اسكت ... انت فيلسوف
و تقربت من هذا الذي يقولون عنه انه سلبي و ليس له رأي واضح..و حين تعمقت علاقتي معه اكتشفت انه انسان مختلف جدا .. فهو مبدع ، يفكر بشكل مختلف، في اغلب المواقف له رأي عميق.. ذو بصيرة داخلية جيدة...
و مع دخولي أكثر معه في عمق علاقة الصداقة.. و دخلت الغرف التي طالما اغلقها كي لا يراها أحد من الناس ، و رأيت كم هي جميلة من الداخل و متقدمة و متطورة .. استفزني هذا الوضع فوجدت نفسي أسأله "اذا، لماذا أنت هكذا.. لماذا من يراك من الخارج يقول عنك سلبي..؟؟ و لماذا تسمح لهم أن يقولوا هذا و تسكت ؟؟ و لماذا لا تريهم هذا الابداع ".. و ما أن سألت هذا السؤال وجدته يحكي لي باستفاضة .. فقال :
" أنا لم أكن من الأطفال الذين تم ايذائهم بالضرب في الصغر .. فتربيت في بيت هادئ الى حد كبير.. لم اسمعهم مرة - أي والدي- يتشاجران.. لم أسمع منهم كلمة مهينة في حقي أو في حق اخوتي في الحقيقة... و هذا شئ أُحسد عليه حتى الان من كل من يرى أبويا و أمي..لكني في الحقيقة كان و مازال لدي رأي آخر.. فأنا أيضا من الأطفال الذين لم يتمتعوا بأي نوع أو قدر من العمق في العلاقة والديه.. فلم يكن لدي هذا التعلق الآمن الذي يُفترض أن يتمتع بع طفل مع والديه..لم أكن اشعر بالانتماء.. فسقط الانتماء، و سقط أيضا هذا التعلق الآمن من قاموس نفسي وعقلي أيضا..
لم يكونوا والدين سيئين .. و لكنهم لم يكونوا موجودين..لم يكن هناك تواصل واضح بيني و بينهم .. فانقطع التواصل و زاد البُعد و بُترت كل وصلة من وصلات التعلق داخلي.. و زاد على ذلك ، أو كما يقولون " القشة التي قسمت ظهر البعير" كانت هذه الكلمة البغيضة..
" أنت فيلسوف"... فهي كانت الكلمة القاطعة و حد السيف الذي كان يقطع كل حوار ، فينتهي بعد دقيقة واحدة من بدايته بكلمة
" انت فيلسوف " .. و يتركوا هذا الطفل الصغير الذي تملأ عقله الأفكار المختلفة و المُبدعة حائرا مع هذه الكلمة .. فكنت أقول لنفسي " بابا و ماما بيقولوا اني فيلسوف .. يبقى أنا فيلسوف ..اخرس بأه .." و لكن داخلي مؤمن أني مختلف .. و هنا فقط و في هذه اللحظة وُلد هذا ال " فيلسوف " داخلي .. فصار يصارعني و يصارع أفكاري في كل وقت .. كنت أصارع ضده لكني لم أقوى على هزيمته أمام قوته و اهتمام والدي به و اطعامه كثيرا حتى صار هذا المسخ ساكنا داخلي .. يأكل و يشرب و يبيت .. يقوم فقط و يتحرك حين يجدني أُفكر بطريقة مختلفة و غير معتادة ..فيقوم فيلسوف في هذا الوقت ليقول " هااا .. هتتفلسف تاني..يابني انت افكارك غريبة .. محدش بيفكر كده " .. وقتها أجد الأفكار تتسرب من عقلي و تنطوي نفسي على نفسها جدا ..و هكذا كلما حاولت التفكير أجدني اخوض هذا الصراع الدامي الذي يطرحني أرضا..فأنعزل أكثر و أتمتع بنفسي مع نفسي فقط.. و العجيب أني لم أفقد الأمل فيها ..فدائما كنت مدرك أني مختلف و لكن الصراع قائم و مُرهق..
و توالت الأيام و أنا أصارع .. أكتفي بأفكاري لنفسي .. لا أتكلم و لا أعرضها على أحد.. صرت أهرب من رأي الناس خوفا من سماع نفس الكلمة مرة أخرى .. الكلمة التي توقظ هذا الوحش الذي أسميته " فيلسوف " داخلي.. فحين يفيق لا يعرف كبيرا أو صغيرا ..يضرب الصالح و الطالح معا داخلي و يتركني في جراحي .. فلماذا أوقظه ؟؟ الطيب أحسن ..!!!..
فماتت الحرية و ماتت الطلاقة و الشفافية ... زادت الاستقلالية و هي شئ جميل .. لكنها استقلالية بدون ظهر ليحميها ،فكانت مرعبة .. ماتت المبادرة و اختبأ الابداع.. لم يمُت بل اختبأ، حتى لا يُنتقد أو يصيبه ما أصاب باقي اخوته..ضعفت الثقة بالنفس .. فكيف لطفل أن يثق في نفسه و هو يسمع هذه الكلمة ترن داخله " اسكت انت فيلسوف ".. تلاشت الحدود أيضا و زادت شحاتة النفس جدا حتى تكسب أي كلمة الا " فيلسوف" ..
أعلمت لماذا رأيت انسانا اخر حين دخلت معي للعمق..أفهمت لماذا أخفي هذه الغرفة و غيرها عن أعين الناس رغم الكنوز التي تحتويها ..؟؟؟ انها هذه الكلمة .. " انت فيلسوف " "
وقتها فقط ادركت أن هناك كلمات نستطيع أن نقتل بها أولادنا...
من أعماق نفس تتغير
