من يدعي بأنه لم يشك لا يعرف الإيمان لأن الإيمان يأتي عبر الشك.. وعلى نقيض ما يميل معظم الناس أن يتخيلوه، فإن أعظم المؤمنين تهاجمهم الشكوك. إنهم لا يؤمنون لأنهم تخلصوا من كل هذه الشكوك، ولكنهم يؤمنون بالرغم من ترددهم وخوفًا من الخطأ.
عرفت الكثيرين من الذين يذهبون إلى الكنيسة ويعانون من الوحدة التي فرضت عليهم بسبب سمعتهم كمؤمنين. وكل واحد ينظر إليهم كما لو أنه ينظر إلى أناس لا يستطيع الشك أن يلمسهم. إنهم يتساءلون ما إذا كان إيمانهم حي حقيقة أم هو مجرد موقف متحجر، ولا يمكنهم أن يتخلوا عنه خوفًا من إعطاء مثل سيئ للآخرين.
إن الشيء المثير – والذي دعاني إلى القول بأن الإيمان الحقيقي سيظل في خوف ورعدة – هو التأكد الذي لدى كل هؤلاء الناس وليس له إجابة. ونفس الشيء ينطبق على أولئك الذين – بعد حصولهم على اختبار روحي عاطفي أكثر منه ملموس - يعلنون في حماس أن حياتهم تغيرت تمامًا، في حين أن الناس حولهم لا يرون شيئًا جديدًا إلا مجرد شعور بالتفاؤل. وبمجرد تعرفهم على المسيحية يعتقدون أنهم يعرفون كل شئ عنها. ولا يخشوا من أية هزيمة بل ويشعروا أن الله يرشدهم ساعة بعد الأخرى وليست لديهم أية صعوبة لمعرفة تعليماته وإرشاده لهم.
في إحدى المرات زارني رجل خرج لتوه من السجن. وقال لي بكل حماس أنه وهو في السجن قرأ إحدى كتبي وابتدأ يصلي. وشعر أنه نال حياة جديدة. وشعرت بنوع من الضيق وهو يتحدث. قصته كانت سهلة. وكان يشعر بنوع من الرضا أكثر منه بالتواضع. وحتى عندما كان يتحدث معي عن الجرائم التي كانت سببًا في دخوله إلى السجن لم تكن لدية أيه قناعة حقيقية بالخطية. وباختصار شعرت أن التغيير الذي حدث معه كان عاطفيًا. ولم تكن هناك أية علامات لقرارات ملموسة أو إصلاحات لنفسه يقوم بها. وقررت أن أكون صريحًا معه، وقلت له أنني لا أشعر بالارتياح إزاء كل ما قاله. وبعد بضعة أيام جاء إلى مرة أخرى ولكن كانت نغمة صوته مختلفة تمامًا حيث قد اعترف لي بالقصة الحقيقية لخطاياه السرية التي هي السبب الحقيقي لارتكابه كل الجرائم.
أعتاد أحد اللاهوتيين السويسريين ويدعى Vinet أن يقول عند نهاية حياته إنه وصل فقط إلى بداية الإيمان.
وسواء كان الرجال والنساء متدينين أم لا فيبدو لي أن لديهم واحد من ثلاثة مواقف في الحياة: موقف ساذج وبسيط، وموقف يتسم بالشك، وموقف يؤمن ويفكر.
الشخص العاطفي له موقف ساذج يحركه أي إيحاء. قل له شيئًا عن نظام غذاء طبيعي، أو أسلوب جديد للتعليم الذاتي، أو الإيمان المسيحي وفورًا يعتقد أنه أكتشف الحقيقة الكاملة. وسوف يحاول أن يقنع الآخرين بذلك حتى وإن لم يكن قد طبقه هو في حياته.
وبهذا الأسلوب من الفهم يُصبح الإيمان، سواء كان دينيًّا أو دنيويًّا – هو مجرد إيحاء، ويستسلم للإيحاءات المضادة التي يصادفها في الحياة. إن الإيمان لا يعني أننا نتقدم بدون صعوبات، ولكن أن نتلقى القوة التي نحتاج إليها لمواصلة السير بالرغم من كل الصعوبات الخارجية والداخلية ونجرؤ على مواجهتها. ولا يوجد شئ أخطر، من وجهة النظر الروحية، أكثر من أن تسمح لنفسك بأن تنخدع بالكلمات المعسولة وتقنع نفسك بأنك وجدت الإجابة الكاملة لكل شئ.
إن هذا الموقف استبعد من إيمان العهد الجديد الذي في واقعيته يستحيل المغالاة في تأكيده. وفي واقعيته هو أكثر قربًا للصورة التي أعطاها أفلاطون عندما يصورنا على أننا منغلقين في كهف مظلم للغاية حتى أن معظم العقول المدركة، مثل عقله، لا تستطيع أن تُبدد ظلمته الغامضة. إننا نرجو دائمًا أن نرى الحقيقة وجهًا لوجه، ولكن كل ما نراه هو ظلال ملقاة على الحائط، لأن النور خلقنا. أننا نرى الحقيقة كما في مرآة كما يقول الرسول بولس. ولا زالت رؤيتنا ناقصة حتى أننا نجادل فيما نعتقد أننا رأيناه. وكل منا يعتقد أن الأفكار التي رآها هي النور الحقيقي.
ومع ذلك، فالحقيقة المدهشة والتي يصعب تصديقها هي أن الظلمة ليست كاملة. فهناك أفكار وظلال تشهد لحقيقة وجود النور. وبالرغم من كل الظلام الموجود وسوء الفهم والأخطاء فإن تلك الأشعة الخافتة هي المهمة في تاريخ حياة الإنسان، كما في تاريخ العالم لأنها تأتي من الله. وكل الذين ساهموا بشيء ذا قيمة للإنسانية، هم أولئك الذين بحثوا بحماسة عن تلك الأضواء التي من الله. وفي ظلام كهفنا، البعض يغلق عينيه، والبعض الآخر يفتحها واسعًا في محاولة لكي يرى بصورة أفضل. البعض يغلق عينيه. وهذا هو الموقف الشكاك، ويقولون "لماذا نهتم ونحاول أن نرى طالما غير متأكدين أننا مخطئين (أو على صواب)؟" إنهم يودون أن يتأكدوا من معرفة الله قبل الاقتراب منه، ويتأكدوا من معرفة إرادته قبل أن يحاولوا إطاعتها. أنهم مثل الطفل الذي سألوه، لماذا لم تذهب للمدرسة؟ أجاب: "لأنني لا أستطيع القراءة". إنهم يريدوا أن يحلوا السر الأبدي للكون من تلقاء ذواتهم قبل أن يذهبوا لخالق الكون ليعرفوا منه. إنهم يريدون حل مشكلة الأخلاق وأن ينتصروا على الشر قبل المجيء إلى الله. ولكن الشر هو الذي أغلق عيونهم.
بول تورنييه
من كتاب: "ولادة جديدة للذات الإنسانية"