لقد رأينا أنه كي يصير المرء إنساناً عليه أن يمر عبر عدة مراحل من تطور وعيه بذاته. أولها هي مرحلة البراءة لدى الرضيع قبل ميلاد الوعي بالذات، وثاني تلك الأطوار هو طور التمرد عندما يحاول المرء أن يتحرر ويحقق بعض من القوة الداخلية في ذاته. ونحن نري هذه المرحلة بوضوح عند الطفل في الثانية أو الثالثة من عمره أو عند المراهق، حيث التمرد بشكل أو بآخر هو انتقال ضروري فيه يقطع المرء الروابط القديمة ليصنع أخرى جديدة. والمرحلة الثالثة ويمكننا أن نسميها الوعي الاعتيادي بالذات، حيث فيها يستطيع المرء أن يرى أخطاءه بشكل ماهر ويتقبل تحيزاته، ويستخدم قلقه وأحاسيسه بالذنب كخبرات يتعلم منها، ويتخذ قراراته بطريقة مسئولة. وهذا هو ما يعنيه معظم الناس عندما يتكلمون عن حالة الشخصية السوية الصحيحة.
بيد أن ثمة طور رابع من أطوار الوعي بالذات يُصطلح على تسميته بالحالة الاستثنائية أو المرحلة الاستثنائية الخارقة أو غير الاعتيادية. فهي استثنائية لأنها قلما يمر بها أناس كثيرون كخبرة نافعة في الحياة. وهذه المرحلة تظهر أوضح ما يكون عندما يلتقط المرء تبصراً مفاجئاً بمشكلة معينة – يلتقطها على حين غرة، فتبدو له في ظاهرها كومضة وكأنها آتية من مكان مجهول، فكأنها تأتي جواباً على سؤال كان المرء منذ أمد يكد ويسعى من أجل العثور عليه. والجواب يبزغ مما نسميه حالياً باسم المستويات قيشعورية في الشخصية subconscious. وإن شعوراً كهذا يمكن أن يحدث في النشاط العلمي أو الروحي أو الفني على حد سواء. ويُعبر عنه بالمفهوم الشائع بـ "بزوغ الأفكار" أو "الإلهام" علي حسب المصطلح الذي يستخدمه المرء. وهذا المستوى من الشعور متوفر في جميع الأعمال الإبداعية. ويتأتى على صورة استبصارات وامضة، وقد يأتي عن طريق الأحلام، أو في لحظة من لحظات التأمل أو التفكير الحالم حينما يستغرق المرء في التفكير في شئ ما.
كيف نسمى هذا المستوى من الوعي؟ أيسمى شعوراً موضوعياً بالذات، كما يُصطلح عليه أحياناً في بعض مناهج التفكير الشرقية لما يوفره من ومضات خاطفة تنفذ نوعاً ما إلى الحقيقة الموضوعية؟ أم ندعوه "الوعي الفائق للذات" كما قد يسميه نيتشه؟ أم نسميه "الوعي المتجاوز للذات" كما في التقليد الروحي الأخلاقي؟ المشكلة أن كل هذه المصطلحات قد تضللنا كما قد توضح لنا في نفس الوقت. وأنا هنا أقترح استخدام مصطلحاً أقل درامية ولكن أكثر ملائمة لمتطلبات العصر الحديث، ألا وهو "الوعي الإبداعي بالذات" .
إن المصطلح النفسي الكلاسيكي لهذا المستوى من الوعي هو "النشوة / الوجد" والكلمة الإنجليزية Ecstasy تأتي من الأصل الذي يعني حرفياً الوقوف خارج ذات المرء. أي أن نلمح أو نمر بخبرة شيء ما من منظور خارج عن وجهة نظر المرء الاعتيادية التقليدية المحدودة. فعادة ما يري المرء الأشياء في العالم الموضوعي المحيط به بشكل مشوه إلي حد ما، وما هذا التشويه إلا نتيجة لواقع أنه يرى الأشياء بشكل ذاتي. فنحن كبشر نري الأمور من خلال أعيننا الذاتية، وكل منا يفسر ما يراه عبر عالمه الخاص. ولذا نحن نحيا دائما في فصام مستمر ما بين الذاتية والموضوعية. ويأتي هذا المستوى الرابع من الوعي فيما فوق هذا الفصام القائم بين الذاتية والموضوعية. ولفترة مؤقتة نستطيع أن نتسامى بالحدود المعتادة للوعي بالذات. يحدث هذا عبر الحدس أو الإلهام أو غيرها من العمليات التي لا نفهمها تماماً، وكلها عمليات تمثل جزءاً من العملية الإبداعية، وعبرها قد نحصل علي لمحات من الحقيقة الموضوعية كما هي فعلاً في الحقيقة، أو نستشعر إمكانية أدبية جديدة مثل اختبار محبة غير أنانية مثلاً.
وهذا هو ما مر به أورست، في رواية روبنسن جيفرز، عندما كان يفكر وهو يهيم في الغابة بعد أن فعل ما فعل لتنمو ذاته خارج قوقعتها:
... لم يبتكروا له المفردات بعد ،
إنه فيما وراء الأشياء، إنه عبر الزمان والمكان،
إنه في كل الأشياء، إنه في كل الأزمان ...
لكي أعبر عن الروعة التي وجدتها فمن أين لي البيان،
لا لون له بل هو سطوع؛
ليس برحيق هو بل نشوة صافية؛
لا رغبة هو بل اكتمال؛
لا غرام هو بل سلام.
ودعونا نؤكد، خشية أن تؤدى لغة جفرز الشعرية إلى أن يتوه القارىء، أن ما يعنيه أورست يمكننا أن نضعه بوضوح باستخدام مصطلحات نفسية. إنها مجرد طور جديد في حقيقة أنه صار قادراً علي تجاوز النزعة الموجودة في رجال مسيينا (مدينته) أن لا يروا في أعين الآخرين إلا أنفسهم "الجميع منكفئون على ذواتهم"، كل مشغول بحماية تحيزاته ومصالحه الصغيرة ويسمون هذا في خداعهم ولؤمهم بالـ "الحقيقة". أن نكون منفتحين على الخارج يعني أن نخترق بالخيال ونتجاوز وراء معرفتنا في اللحظة التي نحن فيها. وهذا ليس نزعة عاطفية غير علمية أن نشير إلي ما أشار إليه نيتشه وكل فلاسفة الأخلاق الآخرين وهو أن المرء يتسامى بذاته في خضم عملية معرفة ذاته وتحقيقها. وهذا ببساطة ليس إلا أحد الجوانب الأساسية في الإنسان النامي السوي السليم فهو من لحظة لأخرى يوسع إدراكه بذاته وبالعالم المحيط أيضاً. فـ "الحياة منهمكة في دوام ذاتها وفي تجاوز ذاتها في آن واحد" كما تقول سيمون دي بوفوار الكاتبة الفرنسية الوجودية الشهيرة، وتستطرد، في كتابها عن الأخلاق "إن الحياة تمضي في اتجاه تحقيق الذات وتجاوزها، فلو تصر فقط علي حفظ الذات، لصارت الحياة فقط مجرد عدم الموت، ولما استطعنا تمييز الوجود الإنساني عن مجرد نبات عبثي".
هذا الوعي الإبداعي بالذات هو طور يحققه معظمنا في لحظات نادرة، ولا يحيا أي منا سوى القديسين والأبرار، سواء العلمانيين أو المتدينين، ورموز الإبداع العظيمة في هذا المستوي معظم حياته. بيد أنه المستوي الذي يعطي المعنى لأفعالنا وخبراتنا في المستويات الأخرى الأقل. الكثير من الناس قد مروا بهذا المستوى في لحظات خاصة، مثلاً عندما نستمع للموسيقي أو عند اختبار خبرة جديدة للحب أو الصداقة تأخذنا مؤقتا خارج روتين وأسوار حياتنا المعتادة، كما لو أن المرء يحيا للحظة علي قمة جبل وينظر لحياته من هذا المنظور الواسع غير المحدود. حيث يأخذ المرء إحساسه بالاتجاه من هذا المنظور وهذه الرؤية من أعلى الجبل، وعبر هذا الإحساس يرسم تخطيطاً لحياته يهديه طوال أسابيع من الصبر والانتظار وارتقاء التلال المحيطة به حيث المجهود ممل والإلهام غير موجود، بل روتين معتاد. لأن واقعة أننا في لحظات معينة استطعنا أن نري الحقيقة بلا تشويه من تحيزاتنا، واستطعنا أن نحب أشخاص آخرين بلا مطالب ذاتية، وأن نبدع عبر النشوة التي تأتينا عندما نستغرق كلية فيما نفعل – واقعة أننا حظينا بمثل لحظات الكشف هذه إنما تعطينا أساساً من المعني والاتجاه لكل الأفعال التي نقوم بها فيما بعد.
هذا المستوي الرابع هو ما تعنيه تلك العبارات التي نجدها في الكتاب المقدس حينما يتحدث عن أن يفقد المرء حياته في سبيل ما يؤمن به من قيم. ومن ثم فتلك حقيقة لا مراء فيها أن ثمة نوع من نسيان الذات عند هذا المستوى من الوعي. لكن كلمة نسيان الذات هي كلمة جد بائسة، بمعني آخر هذا الوعي هو أكثر حالات تحقق الوجود البشرى.
رولو ماي
من كتاب: "بحث الإنسان عن نفسه"