"دروس مستفادة من سفر القضاة"
هناك الكثير مما يحزن قلب القارئ في سفر القضاة .. وقد لا يكون هناك سفر آخر في التوراة يشهد بوضوح عن ضعفنا البشرى مثل هذا السفر .. لكن هناك في السفر أيضاً علامات جلية عن الرحمة وطول الأناة الإلهية ..
إن بعض أجزاء العهد القديم تعطينا دافعاً إيجابياً يدفعنا لحياة الصلاح و الكمال سواء عن طريق الأوامر والتعليمات المباشرة أو بالتصوير والإيحاء في حياة أحد رجال الله ... لكن في سفر القضاة نجد الدافع سلبي، فعندما يلاحظ القارئ نتائج ارتداد أمة فهو يتحذر لكنه لا يستعلم، وهذه النتائج ليست علي شكل مبادئ مجردة بل علي شكل أمثلة حية وخاصة في الإصحاحات الخمسة الأخيرة من السفر حيث يستطيع الإنسان أن يسمع صوت الروح القدس المحذر "انتبه لئلا تسقط أنت أيضاً في الإغراء فتلقي نفس المصير". لكن خلف هذا السجل لأمة فقدت محبتها الأولي ورؤيتها وطهارتها .. توجد صورة لا تخطئها العين لإله صالح، حقيقة أن هبوط المستوى في بعض الأحيان قد نسب إلي غياب القيادة الإنسانية الحازمة حين (عمل كل واحد ما حسن في عينيه) إلا أن الكاتب يضع خطاً تحت الحقيقة القائلة: إن البؤس الذي ساد علي الشعب جاء نتيجة هجرهم للإله القدوس. لم تكن خطيتهم شيئاً بسيطاً لكي يتغاضى عنها بسهولة بل كانت إهانة لوجود الله الصالح، ولذلك أفتقدهم الله بالعقاب الصارم المؤلم .. والأمة التي تهجر الرب وتهين وتستهين بقواعده لا يمكن أن تترجي نجاحاً بالمعني الكامل.
وعلي مدى تاريخ إسرائيل الطويل حافظ المؤرخون والأنبياء والشعراء علي وعي عميق بسلطان الرب .. وقد يكون من المستحسن أن نذكر شعب الله في جيلنا المضطرب أن هذا السلطان باق ولم يصبه أي تغيير، فهو ما زال قائماً علي عرشه.
أن دورة (الخطية، ثم العبودية، ثم التضرع، ثم الخلاص) قد تكررت بكثرة في سفر القضاة حتى أوشكت أن تصبح مملة، ويجب أن نحترس في مواجهة هذا الاتجاه (التململ) لأنه يمكن ببساطة أن يعمينا عن حقائق أساسية؛ أولها: الانحراف إلي أسفل للقلب والعقل والإرادة الإنسانية وإحجام الإنسان الغير قابل للشفاء عن التعلم عن طريق الخبرة – إما خبرته الشخصية أو خبرة الأجيال السابقة .. ويستغرب الإنسان كيف يستطيع إسرائيل أن يعمي عن الدروس الواضحة المتكاثرة.. (واستراحت الأرض ..، وعمل بنو اسرائيل الشر في عيني الرب ..، فحمي غضب الرب ..، فذل إسرائيل جداً ..، فضاق بهم الأمر جداً ..، وصرخ بنو اسرائيل إلى الرب ..، وأقام الرب قضاة فخلصوهم من يد ناهبيهم ..، واستراحت الأرض ..، وعند موت القاضي كانوا يرجعون ويفسدون أكثر من آبائهم ..، وهكذا)
والتشديد هنا، في (ص 2: 1- 5) علي العهد المنتهك .. لقد كان الرب أميناً في الوفاء بوعده للآباء .. فلقد أخرجهم من أرض مصر وأدخلهم إلي أرض الموعد، ولا يمكن أن يوجه إلي القدير أي لوم في هذا الموقف أو غيره ــ الذي لم يكن يستطيع أن يتصرف بطريقة لا تتفق مع طبيعته الصالحة. لكن العهد لم يكن غير مشروط فقد كان مطلوباً من إسرائيل أن يقدم الولاء لله مخلصه. وأن يطيعوا أوامره (أن تحب الرب إلهك وتسلك في طرقه وتحفظ وصاياه وفرائضه وأحكامه لكي تحيا وتنمو ويباركك الرب إلهك في الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها (التثنية 30: 16) .. وقد أظهرت الأمة ــ بفشلها في إطاعة هذه الوصايا ـــ أنها غير أمينة لله، ليس لأول مرة ولا لأخر مرة .. وقاست تبعاً لذلك .. وكان شيوع الزواج المختلط مع الكنعانيين قد أدى بالضرورة إلي تعريض عبادة (يهوه) النقية إلي الهوان .. وتدهور الجو الروحي العام. وأعطي التبجيل الخرافي للآلهة المحليين الذين نسب إليهم أنهم يعطون الأرض خصوبتها .. وقد كان مقدراً للكنعانيين أن يختفوا نهائيا كشعب، فقد استوعبتم أمة إسرائيل في داخلها مظهرة بذلك تفوق معدنها ــ لكن خميرة كنعان كانت قد اخترقت كل الأمة نهائياً، ولم يظهر في أي مكان آخر بالسجل المقدس مثل هذه الآثار الرهيبة للاختلاط مع الأمم، كما ظهرت بوضوح في هذا الفصل من تاريخ إسرائيل، فالمطلوب ممن يتبع الرب، الولاء الكامل والطاعة ونبذ مطالب النفعية والأنانية. لكن نعمة الله تظهر بأكثر وضوح في هذا الفصل الحزين من الإحداث .. فهو لم ينبذ الأمة نهائياً بلا رجعة لأنها خانت العهد بل أنه أقام لهم قضاة، وبعدهم أنبياء ليحذروا الأمة ويعيدوها عن ضلالها وخيانتها .. وحتى عندما حل قضاؤه علي الأمة في كوارث أعوام 721 و 587 ق.م فأنه لم يترك أغراضه الفدائية ولكن عن طريق عمله في البقية النقية ــ أعد الطريق للعهد الجديد مختوماً بموت المسيح بعمل داخلي ديناميكي جديد للطاعة النبوية التي أفتقدها التاريخ الإسرائيلي المتذبذب .. وحقا يمكن لإلهنا أن يقول (أنا لن أنقض عهدي معكم قط) .. وبمواجهة بني إسرائيل بخطيتهم (بكوا). "ولكن في ضوء تاريخهم اللاحق يمكن ألا نكون ظالمين إذا نظرنا إلي دموعهم علي أنها ظاهرية .. وبالتأكيد لم يكن هناك دليل علي توبة حقيقية منتظرة .. ولم ينخدع الرب بهذه التعبيرات الخارجية للتوبة لأنه ينظر إلي القلب المنسحق وليس إلي الثياب الممزقة (يوئيل2 : 12ـ 14 ، مز 51: 17).
وعندما صرخت الأمة إلي الرب (ص 2: 16) فأنه في رحمته وطول أناته (أقام لهم قضاة) ليخلصوهم من مضايقيهم لكن نفوذهم هؤلاء الرجال القضاة كان قصير الأمد، فقد كانت ذاكرة الإسرائيليين ضعيفة، وبمجرد أن تنتهي الأزمة سرعان ما ينسون بؤسهم السابق وحالة التوبة المؤقتة التي استدعتها فكانت عودتهم إلي الرب لذلك تعتبر مجرد عمل سطحي. ويمكن أن نرى شيئا مشابهاً لهذا في أيام حياتنا الحالية سواء في حياة الشعب أو في حياتنا الشخصية بصفة خاصة، وكم يبدو سهلاً ويسيراً أن نستخدم الله القدير كنوع من الإسعاف السريع في الأزمات. إن الاعتراف بجميل الرب المخلص لكل من إسرائيل القديم وإسرائيل الروحي حالياً يجب أن يعبر عنه بمسيرة حياة مكرسة له (رومية 12: 1)
وتظهر هذه الآية (ص 2: 19) التدهور المتزايد، فكل دائرة للشر كانت تتميز عن سابقتها بقدر أكبر من السقوط في الارتداد والانحلال، وتوبة أكثر مظهرية من سابقتها. وهذه العملية تتوافق مع مفهومنا الحديث لنفسية الإنسان. وقد تتغير المصطلحات بمرور السنين لكن النظرة العميقة لطبيعة الإنسان التي يقدمها لنا العهد القديم لا يمكن إنكارها. فقد يخرس صوت الضمير نتيجة الخطايا المتتالية، ويمكن أن تصبح التوبة أكثر مظهرية وبذا تتأثر شخصية الإنسان وتتبلد حتى يحتاج الأمر إلي معجزة تؤدى إلي توبة حقيقية وعودة إلى الرب من كل القلب.
مقتطفات من تفسير آرثر كندال
(التفسير الحديث للكتاب المقدس - تندال)