اشعل متحف الشمع
عن خدمة المشورة
تمثال من شمع
كان تمثالاً من شمع.. تراه وتتيقن من تلك الحقيقة الجلية وضوح نور الشمس, ولا يخالجك أدنى شك من مادته وكينونته, فهو شمعٌ, يتخذ شكل تمثال.
كان تمثالاً من شمع, تتغير هيئته كل ثانية, تارةً تراه كرةً شمعيةً تتدحرج على أرض العالم, تبتلع ترابه وفتات شمعه, يؤذيها حجره ويهدهدها رمله, وتارة أخرى تراه هرماً حاداً تثقب قمته ما يقع عليه, وتقطع حافته ما يمر عليها, وتدهس قاعدته ما تقع عليه, أحياناً تجده مخلوقاً مخيفاً يتمحور شكله كالأميبا, وبعض الأحيان تصادفه هادئاً كمحيط, ساكتاً كحجر, خفياً كحرباء.
كان تمثالاً من شمع, واحتك التمثال بالحياة, لفح جبهته قيظ شمس ظهيرة يوليو الحارة, واشتعلت في قدميه كرات من جمر حمم بركانية ثائرة, وهبت رياح متجمدة لتجثم على قلب صدره الوحيد, عجزت عيناه عن رؤية يد عملاقة تمسكه وتلقه في الهواء ليسقط من عل من القشور التي غطت جفنيه, وسقط على الأرض ليتفتت لألف قطعة.. حاول جمع شتات نفسه المحطمة؛ ففشل, زحف على الأرض الصخرية حادة الأطراف؛ فدمي, وقد قابل الهواء الحار جلده ربما لأول مرة في عمره ليشعر بعريه؛ فبكى, وبقايا الشمع على عينيه عاقته حتى من البكاء؛ فانسحق, وفتح فاه ليصرخ؛ فأبى, حيث بقايا الشمع المحيط بفكه أحالت دون فتح فمه من الأساس؛ فاكتئب, ونظر فإذا طريقين, الأول يقود لمصنع متحف الشمع الذي لو زحف نحوه سيعود تمثالاً من جديد من شمع كما كان؛ فجفل, الطريق الآخر يؤدي عند الزحف صوبه لفرنٍ من ألمٍ ناريٍ قادر على إذابة الشمع من حول جسده؛ فزحف..
كان تمثالاً من شمع, والآن لم يعد. في الطريق تمكنت نيران الفرن من إذابة بعض من شمعه جزءاً فجزءٍ, حتى خفت حدة إعاقته, وتسارعت حركة تقدمه, وانزاح الشمع عن فمه؛ فرأى الحياة ولأول مرة بشكل صحيح, ووقع الشمع عن فمه؛ فتكلم لأول مرة بصدق واعٍ دون مبالغة أو مواربة, واستطاع أن يحسن الاستماع لما يقال من حوله وأن يميز أصوات مختلف الأشياء المحيطة به, وتمكن من النهوض والسير باتجاه الفرن, وقد شعر بحركة قدميه لأول مرة بشكل صحيح, ولمسا خفا قدميه اللحميتين الأرض؛ فاستطاع أن يستشعر متعة الإحساس باللمس, وضربا ساعداه الهواء؛ فأحس بنعومة الهواء المحيط بها ودخل أنفه لأول مرة هواءاً نقياً بلا شوائب الشمع, ونظر حوله, وللمرة الأولى رأى الحياة على حقيقتها, عاين ما حوله, ولأول مرة يحسن الرؤية ويرى..
في متحف الشمع
تماثيل الشمع حولي في كل اتجاه, تتعامل بطبقة خارجية من الشمع, سماها لاري كراب الحماية الذاتية, ودعاها دان مونتجمري أساليب الخداع ومقاومة النمو, وأطلق عليها بول تورنيه الذنب الوهمي, وفي حالتنا الآن هي أقنعة تزييف الحقيقة بجدار غير عاقل.
تماثيل الشمع تحتك أقنعتها بعضها البعض, وتحدث شرراً, وتشيع شراً, وتعيث فُجراً, بمأمن عن إنسانها الحقيقي المطمور تحت طبقات الشمع السميكة, وتعيش عمرها تهرب من مأساة آلام إنسانها اللحمي الذي لا يمكنها فهمه إلى آلام مفهومة لطبقتها الشمعية, عن طريق غباء عقلها الجمادي, فتكتب تفاعلاتها السطحية بمداد من دم على أوراق من رمال بيداء لا تنتهي, وتصورها في صور فوتوغرافية تملأ بها العيون, وتسجلها على أشرطة صوتية تشحن بها الآذان, وحتى تصل لرصد حركتها في أفلام سينمائية تحشر بها العقول, فتبني المزيد والمزيد من الشمع على جلدها, وتبتاع المزيد من المنتجات الشمعية, وتنهمك في العديد من الأجهزة الشمعية, وتستمر المهزلة, فتعيش كائنات حية لحمية تنبض روحها حياة, ويسري بجسدها دم, وتشيع نفسها طاقة, كجماد لا إرادة له سوى التكيف مع ما حوله من بيئة ومن حوله من كائنات, والبقاء على قيد الحياة.
تماثيل الشمع تدمي العيون دمعاً من ألمٍ لا يوصف, وتدفعك لتنظر للأرض في ضعف التواضع, ثم تنظر للسماء في قوة فعل الإرادة, وعندما تراشقت الرياح بجلدي اللحمي, وبقت التماثيل الشمعية بلا شعور, وجدتني بانفعال فاق المدى أغمس هراوتين في عمق قلب فرن الألم, وأركض وسط التماثيل مشعلاً في شمعها بشعلة -الهرواة المشتعلة بألم المعرفة- يمناي, وبشعلة –الهرواة المشتعلة بألم المواجهة- يسراي, وتمرنت حتى تمرست؛ فصرت أمسك شعلتين في اليد الواحدة, وتناميت في المهارة حتى أمسكت في اليد الواحدة أربع مشاعل بين أصابع اليد الخمسة, وركضت كجمرة وسط الناس أشعل الشمع, وقد عرفت رسالتي في الحياة بعد أن وضحت.. استخلاص هدف غاية الوجود من الألم, استخراج المعنى من المعاناة. رسالتي إشعال متحف الشمع.
وقع الشمع المنهمر من الناس على جلدي اللحمي؛ فآلمني, ووقع عليّ كلامهم المحمل بالألم الحقيقي لإنسانهم الداخلي الذي أذاني بالأكثر, ثم كان عليّ أن أواجه الشمعيون, أولئك الذين احترفوا صناعة الشمع وطلاؤه على الآخرين وأنفسهم, لكنه ألم نويت احتماله ومعركة قررت خوضها شاكراً سعيداً راضياً فهذا أنا وهذه رسالتي -معركتي- وهذا ألمي -صليبي- والهروب من أن أكون أنا يعني تحولي لشيء.. إذا رأيت شعلة لحمية حمراء متأججة بالطاقة سريعة الحركة توقد في الزيف لتستخرج الحقيقة المخفية تحته, فربما يكون الإنسان ما كان تمثالاً من شمع في متحف الشمع.
عماد ميشيل