤمن. فالذين يجوعون إلى البر سيعانون لأجل البر الذي يجوعون إليه.
ولا نستغرب إن زادت العداوة ضد المسيحيين، لكن يجب أن نستغرب عندما لا يكون هناك اضطهاد. وعلينا أن نتذكر القول الحكيم: "ويل لكم إن قال فيكم جميعًا الناس حسنًا، لأنه هكذا كان آباؤكم يفعلون بالأنبياء الكذبة" (لو 6: 26). وإن كانت الشهرة العالمية هي السمة المميزة للأنبياء الكذبة، فالاضطهاد هو السمة المميزة للأنبياء الحقيقيين.
ديتريتش بونهوفر علّم دائمًا "الألم هو علامة التلمذة الحقيقية، فالتلميذ ليس أفضل من معلمه. إن اتباع المسيح معناه أن نتألم، لأنه ينبغي أن نتألم". إن التلمذة معناها الولاء للمسيح المتألم، فليس غريبًا أن المؤمن يُدعى ليتألم، بل إن الألم هو علامة النعمة.
ترسم هذه التطويبات أمامنا صورة توضيحية لتلميذ المسيح، فنحن نراه أولاً جانبًا على ركبتيه أمام الله، معترفًا بعوزه الروحي، وحزينًا على حالته. وهذا يجعله وديعًا ورقيقًا في كل علاقاته. وتجعله الأمانة يسمح للآخرين أن يروه بذات الصورة التي يعترف بها هو عن نفسه أمام الله. لكنه لن يرضى بحالته، لأنه يجوع ويعطش إلى البر، ويريد أن ينمو في النعمة والصلاح.
لكننا نرى المؤمن بعد ذلك في الخارج مع الناس والمجتمع. إن علاقته مع الله لم تجعله ينسحب من المجتمع، أو ينعزل عن آلام العالم. بل بالعكس، فهو يضع نفسه في خضم الألم، ويُظهر الرحمة للذين دمرتهم الخطية. إنه مُخلص شفّاف في كل معاملاته، وهو يرد أن يبني ويصنع سلامًا. وبالرغم من ذلك لا يجد من يشكره على كل ما فعله، بل بالعكس يجد من يقاومه ويشتمه ويضطهده من أجل البر الذي يجدّد نفسه له، ومن أجل المسيح الذي كرس حياته له.
هذا هو الشخص الذي يطلبه الرب، والذي يشهد عنه شهادة حسنة، وهو الذي يجد شبعه الحقيقي كإنسان. وفي كل هذا نجد أن قيم ومقاييس المسيح، تقف في صراع مباشر مع القيم والمقاييس التي يقبلها العالم. فالعالم يعتقد أن السعادة في الغنى –لا في الفقر، سواء الفقر الروحي أو المادي. يعتقد العالم أن السعادة في التسيّب والإباحية – لا في البكاء على الخطية.. ويظن أن السعادة في القوة والجبروت – لا في الوداعة والرقة..في الشبع – لا في الجوع.. في الذين يهتمون بأعمالهم الخاصة – لا في الذين يهتمون بالآخرين ويصرفون الوقت في عمل الخير "ولإظهار الرحمة" و"لصنع السلام"..في الذين يحققون أغراضهم بوسائل الخداع وبأي ثمن – لا في أنقياء القلب.. في الذين يتمتعون بالأمن والشعبية ويعيشون في بحبوحة – لا في الذين يُضطهدون.
وكما قال ثيليك: "كل من يدخل في نطاق التلمذة للمسيح ينبي عليه أن يعيد تقييم قيمه بطريقة جذرية".
ولعل هذا ما عبر عنه بونهوفر وسمّاه "غرائب الحياة المسيحية" وقال: "مع كل تطويبة" كانت الهوة تتسع بين التلاميذ وباقي الشعب. وكانت دعوة المسيح لهم ليختلفوا عن الشعب تتضح أكثر، خصوصًا في تطويب الحزانى فالمسيح يأمر برفض انسجامنا مع العالم وتكيّفنا مع مقاييسه. إن هؤلاء الرجال كانوا سينوحون على العالم: على خطيته، وعلى مصيره، وعلى حظه. وبينما العالم يحتفل، نراهم انزووا جانبًا، وبينما العالم يُغني بقدوم الربيع، نجدهم ينوحون لأنهم يرون أن بالرغم من كل المرح الذي على سطح السفينة، لكنها تغرق، فالعالم يحلم بالتقدم والقوة والمستقبل الأفضل، لكن التلاميذ يتألمون على مستقبل العالم، لأنه سيئ، ففي النهاية دينونة أخيرة. ولا يمكن للعالم أن يرتقي لمستوى التلاميذ، لذلك يشعرون أنهم غرباء عن العالم، نزلاء غير مُرحب بهم فيه. إنهم "مقلقو السلام" فلا عجب أن العالم يرفضهم.
مثل هذه القيم الإنسانية المغايرة هي أساس الدين المسيحي. إن طرق الله قد قلبي موازين البشر عمومًا رأسًا على عقب، لأن الله رفع المتضعين ووضع المتكبرين، ودعا الأول آخرًا والآخر أولاً، وأعطى المجد للعبيد وصرف الأغنياء فارغين، وأعلن الميراث للودعاء. إن أخلاق العالم وأخلاق المسيح على طرفي نقيض. فقد هنّأ المسيح المساكين في العالم، وأعطى البركة للمطرودين من العالم.
وهكذا فأتباع المسيح "مختلفون" عن الكنيسة الإسمية وعن العالم الدنيوي، وهم مختلفون عن المتدينين وغير المتدينين. "فالموعظة على الجبل" أكمل صورة وردت في العهد الجديد عن الأخلاق المسيحية "المختلفة" عن أخلاقيات العالم، وفيها توضيح لقيم المؤمن ومقاييسه الأخلاقية وتكريسه الروحي وموقفه من المال، والطموح، وطريقة حياته وعلاقاته، هذه الأمور جميعها تختلف تمامًا مع قيم العالم غير المسيحي أما الأخلاق المسيحية فهي الحياة في ملكوت الله، وهي حياة إنسانية، لكنها تقاس بقوانين إلهية.
وإن كان هناك أمل يتطلع إليه المعترضون أو الباحثون، فالأمل هو في المؤمنين. لكن ما يدعو إلى الخجل هو أن جيل اليوم يتطلع إلى الأمور الحقيقية (المعنى، والسلام، والحب، والصدق). ويبحثون عنها في الأماكن الخاطئة، بينما المكان الذي ينبغي أن يذهبوا إليه هو المكان الذي يجهلونه، إلا وهو الكنيسة لماذا؟ لأنهم في كثير من الأحيان لا يرون فيها أخلاقًا مختلفة، بل يرونها مثل مجتمعهم إنهم لا يرون فيها مجتمعًا جديدًا يجسّد المثاليات التي يتطلعون إليها، فهي صورة مكررة من المجتمع القديم الذي رفضوه. لا يجدون فيه الحياة بل الموت، وهم يصادقون على ما قاله المسيح لكنيسة ساردس في القرن الأول: "لك اسم أنك حي وأنت ميت" (رؤ 3: 1).
وللأسف نحن لا نرى ذلك فقط، بل نشعر أيضًا بفداحة تلك المأساة، فقد صارت الكنيسة على شكل العالم، وأصبحت هي والعالم وجهين لعملة واحدة، فالكنيسة تناقض هويتها، وأكثر ما يؤلمنا من تعليق هو قول العالم للكنيسة: "أنتم لا تختلفون عن العالم من حولكم"، وهو للأسف قول صادق.
إن الغرض الجوهري لكل الكتاب المقدس من التكوين إلى الرؤيا، هو أن يؤكد لنا أن الله يدعو لنفسه عبر التاريخ: شعبًا خاصًا، "مقدسًا"، مفرزًا من العالم، ومخصصًا لله؛ ليطيعه ويسلك بحسب هذه الدعوة في القداسة، ويكون مختلفًا في مظهره وسلوكه. وهذا ما قاله الله لشعبه، بعدما حررهم من العبودية في أرض مصر وجعلهم شعبًا خاصًا دخل معهم في عهد: "أنا الرب إلهكم. مثل عمل أرض مصر التي سكنتم فيها لا تعملوا ومثل عمل أرض كنعان التي أنا آتٍ بكم إليها لا تعملوا وحسب فرائضكم لا تسلكون. أحكامي تعملون وفرائضي تحفظون لتسلكوا فيها. أنا الرب إلهكم" (لاويين 18: 2-4).
وقد بدأ الرب هذه الكلمات بقوله: "أنا الرب إلهكم" وأنهاها بذات القول. ولأنه إله العهد، ولأنهم شعبه الخاص؛ عليهم أن يكونوا مختلفين عن بقية الشعوب، وأن يحفظوا وصاياه، ولا يستمدوا قيمهم ومثالياتهم من العالم حولهم.
ولكن عبر القرون التي تلت إلقاء هذه الكلمات، نسي شعب الله مركزه السامي كشعب لله. وبالرغم من كلمات بلعام عنه: "هوذا شعب يسكن وحده بين الشعوب لا يُحسب" (عدد 23: 9) إلا أنهم في الواقع كانوا يتمثلون بالشعوب التي حولهم "بل اختلطوا بالأمم وتعلموا أعمالهم" (مز 106: 35). فطلبوا ملكًا يحكمهم مثل الأمم، وقالوا: "اجعل لنا ملكًا يقضي لنا كسائر الشعوب" (1صم 8: 5). وعندما ساء الأمر في يعني صموئيل واعترض على أساس أن الله هو ملكهم؛ أصروا في عناد على مطلبهم: "فأبى الشعب أن يسمعوا لصوت صموئيل وقالوا: لا. بل يكون علينا ملك فنكون نحن أيضًا مثل سائر الشعوب" (1صم 8: 19، 20). ولكن الأسوأ من كل هذا، كان انغماسهم في الوثنية، فقيل لهم: "إذ تقولون نكون كالأمم كقبائل الأراضي فنعبد الخشب والحجر" (حز 20: 32)، لذلك أرسل الله لهم الأنبياء تباعًا ليذكروهم بهويتهم وليطلبوا منهم أن يسيروا في طرقه، فقال له إرميا: "اسمعوا الكلمة التي تكلم بها الرب.. لا تتعلموا طريق الأمم" (إر 10: 1، 2)، وقال لهم حزقيال: "لا تتنجسوا بأصنام مصر. أنا الرب إلهكم" (حز 20: 7). إلا أن شعب الرب لم يسمع لصوته. وكان هذا هو السبب الرئيسي الذي أوقع الدينونة على المملكة الشمالية "إسرائيل" ثم بعد نحو مئة وخمسين سنة على المملكة الجنوبية "يهوذا" فإن "بني إسرائيل أخطأوا إلى الرب إلههم..وسلكوا حسب فرائض الأمم. ويهوذا أيضًا لم يحفظوا وصايا الرب إلههم..وسلكوا حسب فرائض الأمم. ويهوذا أيضًا لم يحفظوا وصايا الرب إلههم بل سلكوا في فرائض إسرائيل التي عملوها" (2مل 17: 7، 8، 19. قارن حز 5: 7 و11: 12).
هذ الخلفية ضرورية لفهم "الموعظة على الجبل" التي أوردها "البشير متى" في بدء روايته لخدمة المسيح الجهارية. فبعد المعمودية، والتجربة من إبليس، بدأ المسيح يُعلن الأخبار السارة عن ملكوت الله، الذي وعد الله به في زمن العهد القديم، بواسطة المسيح لبزوغ فجر جديد. لقد نادى المسيح: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات" (مت 4: 17)، وذهب إلى "كل الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت" (مت 4: 23). ومن خلال هذه القرينة، ينبغي أن نفهم "الموعظة على الجبل"، فهي تصف التوبة وتغيير الاتجاه والفكر، وممارسة البر الذي ينتمي إلى الملكوت، وتصف "حالة" الإنسان الخاضع لنعمة الله وسط المجتمع.
وما هي هذه الحالة؟ إنها: "الاختلاف!"
ولا توجد فقرة في "الموعظة على الجبل" تخلو من إظهار أوجه الفرق بين مستوى المؤمن وغير المؤمن "فالاختلاف" هو الموضوع الجوهري والرئيسي في الموعظة، أما الباقي فهو بعض الأمور الاعتراضية.
الدروس التي نتعلمها من "الملح والنور"
يعلمنا تشبيها الملح والنور اللذين استخدمهما المسيح الكثير عن مسؤولياتنا المسيحية في العالم. وأود أن اقدم ثلاثة دروس بارزة:
أ) هناك فرق جوهري بين المؤمنين وغير المؤمنين، وبين الكنيسة والعالم
حيث يتحلى بعض غير المؤمنين بقشرة كاذبة من الأخلاق المسيحية، ومن الجانب الآخر لا يمكن أن تفرق بعض المؤمنين من غير المؤمنين، وهم بهذا ينكرون هويتهم المسيحية بسبب سلوكهم غير المسيحي، إلا أن الفرق الجوهري سيستمر بين الطرفين، فالفرق بين المؤمن وغير المؤمن هو الفرق بين قطعة من الجبنة البيضاء، وقطعة مشابهة لها تمامًا من الطباشير!
ولقد قال المسيح أن الفرق بينهما هو الفرق بين النور والظلمة من ناحية، وبين الملح الحافظ من الفساد وبين الانحلال من ناحية أخرى. وعندما نحاول أن نمحو أو حتى نضيق من هذا الفرق؛ فنحن بذلك لا نخدم الله، ولا نخدم أنفسنا، ولا نخدم العالم. وهذا الموضوع هو أساس الموعظة على الجبل، فهي مبنية على افتراض أن المسيحي "شخص مختلف"، وتدعوه، وتضع أمامه تحديًا ليكون مختلفًا. إن أعظم مأساة عاشتها الكنيسة ومازالت تعيشها عبر تاريخها الطويل هي المحاولة المستمرة لتتشكل بالأخلاق السائدة، بدلاً من أن تزرع أخلاقًا مسيحية مختلفة.
ب) علينا أن نتقبل المسؤولية التي يلقيها علينا هذا التمييز
في كل تشبيه من هذين التشبيهين تجد تأكيدًا وشرطًا مرتبطين معًا. ويضع هذان التشبيهان أمامنا مسؤولية عظيمة. وتأكيدًا يبدأ بجملة يونانية يمكن ترجمتها في اللغة العربية بالقول: "أنتم وأنتم فقط" ملح الأرض ونور العالم. ولهذا؛ يأتي الشرط بكل منطق حازم قائلاً: "عليك أن لا تُخيب ظن العالم الذي دعيت لتخدمه. عليك أن تكون كما يجب أن تكون: (ملحًا)، وتحتفظ بهذه الملوحة، ولا تفقد ملمسك المسيحي. أنت (نور)، فينبغي أن تجعل نورك مضيئًا ولا تخفيه بأية طريقة، سواء بالخطية أو بالتهاون أو بالكسل أو بالخوف".
هذه الدعوة تفترض فينا المسؤولية المسيحية، بسبب ما صنعه المسيح لنا، وبسبب المكانة التي وضعنا فيها. وهي دعوة خاصة للشباب الذين يشعرون بإحباطات في عالم اليوم، فإن مشاكل المجتمع الإنساني صارت عويصة، وهو يقفون أمامها عاجزين شاعرين بصغرهم وعدم تأثيرهم وضعفهم.
وقد سمى "كارل ماركس Marx" أحاسيس الإحباطات هذه بمصطلح "التغريب" (Alienation). فما هي رسالتنا لمثل هؤلاء الناس الذين يشعرون بالغربة، والذين يختنقون من "النظام"، ويضيعون في غمار التكنولوجيا الحديثة، ويغرقون في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يتحكم فيهم ولا يتحكمون فيه؟!
إنهم يشعرون أنهم ضحايا الوضع المحيط، ولا حول لهم ولا قوة، ولا يستطيعون أن يغيروه. إذًا ماذا يعملون؟! لا شك أنه في تربة هذه الإحباطات تنمو الثورات والعنف الذي يريد أن يطيح بالأنظمة. ومن خلال ذات التربة، قامت ثورة بأكثر نشاط، لكنها ركزت على نشر ثورة الحب والفرح والسلام. وهي ثورة أكثر اكتساحًا من أي ثورة عنف، لنها تعتمد على مقاييس لا تضمحل، وهي أيضًا تُغير الناس كما تُغير النظام.
فهل فقدنا ثقتنا في قوة إنجيل المسيح؟!
إذًا لنستمع إلى ((لوثر)) عندما يقول: "بكلمة الله أستطيع أن أكون أكثر تحديًّا وفخرًا وجسارة من الذين تكمن قوتهم في السيوف والسلاح".
ولهذا، فلسنا ضعفاء ولا عاجزين على الإطلاق، لأن لنا المسيح وإنجيله ومثالياته وقوته. وفي المسيح نجد كل (الملح) وكل (النور) الذي يحتاجه العالم الفاسد المظلم. لكن علينا أن يكون لنا (الملح) في ذواتنا، وعلينا أن (نُضئ) بنورنا.
جون ستوت
من "تفسير الموعظة على الجبل"