لم يكن المسيح، في الموعظة على الجبل، يعارض الناموس، لكنه كان يعارض (بعض التحويرات) التي أدخلها الكتبة والفريسيون عليه.
يبدو من النظرة الأولى في كل فقرة أن ما قاله المسيح مقتبس من ناموس موسى. وتتكون كل الأمثلة الستة، إما من جزء منه أو أنها تحتوي على جزء منه، فمثلاً: "لا تقتل" (عدد 21)..."لا تزن" (عدد 27)..."من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق" (عدد 31). إلى أن تصل إلى العبارة السادسة والأخيرة: "سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك" (عدد 43). فجزؤها الأول مقتبس من ناموس موسى (لا 19: 18) بدون ذكر "كنفسك"، أما جزؤها الثاني (تبغض عدوك) فلم يرد أبدًا في الناموس، لا في سفر لاويين (19: 18)، ولا في أي مكان آخر من العهد القديم. إذًا، فنحن أمام إضافة للناموس وضعها أحد المفسرين، ولكنه شوه بها الناموس.
لقد رأينا كيف تم تحريف الوصية، فصارت: "تحب قريبك وتبغض عدوك"، وهكذا بُتر جزء من الوصية وأُضيف جزء آخر، فتقلصت في مقاييسها بعد أن حُذف منها "كنفسك"، وهو المقياس الذي يسمو بالمحبة إلى مقاييس سامية. وتقلصت أيضًا في موضوعها بعد إضافة "تبغض عدوك". وهذا تحريف صارخ لا مبرر له، ومع ذلك فقد دافع معلمو الناموس عنه، باعتباره تفسيرًا قانونيًا للوصية، (إن تعبير "تبغض عدوك" مثل الورم الطفيلي أُضيف على ناموس الله، ولا علاقة له على الإطلاق بالناموس) واستندوا في ذلك أن الحديث في (لاويين 10) كان موجَّهًا إلى "كل جماعة بني إسرائيل"، فيكون موضوع الحديث عن واجبات بني إسرائيل نحو آبائهم، وجيرانهم من إخوتهم "لا تبغض أخالك في قلبك.. لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك، بل تحب قريبك كنفسك" (لا 19: 17، 18).
ولقد كان من السهل جدًا على أصحاب الفتاوي الأدبية (سواء بقصد أم بغير قصد) أن يخففوا مطالب مثل هذه الوصية، فيحرفون الحقائق طبقًا لأهوائهم. ففي حديثهم عن من هو هذا "القريب"، قالوا: "هو أحد أبناء شعبي.. شخص يهودي من أقربائي وأنسبائي وعشيرتي، ينتمي لديني وجنسي، فالناموس لم يتكلم عن الغرباء أو الأعداء. ولما كانت الوصية تتكلم عن القريب فقط، فنفهمها ضمنًا أنها تعني كراهية الأعداء، فالعدو ليس قريبًا لي أحبه". لقد فلسفوا سبب هذا التخفيف؛ ليقتنع به من يريد أن يقتنع، لأنه يؤكد على التفريق العنصري. إلا أن مثل هذا الكلام الذي اعتبره معلمو الناموس منطقيًا، كان تجاهلاً لوصايا وردت في بداية ذات الإصحاح، والتي فيها اوصى الله الشعب أن يتركوا ما يتناثر من الحصاد وبقايا عناقيد الكرم للغريب والمسكين "للمسكين والغريب تتركه"، أي للشخص الذي ليس من بني إسرائيل. وفي نهاية الإصحاح، يوصيهم الله ألا يظلموا الغريب المقيم في أرضهم، "كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم، وتحبه كنفسك" (لا 9: 34)، ويقول الرب لموسى: "تكون شريعة واحدة لمولود الأرض وللنزيل النازل بينكم" (خر 12: 49).
غير أنهم أداروا ظهورهم لبعض الوصايا الأخرى التي تنظّم علاقاتهم بأعدائهم، ومنها القول: "إذا صادفت ثور عدوك أو حماره شاردًا ترده إليه. إذا رأيت حمار مبغضك واقعًا تحت حمله وعدلت عن حلّه فلابد أن تحل معه" (خر 23: 4، 5). وهناك وصية أخرى تقول: "لا تنظر حمار أخيك أو ثوره واقعًا في الطريق وتتغافل عنه، بل تقيمه معه لا محالة" (تث 22: 4). فمعاملة حيوان الأخ وحيوان العدو سيان. ولاشك أن معلمي الناموس كانوا يدركون جيدًا تعاليم سفر الأمثال، التي اقتبس منها بولس شرح معنى المحبة الغالبة – لا الشر المنتقم، فقال: "إن جاع عدوك فأطعمه خبزًا، وإن عطش فاسقه ماء" (أم 25: 21 و رو 12: 20).
وعندما ندقق أكثر في بقية التباينات والاختلافات الخمسة اللاحقة سنجد تحريفات مماثلة أدخلها الكتبة والفريسيون ورفضها المسيح.
سمعتم أنه "قيل" (الأعداد 27، 38، 43)، والكلمة "قيل"، هي كلمة (في اللغة اليونانية) التي كان المسيح يستخدمها عن اقتباسه من كلمة الله، فعندما كان يقتبس من العهد القديم كان يستخدم فعلاً مختلفًا (gegraptai) يُترجم "مكتوب"، وليس الفعل (rheo) الذي معناه "قيل". وفي هذه المواضع الستة كان المسيح يناقض – لا كلمة الله المكتوبة التي كانوا "يقرأونها"، بل تقاليد الشيوخ الشفاهية التي كان "القدماء يسمعونها" من الكتبة الذين "يقولونها" في المجامع (قارن مت 12: 3، 5 و19: 4 و21: 16، 42 و22: 31).
إذًا ما الذي كان يفعله الكتبة والفريسيون؟ وما هي الطرق الملتوية (كما وصفها كلفن) التي زيفوا بها الناموس؟
لقد كانوا يحاولون أن يقللوا من تحديات الناموس للناس، وأن يشجعوهم على الحياة الأخلاقية السهلة، بأن ينقضوا إحدى الوصايا الصغرى (عدد 19). لقد وجدوا في التوراة نيرًا ثقيلاً، فأرادوا أن يجعلوا النير هينًا والحمل خفيفًا.. ففعلوا ذلك بطرق مختلفة تعتمد على نوعية الوصية، فقالوا أن هناك وصايا الفروض والنواهي، وهناك المحللات والمسموحات.
والذي فعله الكتبة والفريسيون لتسهيل طاعة الناموس، أنهم حدّوا من وصايا الناموس، وضخموا من مسموحات الناموس، فجعلوا متطلبات الناموس أقل مما هو مكتوب، وجعلوا مسموحات الناموس أكثر مما هو مكتوب. فاختلف المسيح معهم، في أنه أعاد الوضع إلى طبيعته الأصلية، بأن أصر على قبول كل وصايا ناموس الله وطاعتها طاعة غير محدودة. وأصر على قبول الحدود التي وضعها الله لما هو مسموح، بدون أي زيادة.
لقد حدد الكتبة والفريسيون الوصايا الكتابية "لا تقتل" و "لا تزن" و "لا تسرق"، إلى ذات الفعل، لكن المسيح ذهب إلى أبعد من مجرد رفض الفعل ومنع الدافع على الفعل، وهو الغضب، والاشتهاء.
ولقد حصر الكتبة والفريسيون الوصية بعدم الحلف كذبًا على القسم الذي يشمل لفظ الجلالة، وحصروا الوصية بمحبة الأقرباء على بعض الأقارب (الذين يشتركون معهم في الجنس والدين). لكن المسيح قال إن كل الوعود التي يقطعها الإنسان على نفسه ينبغي أن تُحفظ، وإن المحبة يجب أن تشمل كل الناس بدون أي حدود.
ولم يحد الكتبة والفريسيون وصايا الناموس، لتتفق مع قناعاتهم فحسب، لكنهم ذهبوا إلى أكثر من هذا، فبدأوا يمدون مظلة الأمور التي سمح الله بها مدًا بغير حدود، فوسعوا دائرة السماح بالطلاق، وبدلاً من تحديده بخيانة أحد الزوجين، سمحوا به لمجرد رغبة الزوج. ووسعوا دائرة الجزاء لتشمل الانتقام الشخصي، بالإضافة إلى التأديب الذي تحكم به المحاكم. فأكّد المسيح على حدود هذه النصوص في الناموس، وسمى الطلاق خارج حدود هذه النصوص بأنه "زنى"، وركز على عدم الانتقام الشخصي.
جون ستوت
من "تفسير الموعظة على الجبل"