من يسدد احتياجاتي؟
إن الإنسان هو أكثر من مجرد جسد مادي، فالكتاب المقدس يعلمنا بكل وضوح أن أجسادنا وعظامنا وأعضاؤنا تمثل الهيكل الذي نسكن فيه كأشخاص بصفة مؤقتة. وعندما تتوقف قلوبنا عن الخفقان وتتحلل أجسادنا، يستمر وجود هذا الكيان الذي أدعوه "أنا". فمن يكون هذا الأنا؟
تقول كلمة الله في تكوين 1: 27 أن الإنسان خُلق على صورة الله. فالإنسان إذن يشبه الله، ولكن الله ليس بكيان مادي، بمعنى أنه ليس له جسد مادي (باستثناء طبعاً تجسد الاقنوم الثاني من الذات الإلهية). إن جوهر الله ليس مادي. لذلك، فإن وجه الشبه بيننا وبين الله لا يمكن أن يُوجد في اللحم والعظم، فكياننا المادي لا يشبه الله.
ولكنني كائن "شخصي"، وهذا هو ما يشبه الله. فالله "شخص" مُحب وله قصد، وهو يفكر ويختار ويشعر. وأنا أيضاً "شخص" قادر على الحب، وذو قصد، وأفكر وأختار وأشعر. ويستخدم الكتاب المقدس كلمات عديدة لوصف الكيان الشخصي للإنسان مثل "نفس"، و"ذهن"، و"قلب"، و"إرادة". وأما المصطلح الكتابي "الروح" فيشير إلى أعمق جزء من طبيعة الإنسان الأساسية "كشخص". فعندما أشير إلى "الروح"، أشير إلى أعمق جزء فيّ - وهو الجزء القادر على إقامة علاقة شركة مع الله. دعونا الآن نتحدث قليلاً عن سمات هذا الشخص أو الروح الساكن في أجسادنا.
طلبت مؤخراً من مجموعة من الناس أن يغمضوا عيونهم ويتأملوا في الأسئلة التالية: ما هو الشيء الذي تريده حقاً؟ ما هي أعمق اشتياقاتك؟ ما هو الشيء الذي تشتاق إليه وتعلم أنه سيجلب لك سعادة غامرة؟ وفيما هم يفكرون في الأسئلة، طلبت منهم أن يختاروا كلمة واحدة فقط يمكن أن تعبر عن هذه الأشواق. ومن بين الكلمات خرجت من أفواههم ما يلي: القبول، المعنى، الحب، الهدف (الغرض)، القيمة، الاستحقاق (الجدارة).
وعندما ننظر إلى أعماق قلوبنا، فأغلبنا نستطيع أن نشير بأصابعنا إلى وجود رغبة قوية لأن نحب ونكون محبوبين، لأن نقبل الآخرين وأن نكون أيضاً مقبولين. وعندما نشعر بأن هناك من يهتم بنا حقاً أو عندما نشعر نحن بمشاعر عميقة تجاه شخص آخر، فشئ عميق ما يتحرك بداخلنا. وأنا أعتقد أن اشتياقنا إلى الحب يمثل مجموعة من الاحتياجات التي تـُعَرف جزئياً معنى كون الإنسان شخصاً أو روحاً.
وإن واصلت التفكير في رغباتك الداخلية، قد تكتشف أمراً آخر. فهل تختبر شعور غير ملموس بالكمال، شعور بالأهمية والشبع عندما تقوم بعمل شيء هام؟ هل تصاب بالملل من غسل الصحون أو قص حشائش الحديقة بينما أمور مثل محاولة اتخاذ قرار مصيري أو التجاوب مع حالة طوارئ صحية تمتد لتلمس أجزاء أعمق من شخصيتك؟ نحن نشعر بالمعنى والقيمة في ما نعمله، حتى وإن كان مرهق للأعصاب. إذن يحتاج الإنسان بحكم كونه شخص إلى مجموعة أخرى من الاحتياجات وهي الحاجة إلى معنى وقيمة.
وكأشخاص أو كائنات روحية مخلوقة على صورة الله، الذي هو محبة، كان للإنسان سعة وقدرة على الحب كانت قبل السقوط مملوءة ومتدفقة باستمرار نتيجة لعلاقة الشركة غير المكسورة مع الله. ولكن بمجرد أن انفصل الإنسان عن الله نتيجة سقوطه في الخطية، لم تعد سعته وقدرته على الحب مملوءة أو متدفقة وبالتالي تحولت قدرته هذه إلى احتياج - احتياج إلى الحب، أو بتعبير آخر أفضل استخدامه احتياج إلى الشعور بالأمان.
كان إبراهيم على استعداد لأن يترك بيته ويسافر مسافة طويلة لأنه كان يبحث عن المدينة التي لها الأساسات، مدينة صانعها وبارئها الرب (عبرانيين 11: 8-10). كان هناك دافع وراء ما فعل. أيضاً احتمل أرميا اضطهاد لا حدود له وظل أميناً حتى في يأسه لأن غرض خدمته كان كنار مشتعلة في داخله (ارميا 20: 9). كما رضي بولس أن يؤجل رغبته في الدخول للسماء لأنه أدرك مدى أهمية وقيمة خدمته على الأرض (فيلبي 1: 21-24). كان الدافع وراء عمل كل من هؤلاء القديسين هو شعورهم بأن ما يقومون بعمله له أهمية وقيمة، وكانوا كأشخاص لديهم القدرة على إدراك الغرض والقيمة من حياتهم. وقبل أن يسقط آدم في الخطية، فإن اشتراكه في تتميم غرض الله منه كان أمراً مشبعاً بالكامل لحاجته للمعنى وللقيمة في الحياة. ولكن بعد تمرده على خطة الله، بقيت رغبته في الشعور بالأهمية والقيمة من خلال ما يقوم بعمله غير مُشبعة - كان في حاجة إلى الشعور بالقيمة.
إن الهوية غير المحسوسة التي أقوم بتعريفها باستخدام اللفظ "أنا" لديها احتياجان عميقان هما حقيقتان شخصيتان دالتان على كيان الإنسان ولا يمكن إخضاعهما للتحليل الحيوي أو الكيميائي. هذان الاحتياجان لهما وجود شخصي مستقل عن الجسد المادي يشكل جوهر معنى كون الإنسان روح. وفي هذين الاحتياجين تنعكس صورة الله. فالله كائن شخصي وجوهر طبيعته هو المحبة، ولأنه إله المقاصد (الأغراض) والأهداف، فهو من أبدع المعنى في الوجود. نحن أيضاً كائنات شخصية ولكننا لا نشبه إلهنا في أزليته واكتفائه الذاتي وكماله، فنحن كائنات محدودة غير مستقلة وساقطة. الله محبة، ونحن في حاجة إلى المحبة. كل ما يفعله الله له قصد ومعنى، ونحن في حاجة لأن نفعل أشياء لها قيمة ومعنى.
يمكن تلخيص هذين الاحتياجين فيما يلي:
الأمان: وهو إدراك فعلي للاحتياج إلى المحبة غير المشروطة التي لا أحتاج لأن أتغير حتى أحصل عليها. إنه احتياج للحب الذي يُعطى بالمجان ولا يسعى المرء لاكتسابه وبالتالي لا يمكن أن يُفقد.
المعنى/القيمة: وهو إدراك بأن المسئولية أو العمل الذي أقوم به هام بالفعل وأن نتيجته لن تتبخر على مر الزمن ولكنها ستبقى إلى الأبد وهذا يعني بصورة أساسية التأثير على حياة شخص آخر. إنه عمل أشعر من خلاله بأني إنسان كفء.
إذن فإن ما يحتاجه الإنسان لكي يكون شخص أو روح، هو وجود هوية أو كيان يشعر بالأمان والقيمة حتى يؤدي وظيفته بفاعلية. وعندما يتم تسديد هذين الاحتياجين، يشعر الإنسان بأنه شخص ذو قيمة وجدارة.
(يتبع الأسبوع القادم)
---------------------------
من كتاب: "The Marriage Builder"
لدكتور. لاري كراب
الفصل الثاني