" عندما يكون من اللازم أحتمال الألم فإن قليلا من الشجاعة تفيد أكثر من المعرفة الكثيرة، وقليلا من التعاطف الإنساني أكثر من الشجاعة الكثيرة، وأقل لمحة من محبة الله تفيد أكثر من الكل"
( سي . أس . لويس)
الألم هو كل شعور حقيقي سواء فكري أو نفسي أو جسدي يجعلنا نقف ونفكر بما نحن فيه، وسواء أسأنا استقبال الألم أو أجدنا فهمه، فإنه يجبرنا على التأمل والبحث في حالنا وفي ما نفعل وما نقول وما نفكر وما نريد، بل وجعلنا نعيد ترتيب أولويات حياتنا ونستبعد توافه الأشياء التي نفعلها.
"في بعض الأحيان يدخلنا الله في تدريب الظلام لكي يعلمنا أن نلتفت إليه، وبعد كل فترة ظلمة يأتي إحساس بمزيج من الفرح والحزن. (إذا كان هناك فرح فقط فإني أتساءل عما إذا كنا قد استمعنا إلى صوت الله مطلقا)"[1]
أحيانا، يكون الألم هو ذاك الصوت الصارخ ليعلن وباستمرار عن شيء نحتاجه فعلا أو شيء نظن اننا نحتاجه.
"إن الإنسان بعد السقوط ليست لديه القدرة على تحمل الألم الجسدي والألم النفسي، لذلك فقد اخترع الإنسان طرقا كثيرة لمواجهة "ألم عدم تسديد الاحتياج" منها "الاندفاع" لعمل أي شئ اعتقادا منه أن هذا الشئ سوف يزيل "ألم عدم تسديد الاحتياج". يا للخسارة التي تعود على ذلك الإنسان الذي لا يدرك البركات العظيمة التي يمكن أن تعود عليه وهو يعيش في هذا العالم الساقط، كنتيجة لمروره في بوتقه الألم واحتماله لها. الألم يشكل الإنسان الداخلي و يؤهله لملكوت الله. الإنسان المندفع يهرب من يد الله، ومن ما يستخدمه الله من أدوات ووسائل لتشكيل شخصيته وشخصه. فالألم يعتبر من اهم هذه الأدوات التي يستعملها الله ليشكل شخصية الإنسان."[2]
أعتقد الأن أننا لا نرجع ونهدأ إلا عندما يواجهنا ألم ما، يجعلنا نسترجع أرواحنا الهاربة، ولقد تساءلت أياما كثيرة، لماذا لا يتعامل الله معنا سوى بالألم؟ لماذا يتركنا نتألم؟ لماذا يترك الله بشرًا لا ذنب لهم يعانون سواء من مرض أو من حادث أو من شر الآخرين؟ أو بالأحرى لماذا خلق الله لنا الشعور والإحساس وجعل في أجسادنا مستقبلات عصبية تستقبل الألم، لماذا جعل نفوسنا تشعر بوجع وقهر؟ ويوما ما قلت لله: "لقد أفقدني الألم عذريتي يا ذاك الإله...!!"
وستظل "مشكلة الألم" هي التحدي الذي يواجهني دون أن يتخفى، ويبق أمامي حينها طريقين: إما أن أستفيد من تلك الآلام التي لا مفر منها، و " أمكث مع ألمي"، حسب تعبير الأب هنري نووين[3]، دون ان أهدر وقتي وطاقتي الفكرية في أن أسأل "لماذا؟" ، أو أن أتذمر وأعلن الحرب على الذات الإلهية وأصبح ناقمة على كل شئ وعلى ظروفي وأتقوقع على نفسي وأتلاشى، وسأقتبس هنا من كلمات الأب هنري نوين: " التحدي الحقيقي يكمن في أن تحيا هذه الآلام لا أن تفكر بها فقط. فالبكاء أفضل من القلق، ومعايشة الألم في صمت أفضل من التفكير به والتحدث عنه، فالاختيار الذي يواجهك دائما هو، إما أن تحمل ألامك في رأسك أو تحملها في قلبك."[3]
وعندما بدأت في اكتشاف الحياة على حقيقتها ووجدت ما يفزعني ويفجعني ، حينها فقط بدأت في التساؤل: أهذا هو كل شيء، هل هذا هو ما نشقى لأجله، هل تلك التعاسة هي كل ما نملك، حينها فقط انتهت كل نوبات الهلع التي كانت تهاجمني بضراوة، ولم أبحث عن تلك الحبوب -التي كانت تشفي عرض ولا تشفي مرض- والتي كنت أعتمد عليها وأسرع إليها كلما ساءت حالتي. فقط بدأت أتجرع ألمي وعجزي في سكون، دون أن يدري بي أحد، ودون أن يصدر مني المزيد من الضوضاء، وأخبرت نفسي بأنها هكذا هي الحياة، مريضة مرعبة قاسية غامضة مشوهة بشعة ولكن علىّ أن احياها...!!
وبعد أن نكتسب بعدا أخر من النضوج النفسي والفكري، يذهب الألم إلى ما هو أبعد من كونه مشاعر سلبية مزعجة تنتابنا رغما عنا بين حين وأخر ليصبح الألم هو " ملح الحياة" ، فيكفينا أننا نتألم لندرك أننا على قيد الحياة. وإذا أعتقدنا أننا نستطيع ان نتخلص من آلامنا، أو أنه باختيارنا نتركها او نهملها، فإننا واهمون، بل وإذا أعتقدنا أننا فقط نحتاج إلى نسيان ألمنا فكثيرا ما كررت تلك العبارة : لو أستطيع فقط أن أنسى، أو أحيانا أخبر نفسي بأنه على أن أفقد ذاكرتي وأمتلك ذاكرة جديدة تماما حتى أقدر على مواصلة حياتي، ولكن هذا أيضا وهم، فقط علينا أن نلاحظ كم الضياع الذي يكون عليه مريض فاقد ذاكرته أو مصاب بالألزهايمر ولا يتذكر أي شئ عن ماضيه، أحزانه وأفراحه...!!
" حجم المعاناة الإنسانية مسألة نسبية تماما، فالمعاناة تغمر الروح الإنسانية كلها والعقل الواعي بأكمله بصرف النظر عما إذا كانت المعاناة كبيرة أو صغيرة، وإذا كان هناك معنى في الحياة بصفة عامة، فإنه بالتالي ينبغي أن يكون هناك معنى للآلام والمعاناة، فهما جزء من الحياة ويتعذر الخلاص منهما، وإن الطريقة التي يتقبل بها الإنسان قدره وكل ما يحمله له من معاناة تهيئ له فرصة عظيمة حتى في أحلك الظروف لكي يضيف إلى حياته معنى أعمق."[4]
فكيف يتحقق ذاك المعنى؟؟
علينا أن نُقلع عن تلك الـ [لماذا] ونبدأ في تطبيق ال [كيف] ، فقط كيف نوجد للحياة معني وهدف ورسالة تفيد ولو على الأقل شخصًا واحدًا فقط آخر، لأن ببساطة الألم لم ولن يفارقنا، فالألم موجود _ أي أنه ليس فكرة أو وهم_ ، بل وأنه لا وجود للحياة بدونه، ليس علينا فقط ان نستسلم في يأس لتلك الآلام التي تواجهنا وإلا بذلك لن يكون لمعاناتنا أي معني أو قيمة، بل علينا أن نحترم ألمنا ونحترم أننا نتألم لنخرج بذاك الألم لبشر هم أيضا يتألمون أيضا، يتألمون ولكنهم لا يحترمون آلامهم ولا يستفيدون منها ، يتألمون ألم حقيقي إلا أنهم لا يعلمون إذا كان ألمهم هذا أصيلًا أم لا ... فاحترام الألم واستثماره ثقافة لا يفهمها الكثيرين، وقد لا يفهمها أعظم المتعلمين، يفهمها فقط من مر بألم حقيقي عميق وتصالح معه وأجاد استقباله والاحتفاء به والاستفادة منه ، وإذا فعل الإنسان هذا الأمر مرة واحدة في حياته_ أي أن يحتضن ألامه ويحترمها ويسمو بذاته عنها ويجد معنى لها_ فهو قد تعلم الدرس لباقي حياته.
سأختم بنلك الكلمات:
" سنظل دائما نتألم...
نئن، نستجدي، نتمنى الرحيل...
سنحلم دوما بتلك الحياة التي لا مكان فيها للألم، لكن هيهات...
سنظل نعاني من ذلك الحب الذي لم نحصل عليه يوما ما،
سنعيش رغما عنا، وفي داخلنا ذاك الحنين لحضن أم غائبة...
نفتح أعيننا الذابلة، كل يوم، على أمل أن يفاجئنا اندمال جرح قديم من الترك والقهر والتحقير والمشقة.
سنظل نحمل بذلك الحبيب، الذي ورغم كل شئ، تركنا...
نفتح أعيننا في يوم أخر ونتذكر أننا عُميّ لا نبصر...
ونظل،
نتذكر الألم،
لنتألم،
ونتذكر فنتألم...
أو نختار ان نفقد الذاكرة،
ونعيش بلا معنى...!!"
مريم ميلاد
المراجع :
-1- تشيمبرز، أوزوالد _ أقصي ما عندي لمجد العلي-2004.
-2- فوزي، د.سامي _ الحياة المسيحية؛ حياة البرية والآلام مع المسيح_ 2011.
-3- نوين، الأب هنري_ صوت الحب الداخلي_ 2009.
-4- فرانكل، د.فيكتور _ الإنسان يبحث عن معنى_ دار القلم، الكويت.